logo
الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(17) الحكمة من تحريم الربا

(17) الحكمة من تحريم الربا

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بعض وجوه الحكمة من تحريم الربا

كنا -أيها الإخوة- قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن الربا، وذكرنا بعض النصوص الواردة في شأن الربا، وأنه من أعظم الذنوب، ومن السبع الموبقات.

وقبل أن ندخل في مسائل وأحكام الربا يحسن بنا أن نتكلم عن بعض وجوه الحكمة من تحريم الربا، فلعلنا نخصص هذه الحلقة للكلام عن ذلك، ثم نبدأ في الحلقة القادمة إن شاء الله في الكلام عن أحكام ومسائل الربا.

فنقول: مما ذكره العلماء من وجوه الحكمة في تحريم الربا:

الضرر العظيم الذي يحصل للفرد والمجتمع من جراء الربا، فهو يخلُّ بنظام المجتمع، ويقسّم الناس إلى طبقتين: طبقةٌ غنيةٌ، تزداد غنى، وطبقةٌ فقيرةٌ تزداد فقرًا.

ويمكن إجمال بعض ما ذكره العلماء من وجوه الحكمة من تحريم الربا فيما يأتي:

  • أولًا: يتضمن الربا ظلمًا واضحًا خاصة في باب الربا في الديون وربا القرض، ففيه أخذ مالٍ من غير عوض؛ لأن من يبيع درهمًا بدرهمين إلى أجل يحصل له زيادة درهم من غير عوض ولا جهدٍ ولا عمل ولا تعرّضٍ لربح وخسارة، وإنما يعيش على كد وسعي الآخرين، فهو يشارك الزارع في زرعه، والصانع في مصنعه، والعامل في معمله، والتاجر في مكسبه، من غير أن يقوم هو بأي عمل، وإنما تأتيه أرباحه وهو آمنٌ في بيته، بينما غيره كادحٌ وجِلٌ يخشى الخسارة في عمله وماله.
    وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحكمة حيث سمى المرابي ظالمًا يقول الله ​​​​​​​: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279].
  • ثانيًا: أنه يربي الإنسان على الكسل والخمول، والابتعاد عن الاشتغال بالمكاسب النافعة، والسعي في الأرض بالزراعة أو الصناعة أو التجارة؛ لأن الإنسان إذا رأى أنه إذا أودع نقوده في مصرفٍ من المصارف حصل على فائدة ثابتة مضمونة، فعل ذلك وأخلد إلى الراحة والكسل، وبهذا تتعطل مواهب الأمة، وتخسر الأمة أيادي كانت بوسعها واستطاعتها أن تسعد نفسها وتسعد غيرها، بدلًا من إسعاد نفسها على مضرّة الآخرين.
    يقول الإمام الفخر الرازي: “قال بعضهم: الله تعالى إنما حرّم الربا من حيث إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب؛ وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكّن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدراهم الزائدة نقدًا كان أو نسيئة، خفّ عليه اكتساب المعيشة، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة”.
  • ثالثًا: أن الربا يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس، وإلى سدِّ باب التعاون والإحسان والمواساة، ويؤدي إلى تكدُّس الأموال بأيدي نفرٍ قليل من المرابين، فالغني يزداد غنىً، والفقير يزداد فقرًا، وينقسم المجتمع إلى طبقتين: طبقة الأغنياء المتخمين، وطبقة الفقراء المعدمين؛ مما يورث العداوة والبغضاء بين طبقات المجتمع.
    ولذلك لا تكاد توجد آية من آيات التحذير من الربا إلا وقبلها أو بعدها آيةٌ أو آيات تحضُّ على الصدقة وعلى البذل والإنفاق، وعدم استغلال حاجة الفقراء والمعسرين، حتى لا يكون المال دولةً بين الأغنياء، وحتى لا يستغل القوي الضعيف، ولا الغني الفقير، وحتى لا تكون حياة الناس حياةً ماديّة بحتة، لا همّ للغني فيها إلا تكديس الثروة، وامتصاص أموال الفقراء والمساكين.
  • رابعًا: الربا من أسباب انتشار البطالة وفشوها في المجتمع؛ وذلك لأن أصحاب الأموال يفضّلون إقراض أموالهم بالربا على استثمارها في إقامة مشروعات صناعية أو زراعية أو تجارية، وهذا بالتالي يقلل من فرص العمل، فتنتشر البطالة في المجتمعات التي يفشو فيها الربا، ويؤكد هذا ما يشاهد من معاناة الدول الغربية من مشكلة البطالة، رغم تقدمها في أمور التكنولوجيا وتطورها في الصناعة، وقد قرر هذه الحقيقة بعض الكُتّاب الغربيين، وبيّنوا أن من أبرز أسباب فشو البطالة في أي مجتمع فشو الربا فيه.
  • خامسًا: الربا من أسباب غلاء الأسعار؛ لأن صاحب المال إذا استثمر ماله في صناعة أو في زراعة أو في شراء سلعة، فلن يرضى بأن يبيع سلعته أو الشيء الذي أنتجه إلا بربحٍ أكثر من نسبة الربا؛ وذلك لأنه يرى أنه قد استثمر المال، وبذل الجهد، وعرّض نفسه للخسارة، فلا بد أن تكون نسبة الربح أكثر من نسبة الربا، وكلما ازدادت نسبة الربا غلت الأسعار أكثر، هذا إذا كان المنتِج أو التاجر صاحب مال، أما إذا كان المنتج أو التاجر ممن يقترض بالربا فرفْعه أسعار منتجاته وسلعه أمرٌ بدهي؛ حيث سيضيف إلى نفقاته ما يدفعه من ربا.
    وقد أكّد كثيرٌ من الاقتصاديين حقيقة تأثير الربا على رفع الأسعار، وبيّنوا أن الربا من أبرز أسباب ارتفاع الأسعار.
  • سادسًا: الربا من أبرز نشوء الأزمات الاقتصادية التي تحل بالمؤسسات والشركات والدول؛ فإن من يقترض بفوائد ربوية تتراكم عليه مع مرور الزمن الديون، ويعجز في الغالب عن سدادها، وقد ثبت أن الأزمات التي تعتري الاقتصاد العالمي إنما تنشأ غالبًا من الربا الذي يتراكم مع مرور الوقت على الشركات والدول.

تلكم هي أبرز وجوه الحكمة من تحريم الربا، وما لم نذكره أكثر بكثيرٍ مما ذكرناه، ولكن يكفينا أن هذا هو تشريع رب العالمين خالق العباد، وحكمه وتشريعه حِكْمة الحِكم، وغاية الحكم.

بعض عقوبات المرابي

لقد آذن الله تعالى المرابي بالحرب، وأخبر بأنه لا يحبه، ووصفه بأنه ظالم، ولعنه رسول الله ؛ ولذلك نجد أن المرابي محرومٌ من ماله؛ لأن الإنسان إنما يريد من المال اللذة وبسطة العيش والجاه والمكانة بين الناس، والمرابي بعيدٌ عن ذلك، اشتغاله غالبًا عن تلك اللذة بولهه في ماله ولمقت الناس إياه، وكراهتهم له، فهو -أي المرابي- لم يحسن التصرف في التوصل إلى ثمرة المال.

وقد اقتضت سنة الله في أن عابد المال الذي لا يرحم مسكينًا، ولا يُنْظِر معسِرًا إلا بمالٍ يأخذه ربا بدون مقابل؛ أن يكون محرومًا من الثمرة الشريفة بالثروة، وهي كون صاحبها ناعمًا عزيزًا شريفًا عند الناس؛ لكونه مصدرًا لخيرهم وللتفضُّل عليهم وإعانتهم، كما أنه يكون محرومًا في الآخرة من ثواب المال، فالمرابي محرومٌ من ماله في الدنيا والآخرة.

المتصدق ينتفع بماله والمرابي محروم منه

واقتضت سنة الله في أن المتصدِّق يكون انتفاعه بماله أكثر من ماله، كما في حديث أبي هريرة  -عند الشيخين-: أن النبي  قال: من تصدق بعدل تمرة من كسبٍ طيّب، ولا يقبل الله إلا طيّبًا؛ فإن الله تعالى يقبلها بيمينه، ثم يربّيها لصاحبها، كما يربّي أحدكم فلوّه، حتى تكون مثل الجبل [1].

أيها الإخوة: إن المتصدق ينتفع بماله في الدنيا والآخرة، والله تعالى يقول: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39] وأما المرابي فهو محرومٌ من ماله الذي أفنى عمره في تكديسه، محرومٌ منه في الدنيا فلا يهنأ ولا يسعد به، ولا يرى ثمرة هذا المال، ومحرومٌ منه في الآخرة، بل هو وبالٌ عليه في الآخرة، وصدق الله العظيم إذ يقول: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276].

وإلى لقاءٍ في حلقة قادمة إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 1410، ومسلم: 1014.
مواد ذات صلة
zh