عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
لا يزال الحديث موصولًَا عن أحكام زكاة النقدين، وأتحدث معكم في هذه الحلقة عن حكم زكاة الحلي المعدِّ للاستعمال، وعمّا يُباح لبسه من الذهب والفضة، وأبتدئ الحديث عن مسألة حكم زكاة الحلي المعدّ للاستعمال.
زكاة النقدين
حكم زكاة الحلي المعد للاستعمال
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة:
- فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا تجب فيه الزكاة، وقد روي ذلك عن ابن عمر وجابر وأنس وعائشة وأختها أسماء رضي الله تعالى عنهم، وهذا القول هو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة.
- وذهب الحنفية إلى وجوب الزكاة في الحلي المعدِّ للاستعمال، وهو رواية عن أحمد.
وقد استدل من ذهب للوجوب بعموم الأدلة الموجبة للزكاة في الذهب والفضة، واستدلوا كذلك بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: “أن امرأة أتت إلى رسول الله ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذه؟ قالت: لا، قال: أيسرّك أن يسوّرك الله بهما سوارين من نار؟، فخلعتهما وألقتهما إلى النبي وقالت: هما لله ولرسوله” [1]، أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وأحمد.
واستدلوا كذلك بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: “دخل عليَّ رسول الله وفي يدي فتخات من ورِق أيْ من فضة، فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، قال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا، قال: هو حسبك من النار [2]، رواه أبو داود، والدارقطني، والحاكم.
واستدلوا كذلك بحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: “كنت ألبس أوضاحًا من ذهب، فقلت: يا رسول الله أكنزٌ هو؟ قال: ما بلغ أن تؤدى زكاته فليس بكنز [3]، رواه أبو داود والحاكم.
واستدل الجمهور لقولهم بعدم وجوب الزكاة في الحلي المعدّ للاستعمال؛ بما جاء في الصحيحين عن زينب امرأة ابن مسعود أنَّ النبي قال للنساء يوم العيد: تصدّقنّ يا معشر النساء ولو من حليكنّ [4].
ووجه الدلالة: أنه لو كانت الزكاة واجبة فيه لما ضرب فيه المثل في صدقة التطوُّع، ولأن قاعدة الشريعة هي أن ما كان معدًّا للاستعمال والقُنية وليس مرصدًا للنماء فلا زكاة فيه؛ لقول النبي : ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة [5]، متفقٌ عليه.
والراجح -والله تعالى أعلم- هو قول الجمهور، وهو: أنه لا تجب الزكاة في الحلي المعدِّ للاستعمال، وهذا القول هو المروي عن أكثر الصحابة، وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن رحمه الله أنه قال: “لا نعلم أحدًا من الخلفاء قال في الحلي الزكاة”.
وعن القاسم بن محمد قال: “ما أدركت أحدًا أخذ صدقة الحلي”.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: “ما رأيت أحدًا يزكيه”.
وأما ما استدل به القائلون بالوجوب من الأحاديث فجميعها ضعيفة، ولا تصح عند كثير من المحدثين؛ لهذا قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: “ليس يصح في هذا الباب شيء”.
وقال أبو عبيد عن حديث المسكتين: “لا نعلمه إلا من وجهٍ قد تكلَّم الناس فيه قديمًا وحديثًا”.
ثم إنه يرد على متنها إشكالات، فهل المسكتان في يد ابنة تلك المرأة هل تُعادل نصابًا وهو خمسة وثمانون جرامًا؟ وعلى تقدير ذلك فإن الواجب هو ربع العشر، أيْ اثنان ونصف المائة فقط، فكيف تلقيهما جميعًا ويقرّها النبي على هذا، مع أن المقام مقام بيان وإيضاح؟!
وكذا في حديث عائشة هل يُعقل أن تبلغ هذه الفتخات من الفضة نصابًا وهو خمسمائة وخمسة وتسعون جرامًا؟!
ويبدو من سياق القصة لو صحت أنَّ النبي رأى هذه الفتخات على عائشة لأول مرة، ولهذا وقع السؤال، ومن المعلوم أنه يُشترط لوجوب الزكاة في الذهب والفضة أن يحول عليهما الحول، ثم إنه قد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تلي بنات أخيها وعندهن الحلي من الذهب فلا تخرج الزكاة.
وكل هذه الإشكالات وغيرها ترد على هذه الأحاديث.
ثم على تقدير صحة هذه الأحاديث يُحمل لفظ الزكاة الوارد فيها على العاريّة، ولهذا قال الإمام أحمد: “خمسة من أصحاب رسول الله يقولون: ليس في الحلي زكاة؛ وزكاته عاريته”، ولا شك أن الصحابة هم أعلم الناس بمراد الشارع وبمدلول لغة العرب، فلولا أنه يسوغ حمْل لفظ الزكاة على العاريّة لما قالوا به، والله تعالى أعلم.
حكم زكاة الحلي المعد للتجارة
والخلاف في المسألة السابقة إنما هو في الحلي المعدّ للاستعمال، أما الحلي المعد للتجارة فتجب فيه الزكاة قولًا واحدًا لكونه من عروض التجارة، وبناءً على هذا يجب على أصحاب محلات الذهب والفضة أن يقيّموا ما عندهم من ذهب أو فضة أو جواهر، وعند تمام الحول يخرج ربع عشر قيمتها، والله تعالى أعلم.
ما يُباح لبسه من الذهب والفضة للرجل والمرأة
ويتكلم الفقهاء في هذا الباب عمّا يُباح لبسه من الذهب والفضة للرجل والمرأة، وقد جاء في حديث أبي موسى الأشعري أن النبي قال: أُحلَّ الذهب والحرير لإناث أمتي، وحُرِّم على ذكورها [6]، أخرجه الترمذي، والنسائي، وأحمد، وقال الترمذي: “هذا حديثٌ حسن صحيح”.
وهذا الحديث يدل على أنه يُباح للمرأة أن تتحلّى بما جرت العادة بلبسه من الذهب أو الفضة أو غيرهما من الجواهر، وأما الرجل فيُباح له من الفضة الخاتم؛ لما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: “أنَّ النبي اتّخذ خاتمًا من ورِق، أيْ من فضة، وجعَلَ فصّه مما يلي كفّه” [7].
وكان سبب اتخاذ النبي للخاتم؛ كما جاء في حديث أنس عند البخاري قال: “لما أراد النبي أن يكتب إلى الروم قيل له: إنهم لن يقرؤوا كتابك إذا لم يكن مختومًا، فاتّخذ خاتمًا من فضة ونقشه: محمدٌ رسول الله؛ قال أنس: فكأني أنظر إلى بياضه في يده” [8].
وجاء في رواية أخرى عند البخاري: “وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر؛ محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر” [9].
وكان خاتم النبي في يده، وفي يد أبي بكر بعده، وفي يد عمر بعد أبي بكر رضي الله عنهم، فلما كان عثمان وقع منه في بئر أريس، قال أنس: “فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان رضي الله عنه ننزح البئر فلم نجده” [10].
حكم التختم بالفضة للرجل
وقد اختلف العلماء في استحباب التختُّم بخاتم الفضة للرجل:
- فالجمهور على أنه مُباح.
- ومن أهل العلم من قال إنه سنة.
- ومنهم من فصّل، فقال: هو مباحٌ إلا لمن يتخذه لحاجة كالأمير أو المدير أو القاضي ونحوهم، وينقش عليه ختمًا، فيكون هذا سنة في حقه اقتداءً بالنبي في هذا، وأما مجرّد اتخاذه للزينة فلا يقال إنه سنة بل مباح.
ولعل هذا القول هو الأقرب، والله تعالى أعلم؛ لأن النبي لم يتخذ الخاتم للزينة، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يلبس الخاتم أصلاً إلا بعد أن قيل له إنهم لن يقرؤوا كتابك إذا لم يكن مختومًا، ولما لبسه جعل فصّه في بطن كفه ولو كان لبسه له لأجل الزينة لجعل فصّه إلى ظاهر كفِّه.
ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله عن بعض العلماء أنه قال: “السر في ذلك أن جعْله في باطن الكف أبعد من أن يُظنَّ أنه فعله للتزيُّن به”.
السنة في لبس الخاتم
وهل الأفضل أن يكون التختم في اليد اليمنى أو في اليد اليسرى، ومثل الخاتم الساعة؛ هل الأفضل لبسها في اليد اليمنى أو في اليد اليسرى؟
وردت الأحاديث الصحيحة عن النبي أنه تختّم في اليد اليمنى وفي اليد اليسرى، فالأمر في هذا واسع، وقد جمع بينها الحافظ ابن حجر رحمه الله بعدما سرد الروايات وأقوال العلماء في هذا، ثم قال: “ويظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف القصد؛ فإن كان اللبس للتزيُّن به فاليمين أفضل، وإن كان للتختُّم به فاليسار أولى؛ لأنه كالمودع فيها ويحصل تناوله منها باليمين، وكذا وضعه فيها”.
وهذا التفصيل الذي ذكره الحافظ لعله الأقرب في هذه المسألة، والله أعلم.
ويتفرّع عن هذه المسألة مسألة لبس الساعة، فإن كان الغرض من لبس الساعة هو التزيُّن بها فلبسها في اليمين أفضل، وإن كان الغرض من لبس الساعة هو معرفة الوقت فحسب فلبسها في اليد اليسرى أفضل، والله تعالى أعلم.
ويُباح للرجل كذلك من الفضة قبيعة السيف، أيْ ما يكون على رأس مقبض السيف، وحلية المنطقة، وهي ما يُشدُّ به الوسط، ونحو ذلك، ويُباح له من الذهب قبيعة السيف كذلك؛ لآثار رويت في هذا، وما دعت إليه الضرورة؛ لأن عرفجة بن أسعد قُطِع أنفه، فأمره النبي أن يتّخذ أنفًا من فضة، فأنتن، فأمره أن يتّخذ أنفًا من ذهب.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا الفقه في الدين.
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أبو داود: 1563، والترمذي: 637، والنسائي: 2479، وأحمد: 27578. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 1565، والدارقطني: 1951، والحاكم: 1437. |
^3 | رواه أبو داود: 1564، والحاكم: 1438. |
^4 | رواه البخاري: 304، ومسلم: 79-80. |
^5 | رواه البخاري: 1463، ومسلم: 982، من حديث أبي هريرة . |
^6 | رواه الترمذي: 1720، والنسائي: 5148، وأحمد: 19503. |
^7 | رواه البخاري: 5865، ومسلم: 2091. |
^8 | رواه البخاري: 65، ومسلم: 2092. |
^9 | رواه البخاري: 3106، ومسلم: 1386. |
^10 | أصله في رواه مسلم: 2091. |