عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله تعالى في هذه الحلقة من هذا البرنامج والتي أتحدث فيها عن أحكام زكاة النقدين.
زكاة النقدين
والنقدان إذا أُطلقا فالمراد بهما الذهب والفضة، والنقدان تثنية نقدٍ بمعنى منقود؛ لأن النقد هو الإعطاء، والذهب والفضة ليسا إعطاءً بل هما معطيان، فهما ينقدان في البيع والشراء.
وقد كان البشر في العصور الغابرة يتعاملون بالمقايضة أيْ: تبادل السلع بعضها ببعض، ثم هدى الله تعالى الإنسان إلى استعمال النقود بديلًا للسلع ووسيطًا للتعامل، وقد تدرّجت النقود منذ أن استخدمها الإنسان في أطوارٍ عديدة، حتى انتهت إلى طور المعادن النفيسة وبخاصة الذهب والفضة، هذان المعدنان اللذان أودع الله تعالى فيهما من الخصائص والمزايا ما لم يودعه في غيرهما، فلا يزال هذان المعدنان: الذهب والفضة، يحتفظان بنفاستهما إلى وقتنا الحاضر، وإن كان الذهب أنفس من الفضة.
وقد أمر النبي عرفجة بن أسعد لما قُطِع أنفه أن يتخذ أنفًا من ورِق أي فضة، فأنتن فأمره أن يتخذ أنفًا من ذهب.
ونقل ابن منظور في كتابه: “لسان العرب” عن ثعلب أنه قال: “كنت أحسب أن قول الأصمعي: إن الفضة لا تنتن صحيحًا، حتى أخبرني بعض أهل الخبرة أن الذهب لا يبليه الثرى، ولا يصدؤه الندى، ولا تنقصه الأرض، ولا تأكله النار، فأما الفضة فإنها تبلى وتصدأ، ويعلوها السواد، وتُنتِن”.
وقد ورد ذكر الذهب والفضة في القرآن الكريم في أكثر من موضع، وكذا في السنة النبوية، وورد تسمية الفضة بالورِق والرقة.
وحين بُعث النبي كان العرب يتعاملون بهذين النقدين الذهب والفضة؛ الذهب في صورة دنانير، والفضة في صورة دراهم، وكانت هذه الدراهم مختلفة الأوزان ما بين كبارٍ وصغارٍ، وخفافٍ وثقال، ولهذا لم يكن أهل مكة يتعاملون بها عدًّا بل وزنًا كأنها قطعٌ أو سبائك غير مضروبة، وكان لهم أوزانٌ اصطلحوا عليها وأقرّهم النبي على ذلك كله، بل قال: الميزان ميزان أهل مكة [1]، وفي سنن ابن ماجه عن أبي صفوان بن عميرة قال: “بعت من رسول الله سراويل قبل الهجرة فوزن لي فأرجح لي” [2].
حكم زكاة النقدين
وقد أجمع العلماء على وجوب الزكاة في الذهب والفضة، ودلّ لذلك النصوص من الكتاب والسنة، ومن ذلك قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35]، ففي هاتين الآيتين الوعيد الشديد في حق من كنز الذهب والفضة ولم يؤد زكاتهما.
وقد روي عن عددٍ من الصحابة، روي عن عمر وأبي هريرة وجابر وابن عمر وابن عباس أنهم قالوا: “أيما مالٍ أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا في الأرض، وأيُّما مالٍ لم تؤد زكاته فهو كنزٌ يُكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض”.
وتأمل قول الله في هذه الآية: وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34]، ولم يقل: ولا ينفقونهما؛ فإن في هذا إشارة إلى أن المقصود بالذهب والفضة في الآية النقود، أيْ باعتبارهما دراهم ودنانير؛ لأنها هي المعدَّة للإنفاق.
ومما ورد في شأن وجوب الزكاة في الذهب والفضة من السنة ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار فأُحمي عليها في نار جهنم، فيُكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما ردت أعيدت له، في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار [3].
حكم زكاة الأوراق النقدية
وفي معنى الذهب والفضة الأوراق النقدية على اختلاف أنواعها، وقد ترك الناس في العصر الحاضر التعامل بالذهب والفضة كوسيط للتبادل ونقدٍ للتعامل، وأصبحوا يتعاملون بالأوراق النقدية بدلًا عنها، وقد كانت الأوراق النقدية في بداية ظهورها مغطّاة تغطية كاملة عن الذهب أو الفضة، فكانت الدولة يكون عندها من الأوراق النقدية بمقدار ما تحوزه مقابل ذلك من الذهب أو الفضة، ثم تطور الأمر بعد ذلك فلم تعد التغطية كاملة، بل أصبح جزءٌ منها مغطى، والجزء الآخر وربما يكون الجزء الأكبر غير مغطى، وقد بحث الفقهاء المعاصرون التكييف الفقهي للأوراق النقدية.
وقد اختلف الفقهاء في أول الأمر اختلافًا كثيرًا، ثم بعد ذلك استقرَّ رأي عامة فقهاء العالم الإسلامي والمجامع الفقهية والهيئات العلمية على أن الورق النقدي نقدٌ قائمٌ بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة.
قرار مجمع الفقه الإسلامي بخصوص الأوراق النقدية
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي ما يأتي:
“أولاً: بناءً على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة، وبناءً على أن علة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة.
وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة، وإن كان معدنهما هو الأصل.
وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمنًا، وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تقوَّم الأشياء في هذا العصر، لاختفاء التعامل بالذهب والفضة، وتطمئن النفوس بتموّلها وادخارها ويحصل الوفاء والإبراء العام بها، رغم أن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في أمرٍ خارج عنها وهو حصول الثقة بها كوسيط في التداول والتبادل، وذلك هو سر مناطها بالثمنية.
وحيث إن التحقيق في علّة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية، وهي متحققةٌ في العملة الورقية لذلك كله، فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر: أن العملة الورقية نقدٌ قائمٌ بذاته، له حكم النقدين من الذهب والفضة، فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليها بنوعيه، فضلًا ونسيئة، كما يجري ذلك في النقدين من الذهب والفضة تمامًا، باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياسًا عليهما، وبذلك تأخذ أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها.
ثانيًا: يعتبر الورق النقدي نقدًا قائمًا بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، كما يُعتبر الورق النقدي أجناسًا مختلفة، تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنسٌ، وأن الورق النقدي الأمريكي جنسٌ، وهكذا كل عملة ورقية جنسٌ مستقلٌّ بذاته، وبذلك يجري فيها الربا بنوعيه فضلًا ونسيئة كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة، وفي غيرها من الأثمان”.
وبعد أن عرفنا أن الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس اليوم أنها نقدٌ قائمٌ بذاته، وأنها تأخذ حكم الدنانير من الذهب، وتأخذ حكم الدراهم من الفضة، فما نصاب هذه الأوراق النقدية، وكيف تكون زكاتها؟
هذا ما سنتناوله في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى؛ فإلى ذلك الحين أستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.