عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
تحدثنا في الحلقة السابقة عن أحكام التداوي، وننتقل بعد ذلك للحديث عن أحكام الجنائز، وأبتدئ الحديث في هذه الحلقة بتعريف الجنائز:
تعريف الجنائز
(الجنائز): بفتح الجيم جمع (جِنازة) بكسر الجيم، وفي لغة بفتح الجيم (جَنازة).
قال ابن قتيبة: “والكسر (جِنازة) أفصح، وقيل: (الجَنازة) بفتح الجيم اسمٌ للميّت، و (الِجنازة) بكسر الجيم اسمٌ للنعش الذي يُحمل عليه الميّت”.
هديه في الجنائز
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “وكان هديه في الجنائز أكمل الهدي، مُخالفًا لهدي سائر الأمم، مُشتمِلًا على الإحسان إلى الميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده، وعلى الإحسان إلى أهله وأقاربه، وعلى إقامة عبودية الحيِّ لله وحده فيما يعامل به الميِّت.
وكان من هديه في الجنائز: إقامة العبودية للرب تبارك وتعالى على أكمل الأحوال، والإحسان إلى الميت وتجهيزه إلى الله على أحسن أحواله وأفضلها، ووقوفه ووقوف أصحابه صفوفًا يحمدون الله ويستغفرون له، ويسألون له المغفرة والرحمة والتجاوز عنه، ثم المشي بين يديه إلى أن يودعوه حفرته، ثم يقوم هو وأصحابه بين يديه على قبره سائلين له التثبيت أحوج ما كان إليه..
قال: فأول ذلك تعاهده في مرضه، وتذكيره الآخرة، وأمره بالوصية والتوبة، وأمر من حضره بتلقينه شهادة أن لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه، ثم النهي عن عادة الأمم التي لا تؤمن بالبعث والنشور من لطم الخدود وشق الثياب، وحلق الرؤوس، ورفع الصوت بالندب والنياحة وتوابع ذلك.
ورخّص في الخشوع والبكاء الذي لا صوت معه، وحُزْن القلب، وكان يفعل ذلك، ويقول: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب [1].
وسن لأمته الحمد والاسترجاع، والرضى عن الله تعالى، ولم يكن ذلك منافيًا لدمع العين وحزن القلب، ولذلك كان أرضى الخلق عن الله في قضائه، وأعظمهم له حمدًا، وبكى مع ذلك يوم موت ابنه إبراهيم رأفة منه، ورحمة للولد ورقة عليه، والقلب ممتلئ بالرضى عن الله وشكره، واللسان مشتغل بذكره وحمده”.
قال ابن القيم رحمه الله: “ولما ضاق هذا المشهد والجمع بين الأمرين على بعض العارفين يوم مات ولده، جعل يضحك، فقيل له: أتضحك في هذه الحالة؟ قال: إن الله تعالى قضى بقضاء، فأحببت أن أرضى بقضائه، فأشكل هذا على جماعة من أهل العلم، فقالوا: كيف يبكي رسول الله يوم مات ابنه إبراهيم وهو أرضى الخلْق عن الله، ويبلغ الرضى بهذا العارف إلى أن يضحك؟
قال ابن القيم: فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: هدي النبي كان أكمل من هدي هذا العارف، فإنه أعطى العبودية حقها، فاتسع قلبه للرضى عن الله، ولرحمة الولد، والرقة عليه فحمد الله، ورضي عنه في قضائه، وبكى رأفةً ورحمة، فحملته الرأفة على البكاء، وعبوديته لله ومحبته له على الرضى والحمد.
وهذا العارف قد ضاق قلبه عن اجتماع الأمرين، ولم يتسع باطنه لشهودهما والقيام بهما، فشغلَتْه عبودية الرضى عن عبودية الرحمة والرأفة”.
مشروعية الإكثار من ذكر الموت
وقبل أن ننتقل للحديث عن الأحكام المتعلقة بالموت يحسن التذكير بأنه يُسنُّ للإنسان الإكثار من ذكر الموت؛ فإن الموت ما ذُكِر في كثيرٍ إلا قلّله، ولا في قليل إلا كثّره.
إن تذكُّر الموت ليفتح للإنسان باب الزهد في الدنيا في الدار الفانية، والاستعداد للدار الآخرة الباقية، ويجعله يشعر بأن مستقبله الحقيقي ليس في حطام دنيا يحصّله أو مجدٍّ يؤثِّله أو منصبٍ يناله أو جاهٍ بين الناس، ولكن مستقبله الحقيقي إنما يكون فيما بعد الموت من نعيمٍ أبدي في جنات النعيم، أو عذابٍ وشقاء في نار الجحيم.. وإن تفكيرًا عميقًا في هذه الحقيقة المرّة ليهزُّ مشاعر الإنسان ويوقظه للاستعداد لما أمامه من الأهوال العظام.
يقول الحسن البصري رحمه الله: “فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لبٍّ بها فرحًا”.
ويقول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله في خطبة له: “أيها الناس! ألا ترون أنكم تجهّزون كل يومٍ غاديًا ورائحًا إلى الله، تضعونه في صدعٍ من الأرض قد توسّد التراب وخلّف الأحباب”.
ويكفي أن يتذكر الإنسان ساعة الاحتضار عند معالجة خروج الروح وانتقالها من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، ومن مات فقد قامت قيامته، في تلك الساعة تنكمش سنوات العمر التي عاشها الإنسان في هذه الدنيا وتُصبح كأنها مجرّد أحلام، لقد مرّت سنوات العمر سريعًا ومضت جميعًا، وتلاشت الآمال، وتبدّدت الأحلام: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]، فمهما امتد العمر بالإنسان ومهما نال من مُتَعِ الدنيا فلا بد من لقاء الله تعالى، ولا بد من النقلة من دار العمل إلى دار الجزاء والحساب.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: “إن من أعجب الأشياء إفاقة المحتضر عند موته؛ فإنه ينتبه انتباهًا لا يوصف ويقلق قلقًا لا يُحدُّ، ويتلهّف على زمانه الماضي ويود لو تُرِك كي يتدارك ما فاته ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف..”.
قال: “ولو وجِدت ذرّةٌ من تلك الأحوال في أوان العافية لحصل كل مقصودٍ من العلم والتقوى، فالعاقل من مثّل تلك الساعة بين يديه وعمل بمقتضى ذلك”.
مشروعية تغليب جانب الرجاء عند المرض
وينبغي لمن كان مريضًا أن يغلِّب جانب الرجاء، وأن يُحسن الظن بالله تعالى بأن يظن أن الله تعالى سيرحمه وسيعفو عنه، ويتأكد هذا في حق من كان مرضه ميؤوسًا منه عند الأطباء، وقد أحسّ بقرب أجله، ويدل لذلك ما جاء في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله قبل موته بثلاثٍ، يقول: لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى [2].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: قال الله : أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني [3]، وفي رواية لمسلم: وأنا معه إذا دعاني [4].
قال أهل العلم: وفي هذا تحذيرٌ من القنوط وحثٌّ على الرجاء عند الخاتمة.
ويُسنُّ لمن عاد هذا المريض تطميعه في رحمة الله، وتذكيره بتغليب جانب الرجاء وإحسان الظن بالله تعالى، وأن يذكَّر هذا المريض أيضًا بالوصية؛ لقول النبي : ما حق امرئ مسلمٍ له شيءٌ يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده [5]، وبعض المرضى ربما يذهل عن هذه المعاني خاصة مع ما قد يعانون منه من آلام المرض والانشغال بأنفسهم، ولهذا فيتأكد في حق من يعودهم تذكيرهم بهذه المعاني بلطف ورفقٍ وأدب، خاصة من اشتد مرضه وربما أحس بقرب لقائه بربه.
أسأل الله تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يحسن خاتمتنا، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها.
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.