عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وحياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج.
أيها الإخوة: كنا قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن عِلة الربا، وذكرنا أن القول الراجح عند المحققين هو أن علة الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية، وفيما عداهما هو الكيل أو الوزن مع الطعم.
هل يجري الربا في الأوراق النقدية؟
ولكن ماذا عن الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس اليوم، وما علّة الربا فيها؟
هذا هو ما سنتناوله في هذه الحلقة إن شاء الله.
قرار مجمع الفقه الإسلامي في الأوراق النقدية
فنقول: جرى بحث موضوع الأوراق النقدية في عدد من الهيئات العلمية والمجامع الفقهية، ومن أبرز من بحث هذا الموضوع مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة، وقد أصدر قرارًا بهذا الشأن -أعني بشأن موضوع الأوراق النقدية-، وكان أبرز ما جاء في القرار ما يأتي:
أولًا: أنه بناءً على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة، وبناءً على أن علة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة، وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة، وإن كان معدنهما هو الأصل، وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمنًا، وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تقوَّم الأشياء في هذا العصر؛ لاختفاء التعامل بالذهب والفضة، وتطمئن النفوس بتموِّلها وادخارها، ويحصل الوفاء والإبراء العام بها، رغم أن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في أمرٍ خارج عنها، وهو حصول الثقة بها، كوسيط في التداول والتبادل؛ وذلك هو سر مناطها بالثمنية.
وحيث إن التحقيق في عِلَّة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية، وهي متحققةٌ في العملة الورقية؛ لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يُقرِّر: أنَّ العملة الورقية نقدٌ قائمٌ بذاته، له حكم النقدين من الذهب والفضة، فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليها بنوعيه فضلًا ونسيئة، كما يجرى ذلك في النقدين من الذهب والفضة تمامًا؛ وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها.
ثانيًا: يُعتبر الورق النقدي نقدًا قائمًا بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، كما يُعتبر الورق النقدي أجناسًا مختلفة، تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنسٌ، وأن الورق النقدي الأمريكي جنسٌ، وهكذا كل عملة ورقية نقدٌ مستقلٌ بذاته، وبذلك يجري فيها الربا بنوعيه فضلًا ونسيئة، وهذا كله يقتضي ما يأتي:
- أولًا: لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهبٍ وفضةٍ وغيرهما نسيئة مطلقًا.
- ثانيًا: لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية بعضه ببعض متفاضلًا، سواء كان ذلك نسيئة، أو يدًا بيد.
- ثالثًا: يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقًا إذا كان ذلك يدًا بيد.
- رابعًا: وجوب زكاة الأوراق النقدية إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهبٍ أو فضة، أو كانت تكمِّل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة.
- خامسًا: جواز جعل الأوراق النقدية رأس مالٍ في بيع السلَم والشركات.
أمثلة تطبيقية على قرار مجمع الفقه الإسلامي في الأوراق النقدية
وبعد أن ذكرنا أبرز ما ورد في القرار نذكر أمثلة تطبيقية لما سبق، فنقول:
- أولًا: يُشترط التقابض عند بيع الأوراق النقدية بعضها ببعض، عند بيع الورق النقدي بورق نقدي آخر لا بد من التقابض، سواء كان من جنسه، أو من غير جنسه، فلا يجوز بيع ريالات سعودية بريالات سعودية مع عدم التقابض مطلقًا، ولا يجوز بيع ريالات بدولارات أو جنيهات أو ليرات مع عدم التقابض.
- ثانيًا: أما بالنسبة لاشتراط التساوي فهو إنما يُشترط فيما إذا بيع الورق النقدي بجنسه، كريالات سعودية بريالات سعودية مثلًا، أما إذا بيعت الأوراق النقدية بغير جنسها فلا يُشترط التساوي حينئذٍ، لكن لا بد من التقابض، فمثلًا إذا بيعت ريالات بدولارات فلا يُشترط التساوي نظرًا لاختلاف الجنس، ولكن لا بد من التقابض كما سبق.
- ثالثًا: نصاب زكاة الأوراق النقدية هو أدنى النصابين من الذهب أو الفضة، كما جاء في القرار، وفي الوقت الحاضر قيمة نصاب الفضة بالريالات أقل بكثير من قيمة نصاب الذهب بالريالات، وحينئذٍ يكون نصاب الأوراق النقدية في الوقت الحاضر هو قيمة نصاب الفضة بتلك الأوراق.
وحيث إن نصاب الفضة هو (595) خمسمائة وخمسة وتسعون جرامًا، فيُنظر كم يساوي الجرام من الفضة بالريالات، ثم يُضرب في خمسمائة وخمسة وتسعين، والناتج هو نصاب الأوراق النقدية إذا كانت ريالات، وإذا كانت دولارات فينظر كم يساوي الجرام من الفضة بالدولار، ثم يضرب بخمسمائة وخمسة وتسعين، والناتج هو نصاب الأوراق النقدية إذا كانت دولارات، وهكذا.
ولا يمكن تحديد نصاب الأوراق النقدية برقم ثابت؛ نظرًا لأنها مرتبطة بالذهب والفضة كما سبق، وقيمة الذهب والفضة ليست ثابتة، وإنما تختلف زيادة ونقصًا من وقتٍ لآخر. - رابعًا: يُشترط التقابض عند صرف الورق النقدي بعضه ببعض، سواء كان من جنسه أو من غير جنسه؛ ولذلك فلا بد من ملاحظة هذا الشرط -أعني التقابض عند الصرف-، وإلا وقع المتصارفان في ربا النسيئة، فلو أن رجلًا طلب من آخر أن يصرف له فئة خمسمائة ريال، فأعطاه ثلاثمائة ريال، وقال له: بقية المبلغ -وهو مائتا ريال- أعطيك إياه غدًا -مثلًا-؛ فإن هذا لا يجوز؛ لأن الصرف يُشترط له التقابض من المتصارفين، والمخرج في مثل هذا هو أن يطلب منه ما يحتاجه على سبيل القرض، فعندما لا يجد الصرف الكامل لفئة الخمسمائة ريال، يقول: أقرضني المتوفر عندك -وهو في مثالنا ثلاثمائة ريال-، وأعيد لك هذا القرض في وقتٍ آخر، وله أن يجعل الخمسمائة ريال وديعة عنده.
- خامسًا: تتفق علة الأوراق النقدية -وهي مطلق الثمنية كما جاء في القرار- مع علة الذهب والفضة، وبناءً على ذلك يُشترط التقابض عند بيع الذهب أو الفضة بأوراق نقدية، فمن ذهب إلى محل ذهب واشترى منه حليًّا مثلًا، فلا بد أن يسلِّم قيمته بالورق النقدي في الحال، وإلا وقع في ربا النسيئة.
حكم شراء الذهب عن طريق بطاقة الصراف الآلي
وهل يجوز شراء الذهب عن طريق بطاقة الصرف الآلي باستخدام آلة الصرف المسماة بنقطة بيع؟
عُرِض هذا السؤال على اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فأصدرت فيه الفتوى رقم (19440) برئاسة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وعضوية سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، وفضيلة الشيخ بكر أبو زيد، أصدرت فتوى بجواز ذلك، وأن البيع بهذه الصفة له حكم التقابض في المجلس.
ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، وإلى لقاء في حلقة قادمة إن شاء الله.
أستودعكم الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.