عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وحياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج.
تتمة أقسام الخيار
والذي نستكمل فيه ما تبقى من المسائل المتعلقة بالخيار، وكنا قد تكلمنا في حلقة سابقة عن جملة من أقسام الخيار، ووعدنا باستكمال ما تبقى من أقسام الخيار في هذه الحلقة.
فنقول وبالله التوفيق:
-
من أقسام الخيار: خيارٌ يثبت لاختلاف المتبايعين في الجملة
فإذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن بأن قال البائع: بعته عليك بعشرة، وقال المشتري: بل اشتريته منك بتسعة، فإن وجدت بيّنة فالقول قول صاحب البيّنة، سواء كان البائع أو المشتري.
أما إذا لم توجد بيّنة فيرى بعض الفقهاء أنهما يتحالفان ويتفاسخان العقد، فيحلف البائع بأنه ما باع المشتري بكذا، وإنما باعه بكذا، ثم يحلف المشتري أنه ما اشترى بكذا، وإنما اشترى بكذا، فإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، فالقول قول الحالف، ثم بعد التحالف لكلٍ منهما الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن القول قول البائع بيمينه في هذه الحال؛ لحديث ابن مسعود : أنَّ النبي قال: إذا اختلف المتبايعان، وليس بينهما بيّنةٌ، فالقول ما قال البائع أو يترادَّان [1]، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد.
ويرى بعض أهل العلم أن القول الأول وهو القول بالتحالف ثم فسخ العقد يرجع للقول الثاني، وهو أنَّ القول قول البائع؛ لأنهما إذا تحالفا وتفاسخا، فإن المبيع سوف يرجع للبائع، فيقال للمشتري: إما أن تأخذ السلعة بالثمن الذي عيّنه البائع، وإما أن تترك البيع.
وقد أشار إلى هذا القول الموفق ابن قدامة رحمه الله، فقال: “ويحتمل أن يكون معنى القولين واحدًا، وأن القول قول البائع مع يمينه، فإذا حلف فرضي المشتري بذلك أخذ به، وإن أبى حلف أيضًا، وفُسخ البيع”.
أما إذا اختلف المتبايعان في أَجَل، كأن يقول المشتري: اشتريت هذه السلعة بثمنٍ مؤجَّل، وأنكر ذلك البائع وقال: بل اشتريتها مني بثمنٍ حال، فالقول قول من ينفي الأجل؛ وذلك لأن الأصل عدم الأجل، فمن ادعاه طولب بالبينة، فإن أتى ببينة وإلا فالقول قول من ينفي الأجل.
ومثل الاختلاف في الأجل الاختلاف في الشرط؛ وذلك بأن يدّعي أحدهما أنه شَرَط على الآخر شرطًا، والآخر ينفيه، فالقول قول من ينفي الشرط؛ وذلك لأن الأصل عدم الشرط.
فمن ادّعى أنه شرط شرطًا طولب بالبيّنة، فإن أقام البيّنة وإلا فالقول قول من ينفي الشرط بيمينه.
-
الخيار بتخبير الثمن
أيها الإخوة المستمعون:
أضاف بعض الفقهاء قسمًا ثامنًا لأقسام الخيار: وهو الخيار الذي يثبت فيما إذا أخبره بثمن فتبيّن أن الثمن أقل، ويسميه بعضهم “الخيار بتخبير الثمن” كأن يقول: أبيعك هذه السلعة برأس مالي فيها، ورأس المال عليَّ عشرة آلاف، ثم يتبين للمشتري أن البائع كاذب، وأن رأس المال تسعة آلاف.
أو يقول: أشركك معي في هذه السلعة برأس مالي، ورأس مالي مائة ألف، ثم يتبين أنه كاذب، وأن رأس ماله تسعون ألفًا.
أو يقول: بعتك هذه السلعة بربح كذا وكذا على رأس مالي فيها، أو يقول: بعتك هذه السلعة بنقص كذا وكذا عمّا اشتريتها به.
ففي هذه الصور الأربع إذا تبيّن أن رأس المال خلاف ما أخبره به فله الخيار بين الإمساك والرد.
وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا خيار للمشتري في هذه الحال، وإنما يُجرى الحكم على الثمن الحقيقي، ويحط عنه الزائد، فمثلًا إذا قال البائع: أبيعك هذه السلعة برأس المال، وهو عليَّ عشرة آلاف، ثم تبيّن للمشتري أنه كاذب، وأن رأس المال تسعة آلاف، فبناءً على هذا القول لا خيار للمشتري، وإنما له الحق في مطالبة البائع بالزائد، وهو في هذا المثال ألف ريال.
وهذا القول الأخير هو الأظهر والله تعالى أعلم؛ وذلك لأن الأصل لزوم البيع، وعدم ثبوت الخيار للمشتري بعد التفرق بالأبدان، ولا نخرج عن هذا الأصل إلا بأمرٍ واضح، وحصول الضرر للمشتري بسبب كذب البائع عليه يمكن زواله بأن يُجعل له الحق في مطالبة البائع بالقدر الزائد.
أيها الإخوة المستمعون:
هذا هو حاصل كلام الفقهاء في الخيار وأقسامه، فيثبت الخيار للمتبايعين أو لأحدهما بموجب هذه الخيارات، وما عدا ذلك، فالأصل لزوم البيع، أيْ أنه ليس لأحدٍ من المتبايعين الفسخ إلا برضا الطرف الآخر.
حكم الإقالة
ولكن يُستحب له أن يقيله، وهذا ما يسميه الفقهاء بالإقالة، ويُعرِّفونها: بأنها فسخ أحد المتعاقدين العقد عند ندم الآخر.
والأصل فيها قول النبي : من أقال مسلمًا بيعته أقال الله عثرته [2]، أخرجه أبو داود وابن ماجه، وفي رواية لابن حبان: من أقال نادمًا عثرته، أقال الله عثرته يوم القيامة [3].
وهذا الحديث يدل على أنه يُستحب للمسلم أن يقيل أخاه المسلم عند ندمه على بيعٍ أو شراء، وأنه موعودٌ بأن يقيل الله عثرته في الدنيا والآخرة، والجزاء من جنس العمل، وربما تكون تلك الإقالة سببًا لحلول البركة في تلك السلعة.
هل الإقالة فسخٌ أو بيع؟
وقد اختلف العلماء في الإقالة هل هي فسخٌ أو بيع؟ على قولين مشهورين، والأظهر -والله تعالى أعلم- أنها فسخ، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية والحنابلة.
ووجه هذا القول: أن الإقالة هي عبارة عن الرفع والإزالة، يقال: أقال الله عثرتك، أيْ أزالها، فكانت فسخًا للبيع لا بيعًا.
ويترتب على القول بأن الإقالة فسخٌ لا بيع: جملة من الأحكام، منها: أنها تجوز بعد نداء الجمعة الثاني، وتجوز داخل المسجد، ولا خيار فيها، ولا شفعة، ولا يحنث بها من حلف ألا يبيع.
حكم الإقالة بأكثر من الثمن الذي وقع عليه العقد
ولكن هل تجوز الإقالة بأكثر من الثمن الذي وقع عليه العقد؟ مثال ذلك: رجلٌ باع بيته بنصف مليون ريال مثلًا، ثم إنه ندم على ذلك البيع، وطلب من المشتري أن يقيله بيعته، وأن يفسخ العقد، فرفض المشتري أن يقيله إلا بعوض؛ وذلك بأن يدفع له عشرة آلاف ريال مثلًا، فهل يجوز ذلك؟
اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من منع ذلك وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة؛ وذلك لأن العقد إذا ارتفع بفسخه رجع كلٌ من المتبايعين بما كان له فلم تجز الزيادة على الثمن.
وذهب بعض العلماء إلى جواز الزيادة على الثمن الذي وقع عليه العقد، وقد روي هذا القول عن الإمام أحمد في رواية الأثرم عنه، كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب في قواعده.
ووجه هذا القول: هو أن الإقالة لما كانت فسخًا للعقد فإن الزيادة بمثابة الصلح بينهما، وقياسًا على بيع العربون، فإن البائع يأخذ العربون من المشتري لو لم يستمر في العقد، فكذلك هنا يأخذ أحد المتعاقدين عوضًا من الآخر نظير عدم استمراره في العقد.
وقد سُئل الإمام أحمد عن بيع العربون؟ فقال: أيُّ شيءٍ أقول، هذا عمر فعله.
وبناءً على القول بجواز بيع العربون، فتجوز الإقالة بأكثر من الثمن الأول الذي وقع عليه العقد.
ولعل هذا القول الأخير -والله تعالى أعلم- هو القول الراجح في المسألة، لا سيما أن فيه مصلحة للطرفين.
أيها الإخوة المستمعون: هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة.
أسأل الله أن يوفقنا للفقه في دينه، وأن يرزقنا السداد في القول والعمل.
وإلى لقاءٍ في حلقة قادمة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.