عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج، والذي سوف نتحدث في هذه الحلقة إن شاء الله عن موضوعٍ مهم وهو عقد الاستصناع، وهو من العقود المعروفة من قديم الزمان، ولكن قد برزت الحاجة إليه في الوقت الحاضر؛ بسبب ما يرى من ثورة وتقدمٌ صناعي كبير في شتى المجالات، ولذلك فإننا سنخصص هذه الحلقة للكلام عن مسائله وأحكامه.
نظرة المذاهب الفقهية للاستصناع
- جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة تكلموا عنه في ثنايا كلامهم عن السَّلَم، واشترطوا له شروط السلم، والتي سبق الكلام عنها مفصلًا في حلقة سابقة، وصرّحوا بعدم جوازه وصحته إذا لم تتوفر فيه شروط السلم، والتي من أبرزها شرط تعجيل الثمن، فلا بد من أن يعجِّل المستصنع الثمن للصانع قبل الاستصناع.
- وأما الحنفية فقد اعتبروا الاستصناع عقدًا ونوعًا من البيع، متميزًا بأحكامه وشروطه.
هذه لمحة موجزة عن نظرة المذاهب الفقهية للاستصناع، وسيأتي مزيد بيانٍ وإيضاح لها إن شاء الله عند الكلام عن حكم الاستصناع؛ وبعد ذلك ننتقل لبيان حقيقة الاستصناع وماذا يراد به؟ فنقول:
تعريف الاستصناع
الاستصناع في لغة العرب معناه: طلب صناعة الشيء، واستصنع الشيء، أي: دعا إلى صنعه، والصناعة: هي حرفة الصانع وعملُهُ الصَنْعة.
ومعنى الاستصناع في اصطلاح الفقهاء: أن يطلب إنسانٌ من آخر شيئًا لم يصنّع بعد ليصنع له طِبق مواصفات محددة بموادٍ من عند الصانع، مقابل عوضٍ محدد، ويقبل الصانع بذلك.
ويلاحظ من هذا التعريف: أن العقد إنما يقع على شراء ما سيصنعه له الصانع، وتكون العين والعمل من الصانع.
أما إذا كانت العين من المستصنع لا من الصانع فإن العقد في الحقيقة يكون إجارة لا استصناعًا، كأن يحضر للخياط قماشًا ويطلب منه أن يفصّله ويخيطه مقابل أجرٍ معلوم، فهذا في الحقيقة إجارة وليس استصناعًا، أما إذا كان القماش من عند ذلك الخياط فيصدق عليه أنه استصناع.
ومثل ذلك: رجلٌ طلب من مقاول البناء أن يبني له بيتًا بمواصفات معينة، والمواد على حساب ذلك المقاول، فهذا يصدق عليه أنه استصناع، أما إذا كانت المواد على حساب طالب البناء وليست على حساب المقاول فليس هذا باستصناع وإنما هو إجارة.
حكم الاستصناع
الاستصناع بالمعنى الذي ذكرناه يمنع منه جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، إلا إذا تحققت فيه جميع شروط السلم، ومنها تقديم الثمن الذي هو رأس المال في مجلس العقد؛ فإنه يصح عندهم ويُعتبر سلمًا، ويسميه بعضهم السلم في الصناعات.
وذهب الحنفية إلى جواز الاستصناع بالمعنى الذي ذكرناه، وأنه عقدٌ مستقلٌ متميزٌ عن السلم بمسائله وأحكامه.
وقول الحنفية في هذا هو الراجح في هذه المسألة -والله تعالى أعلم-، وعليه عمل المسلمين من قديم الزمان إلى وقتنا هذا، قال بعض أهل العلم: يشبه أن يكون هذا إجماعًا عمليًّا من المسلمين على جواز الاستصناع.
أدلة جواز الاستصناع
وقد استُدِل للقول بجواز الاستصناع بأدلة نوجزها في الآتي:
ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: “أن النبي اصطنع خاتمًا من ذهب، وجعل فصّه في بطن كفِّه إذا لبسه، فاصطنع الناس خواتيم من ذهب، فرقى المنبر فحمِد الله وأثنى عليه فقال: إني كنت اصطنعته وإني لا ألبسه، فنبذه فنبذ الناس” [1].
ويدل لذلك أيضًا ما أشرنا إليه من الإجماع العملي من المسلمين من عهد رسول الله إلى وقتنا هذا بلا نكير، وللحاجة الماسة إليه خاصة في وقتنا الحاضر، الذي أصبح الحصول فيه على كثيرٍ من السلع إنما يتم عن طريق الاستصناع.
وفي القول بمنع الاستصناع حرجٌ كبير على الأمة، وقد قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
والقول بإباحة الاستصناع يتفق مع الأصول والقواعد الشرعية القاضية بالتيسير على المكلّفين ورفع الحرج عنهم، خاصة وأنه ليس هناك دليلٌ صحيحٌ صريحٌ يمنع منه.
وقد أباحت الشريعة السلَم مع أنه بيع معدوم؛ وذلك لحاجة عموم الناس إليه، وما فيه من الغرر يُغتفر بجانب المصالح الكبيرة المترتبة عليه.
وأباحت الشريعة كذلك بيع العرايا، مع أنه بيع رطبٍ بتمر والأصل فيه المنع.. وكل ذلك من أجل التوسعة والتيسير على المكلّفين ورفع الحرج عنهم، والاستصناع من هذا الباب خاصة.
وأن الأصل في باب المعاملات هو الحل والإباحة إلا بدليلٍ ظاهر يقتضي المنع.
شروط عقد الاستصناع
يُشترط في عقد الاستصناع: تحديد مواصفات الشيء المطلوب صناعته تحديدًا وافيًا يمنع من التنازع عند التسليم؛ وذلك بذكر الصفات التي يختلف بها الثمن، فيُذكَر: جنس المستصنع، ونوعه، وقدره، وأوصافه المطلوبة.
وهذا شرطٌ من شروط صحة السلم كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في حلقة سابقة، وهو كذلك شرطٌ في الاستصناع، بل ربما يكون اشتراطه في الاستصناع آكد؛ لأن إجراء عقد الاستصناع مع عدم الاتفاق على تحديد مواصفات المستصنع في ذلك مظِنَّةٌ للتنازع بين الطرفين.
ويُشترط كذلك في عقد الاستصناع: تحديد الأجل؛ وذلك قطعًا للنزاع.
ولا يُشترط في عقد الاستصناع تعجيل الثمن، بل يجوز تعجيله، ويجوز تأخيره إلى وقت القبض أو بعده، ويجوز تقسيطه؛ بخلاف السلم الذي يُشترط لصحته تعجيل الثمن كله.
حكم تضمين عقد الاستصناع شرطًا جزائيًّا
يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًّا بالنسبة للصانع، إذا لم ينفّذ ما التزم به أو تأخر في تنفيذه.
مثال ذلك: رجلٌ اتفق مع مقاولٍ على أن يبني له بيتًا بمبلغ معيّن في مدة لا تزيد على سنة، وشرط عليه شرطًا جزائيًّا بأنه إن تأخر في بناء ذلك البيت بعد تلك المدة فإنه يخصم عليه مائة ريال مثلًا عن كل يوم تأخير، فلا بأس بذلك إذا حصل التراضي بين الطرفين على ذلك، ما لم تكن هناك ظروفٌ قاهرة حالت بين ذلك المقاول وبين تنفيذ بناء ذلك البيت، كمرضه مثلًا ونحو ذلك.
قرار مجمع الفقه الإسلامي عن عقد الاستصناع
أختم الكلام في هذه الحلقة بنقل قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي الذي بحث موضوع عقد الاستصناع بحثًا مستفيضًا في دورة مؤتمره السابع، وأصدر بشأنه القرار الآتي:
- أولًا: أن عقد الاستصناع -وهو عقد وارد على العمل والعين في الذمة- ملزمٌ للطرفين إذا توفرت فيه الأركان والشروط.
- ثانيًا: يشترط في عقد الاستصناع ما يلي:
- بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة.
- أن يُحدد فيه الأجل.
- ثالثًا: يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة.
- رابعًا: يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان، ما لم تكن هناك ظروف قاهرة.
ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، وإلى حلقة قادمة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 5876. |
---|