الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله وخليله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كنا قد تكلمنا في حلقات سابقة عن ربا البيوع، وذكرنا كلام أهل العلم في ذلك النوع من الربا، ونتكلم في هذه الحلقة عن ربا الديون، وهذا الربا هو الذي كانت تعرفه العرب في جاهليتها، وهو المراد في قول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130].
صور ربا الديون
وله عند العرب صورتان:
- الصورة الأولى: الزيادة على أصل الدين عند حلول أجل الوفاء، وتأجيله مدة أخرى للعجز عن الوفاء، فعندما يحل الدين يأتي الدائنُ المدينَ فيقول له: إما أن تقضي، وإما أن تُربي، فإن قضاه الدَّين وإلا أجّل له الدين مقابل دفع زيادة نظير التأجيل.
قال عطاء رحمه الله: “كانت ثقيف تداين بني المغيرة في الجاهلية، فإذا حل الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخرون، فنزلت: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]”.
وقال قتادة: “إن ربا الجاهلية أن يبيع الرجل المبيع إلى أجلٍ مسمى، فإذا حلّ الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخّر عنه”.
- الصورة الثانية لربا الجاهلية: الزيادة على دين القرض عند العقد ابتداءً، قال أبو بكر الجصاص رحمه الله: “الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجلٍ بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به”؛ هذا هو المتعارف المشهور بينهم؛ ولذلك قال الله تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم:39].
وقال الفخر الرازي في تفسيره: “إنّ ربا النسيئة هو الذي كان مشهورًا متعارفًا في الجاهلية؛ وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهرٍ قدرًا معينًا، ويكون رأس المال باقيًا، ثم إذا حلّ الدين طالبوا المدين برأس المال، فإن تعذّر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا يتعاملون به”.
أيها الإخوة المستمعون:
هاتان الصورتان لربا الجاهلية موجودتان بعينهما اليوم في كثير من البنوك والمؤسسات المالية في العالم، وتسمي ما تأخذه على الديون من ربا تسميه بالفوائد، وتسمية الربا بالفائدة لا يغيّر طبيعته ولا حكمه من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، فالحرام حرامٌ مهما تغيّر اسمه.
ويذكر بعض المعاصرين أن الربا الذي تمارسه كثيرٌ من البنوك والمؤسسات المالية في الوقت الحاضر أنه أسوأ من ربا الجاهلية؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يقرضون نقودًا فعلية، وهي الدنانير الذهبية والدراهم الفضية، وأما البنوك فإنها تقرض ما لديها من ودائع للآخرين، وتأخذ عليها فوائد ربوية، ثم إنّ أهل الجاهلية كانوا يأخذون الفوائد في نهاية المدة، أو مقسّطة على أقساطٍ شهرية، وأما البنوك فإنها تحسب الفائدة وتخصمها من البداية قبل أن يأخذ المقترض القرض.
فمثلًا إقراض مائة ألف بفائدة عشرين في المائة -على سبيل المثال-، يخصم البنك الفائدة أولًا ويعطي المقترض ثمانين ألفًا فقط، فالواقع أنه لم يقرضه إلا ثمانين بفائدة عشرين، أيْ: أن الفائدة في الواقع هي خمسٌ وعشرون في المائة، فالبنك من الناحية العملية يأخذ أكبر من النسبة المعلنة.
نظرة الإسلام إلى القرض
إن نظرة الإسلام إلى القرض تختلف كلية عن نظرة كثير من البنوك والمؤسسات المالية في الوقت الحاضر، أو ما يسمى بالنظام الاقتصادي العالمي، فالإسلام ينظر للقرض على أنه عقدٌ من عقود الإرفاق والإحسان والتكافل بين الناس؛ ولذلك حرّم انتفاع المقرض بالقرض؛ لأن هذا الانتفاع يخرج بالقرض عن موضوعه الأصلي، وهو الإرفاق والإحسان، ويصبح يراد به المعاوضة والربح، والنظام الاقتصادي العالمي في الوقت الحاضر ينظر للقرض على أنه وسيلة من وسائل الاستثمار، وتحقيق الربحية؛ ولذلك فإن الإقراض بفائدة يعتبر من أبرز أعمال البنوك في الوقت الحاضر.
حكم القرض بالفائدة
إن القرض بفائدة من صور ربا الجاهلية كما سبق، وقد أجمع العلماء على تحريمه، وقد حكى الإجماع على ذلك: ابن المنذر، والموفق ابن قدامة، والقرطبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم رحمة الله تعالى على الجميع.
وفي الوقت الحاضر أصدرت كثيرٌ من الهيئات العلمية والمجامع الفقهية قرارات على تحريم القرض بفائدة، أذكر منها على سبيل المثال قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني، وجاء في القرار أن المجمع قرّر:
- أولًا: أن كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حل أجله، وعجَز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة -أو الفائدة- على القرض منذ بداية العقد، هاتان الصورتان ربًا محرم شرعًا.
- ثانيًا: أن البديل الذي يضمن السيولة المالية والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التي يرتضيها الإسلام، هو التعامل وفقًا للأحكام الشرعية.
صور القرض بفوائد ربوية
وبعد أن تقرّر تحريم الإقراض والاقتراض بفوائد ربوية نذكر صورًا للتعاملات المصرفية لهذا الإقراض:
- فمن أشهر الصور: صورة الإقراض المباشر بفائدة؛ وهذه الصورة سبق أن نقلنا الإجماع على تحريمها.
- ومنها: تعجيل راتب الموظف قبل حلوله، نظير أخذ عمولة على ذلك.
مثال ذلك: هذا موظفٌ راتبه ألفا ريال، يحلُّ في الخامس والعشرين من الشهر، فيذهب هذا الموظف إلى مؤسسة مالية لتعجِّل له صرف راتبه في منتصف الشهر؛ نظير اقتطاع تلك المؤسسة عمولة من راتبه على ذلك، فهذا في الحقيقة ما هو إلا قرضٌ بفائدة، فكأن هذه المؤسسة قد أقرضت هذا الموظف ما يعادل راتبه نظير فائدة وهي ما تسمى بالعمولة.
- ومن صور القرض بفائدة: خصم الأوراق التجارية، كأن يأتي حامل الكمبيالة التي لا تحل إلا بعد أجل إلى بنكٍ من البنوك، ويطلب منه تعجيل صرف قيمتها مخصومًا منه مبلغًا معينًا، فهذه العملية ما هي إلا قرضٌ بفائدة، فكأن البنك قد أقرض حامل الورقة التجارية، كأنه قد أقرضه قيمتها إلى حين حلول ميعاد استحقاقها بفائدة، وهي المبلغ المخصوم من قيمة الورقة.
- ومن صور الربا في الديون: وضع شرطٍ جزائي على الدين، كأن يشترط الدائن على المدين بأنه إن لم يسدد في الوقت المحدد، فإنه سيأخذ عليه مبلغًا ماليًا مقابل التأخّر عن السداد.
وهذا في الحقيقة هو نظير ربا الجاهلية الذي سبق أن تكلمنا عنه، والذي يقول فيه الدائن للمدين عند حلول الدين: إما أن تقضي، وإما أن تربي.
ويدخل في هذا ما تفعله بعض البنوك اليوم في بطاقات الائتمان، كبطاقة الفيزا والماستر كارد ونحوها؛ حيث يشترطون على حامل البطاقة دفع فوائد ربوية إذا لم يسدد خلال فترة السماح المجانية، فهذا هو نظير ربا الجاهلية الذي يقول فيه الدائن للمدين عند حلول الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي.
ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، وإلى حلقة قادمة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.