logo
الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(11) الخيار في البيع- خيار العيب

(11) الخيار في البيع- خيار العيب

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده وخليله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

كنا قد تكلمنا في حلقات سابقة عن جُمْلةٍ من المسائل المتعلقة بالخيار وأقسامه، وما يتعلق بذلك من مسائل، ووعدنا باستكمال الكلام عن بقية أقسام الخيار في حلقات قادمة، ولعلنا نخصص هذه الحلقة للحديث عن قسمٍ من أقسام الخيار، وهو خيار العيب؛ وذلك لأهميته وصلته بواقع الناس؛ فنقول وبالله التوفيق:

خيار العيب

خيار العيب هو الخيار الذي يثبت بسبب العيب؛ والضابط في ذلك العيب نقصان قيمة المبيع به في عُرف التجار، فما عده التجار في عرفهم منقصًا لقيمة المبيع ثبت به الخيار للمشتري.

مثال ذلك: اشترى رجلٌ من آخر سيارة ثم تبيّن للمشتري بعد ذلك أن بهذه السيارة خللًا، وهذا الخلل تنقص به قيمة السيارة في عرف الناس، فيُعتبر هذا الخلل عيبًا يثبت للمشتري به الخيار، أما لو كان عالمًا بذلك العيب فلا خيار له باتفاق العلماء.

حكم شرط البائع: البراءة من كل عيب

ما الحكم فيما إذا شرط البائع على المشتري براءته من كل عيبٍ يجده المشتري في السلعة، هل يبرأ البائع بذلك ويسقط حق المشتري في الخيار فيما لو وجد في تلك السلعة عيبًا، كما يوجد الآن في حراج السيارات مثلًا، حيث نجد أن بعض البائعين أو من يحرّج على بيع السيارة يقول: أبيعك هذه السيارة كومة حديد، أو يأتي بعبارة قريبة من هذا المعنى، ويريد بذلك أنك أيها المشتري لا تطالب البائع بأي شيءٍ بعد أن تشتري هذه السيارة، حتى لو وجدت بها عيبًا فإنك لا تطالب البائع بأي شيء؛ فهل يبرأ البائع بهذا الشرط؟

سبق أن عرضنا لهذه المسألة بالتفصيل عندما تكلمنا عن الشروط في البيع، وذكرنا أن القول الصحيح في هذه المسألة والذي عليه المحققون من أهل العلم هو أن البائع إذا كان عالمًا بالعيب فللمشتري الرد مطلقًا، ولا ينفع البائع هذا الشرط، أما إن كان البائع غير عالمٍ بالعيب فالشرط صحيح ويبرأ البائع به، وليس للمشتري الرد في هذه الحال.

وهذا هو الذي قضى به الصحابة ، فقد ورد أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما باع عبدًا على زيد بن ثابت بثمانمائة درهم، بشرط البراءة من كل عيب، فأصاب به زيدٌ عيبًا فأراد ردّه فلم يقبل بذلك ابن عمر، فترافعا إلى عثمان بن عفان ، فقال عثمان لابن عمر: تحلف أنك لم تعلم بهذا العيب؟ قال: لا، فردّه عليه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “هذا هو الصحيح الذي قضى به الصحابة، وعليه أكثر أهل العلم”.

هل للمشتري خيار الردّ إذا وجد عيبًا؟

هذا إذا شرط البائع على المشتري البراءة من كل عيب، ولكن إذا باعه من غير أن يشترط عليه هذا الشرط، فوجد المشتري عيبًا بالمبيع لم يكن عالمًا به، فله الخيار حينئذ بين الإمساك أو الرد وأخذ الثمن، سواء كان البائع علم بالعيب فكتمه أو لم يعلم.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا نعلم فيه خلافًا”.

ولأن إثبات النبي  الخيار بالتصرية تنبيهٌ على ثبوته بالعيب، ولأن مقتضى العقد يقتضي السلامة من العيب، يدل لذلك حديث العداء بن خالد بن هوذة حين باعه النبي عبدًا أو أمة فكتب له النبي كتابًا: هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله -اشترى منه عبدًا أو أمة- لا داء ولا غائلة ولا خبثة، بيع المسلم المسلم [1]، أخرجه الترمذي بهذا اللفظ.

وقد علّقه البخاري في صحيحه بلفظ: هذا ما اشترى محمدٌ رسول الله من العداء بن خالد [2]، فجعل النبي هو المشتري، والعداء بن خالد هو البائع.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “هكذا وقع هذا التعليق، وقد وصل الحديث الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن الجارود وابن منده، كلهم من طريق عبدالمجيد بن أبي يزيد عن العداء بن خالد، فاتفقوا على أن البائع هو النبي ، وأن المشتري هو العداء عكس ما هنا، فقيل: إن الذي وقع هنا مقلوب، وقيل: هو صواب وهو من الرواية بالمعنى؛ لأن اشترى وباع بمعنى واحد”.

وقوله في هذا الحديث: لا داء ولا غائلة ولا خبثة، بيع المسلم المسلم [3].

قال ابن العربي رحمه الله: “الداء: ما كان في الخَلْق بالفتح، والخبثة: ما كان في الخُلُق بالضم، والغائلة: سكوت البائع على ما يعلم من مكروه في البيع”.

وقوله: بيع المسلم المسلم أيْ هذا بيع المسلم المسلم، ليس فيه شيءٌ مما ذُكِر، وأن المسلم ليس من شأنه الخديعة.

والغرض من إيراد هذا الحديث هو بيان أن مقتضى عقد البيع يقتضي السلامة من العيب، وأن هذا هو الأصل في بيع المسلم لأخيه المسلم، ولذلك ختم هذا الحديث بقوله: بيع المسلم المسلم.

وبناءً على هذا إذا وجد المشتري عيبًا بالسلعة فله الخيار بين الإمساك أو الرد وأخذ الثمن، ولكن إن اختار الإمساك فله أن يأخذ معه الأرش، والأرش: هو قسط ما بين قيمة المبيع صحيحًا وقيمته معيبًا.

ووجه القول بأخذ الأرش في هذه الحال: هو أن المتبايعين قد تراضيا على أن العوض في مقابلة المبيع، فكل جزءٍ منه يقابله جزءٌ من الثمن، ومع العيب فات جزء من المبيع، فكان له الرجوع ببدله وهو الأرش.

ولكن القول بأن للمشتري الإمساك مع أخذ الأرش في هذه الحال ليس محل اتفاق بين أهل العلم، بل هو محل خلافٍ بينهم، فالقول بأن له الإمساك مع أخذ الأرش هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو من مفردات المذهب كما ذكر ذلك صاحب “الإنصاف”.

وذهب الحنفية والشافعية إلى أن المشتري إذا وجد عيبًا فليس له إلا الإمساك أو الرد، ولا أرش له في هذه الحال، إلا أن يتعذّر رد المبيع.

وقد روي هذا القول عن الإمام أحمد رحمه الله، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وجمعٌ من المحققين من أهل العلم.

ووجه هذا القول: أن النبي  جعل لمشتري المصراة الخيار بين الإمساك من غير أرش أو الرد، ولأن المشتري يملك الرد فلم يملك أخذ جزء من الثمن.

ولعل هذا القول الأخير هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

ومما يذكره الفقهاء في هذا الباب ما إذا اشترى ما مأكوله في جوفه فوجده فاسدًا، كبيض الدجاج مثلًا وكالبطيخ والرمان، ومثل ذلك أيضًا المعلّبات بجميع أنواعها؛ فإن المشتري يرجع على البائع بالثمن؛ لأن عقد البيع يقتضي السلامة من العيوب، فإذا وجد المشتري عيبًا ثبت له الخيار.

واستثنى بعض الفقهاء من ذلك ما إذا كان يبقى للمبيع قيمة بعد كسره، كجوز الهند وبيض النعام مثلًا؛ فإن المشتري إذا أراد الرجوع على البائع بالثمن فيلزمه رد المبيع في هذه الحال مع رد أرش كسره.

حكم اختلاف المتبايعين فيمن حدث عنده العيب

وإذا اختلف المتبايعان فيمن حدث عنده العيب، مع احتمال أن يكون قد حدث عن أيٍ منهما، فإن كان هناك بيّنة فالقول قول صاحب البيّنة، سواء كان هو البائع أو المشتري.

أما إذا لم يكن هناك بيّنة وكلٌ منهما يدّعي حدوث العيب عند الآخر، فالبائع يدّعي حدوث العيب عند المشتري، والمشتري يدّعي حدوث العيب عند البائع، فقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة.

والراجح -والله تعالى أعلم-: هو أن القول قول البائع بيمينه.

وهذا هو الذي يدل له ظاهر السنة، كما جاء في حديث ابن مسعود  أن رسول الله  قال: إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بيّنةٌ فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع [4] أخرجه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، وله طرقٌ متعددة يصح بمجموعها.

ولأن الأصل السلامة وعدم وجود العيب، ودعوى المشتري أن العيب سابقٌ على العقد خلاف الأصل؛ فكان القول قول البائع.

ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، وإلى لقاء في حلقة قادمة إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه الترمذي: 1216، وقال: هذا حديث حسن غريب.
^2 صحيح البخاري: 3/58.
^3 رواه الترمذي: 1216، وابن ماجه: 2251، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
^4 رواه أبو داود: 3511، والنسائي: 4648، وابن ماجه: 2186، وأحمد: 4446.
مواد ذات صلة
zh