إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
تتمة شروط صحة صلاة الجمعة
سبق الحديث في الحلقة السابقة عن شروط صحة الجمعة، وذكرنا أنه يُشترط لها أربعة شروط:
- الأول: أن تكون في وقتها المحدد شرعًا.
- الثاني: حضور العدد المعتبر شرعًَا؛ وهو ثلاثة على القول الراجح: اثنان يستمعان والثالث يخطب.
- الثالث: الاستيطان، وتكلمنا عن هذه الشروط الثلاثة بالتفصيل.
ووعدنا بتخصيص هذه الحلقة للحديث عن الشرط الرابع وهو: تقدُّم خطبتين.
تقدُّم خطبتين
فأقول وبالله التوفيق: يُشترط لصحة الجمعة أن يتقدمها خطبتان، فلو تأخرت الخطبتان بعد الصلاة لم تصح.
واشترط بعض الفقهاء لصحة الخطبتين: حمْدُ الله تعالى، والصلاة على رسول الله محمد ، وقراءة آية من القرآن، والوصية بتقوى الله ؛ وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
وذهب بعض العلماء إلى أن ذلك غير مشترط، وأنه إذا خطب خطبة يحصل بها المقصود والموعظة أن ذلك كافٍ.
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله: والصواب أنه إذا خطب خطبة يحصل بها المقصود والموعظة أن ذلك كافٍ وإن لم يلتزم بتلك المذكورات، نعم من كمال الخطبة الثناء فيها على الله تعالى وعلى رسوله ، وأن تشتمل على قراءة شيءٍ من كتاب الله ، وأما كون هذه الأمور شروطًا لا تصح إلا بها سواء تركها عمدًا أو خطأً أو سهوًا ففيه نظرٌ ظاهر.
وكذلك كون مجرد الإتيان بهذه الأركان الأربعة من دون موعظة تحرّك القلوب يجزئ ويُسقط الواجب، وذلك لا يحصل به مقصودٌ؛ فغير صحيح.
حكم الطهارة للخطبتين
ولا يُشترط لصحة الخطبتين الطهارة، فلو خطب وهو محدثٍ فالخطبة صحيحة؛ لأنها ذِكرٌ وليست صلاة، وقد يقع مثل هذا عندما يدخل الخطيب وهو ناسٍ أن يتوضأ، أو أنه قد توضأ ثم أحدث ونسي أن يعيد الوضوء ونحو ذلك، فإذا تذكّر هذا بعد الفراغ من الخطبتين، تذكّر أنه ليس على طهارة، فهل تصح الخطبتان أو يؤمر بإعادتهما؟
الجواب: تصح الخطبتان؛ لأنه لا يُشترط لهما الطهارة.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “ويُشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة في إحدى الروايتين عن الإمام أحمد؛ لأن النبي كان يفعله، وقد قال: صلوا كما رأيتموني أصلي [1]؛ ولأن الخطبة أُقيمت مقام الركعتين، لكن يجوز الاستخلاف للعذر، أيْ في أثناء الصلاة، ففي الخطبة والصلاة أولى، وعن الإمام أحمد أنه يجوز الاستخلاف لغير عذر؛ لأن الخطبة منفصلةٌ عن الصلاة”.
وهذا القول الأخير وهو أنه يجوز أن يتولى الصلاة رجلٌ آخر غير الخطيب لعله هو الأقرب في هذه المسألة؛ إذ لا دليل يدل على اشتراط ذلك، ولانفصال الخطبة عن الصلاة، ولكن مع ذلك يُستحب أن يتولى الصلاة من يتولى الخطبة؛ لأن هذا هو هدي النبي وهدي خلفائه الراشدين من بعده، وينبغي للخطيب ألا يستخلف من يتولى الصلاة إلا عند وجود الحاجة الملحّة.
هدي النبي في الخطبة
قال ابن القيم رحمه الله مبيّنًا هدي النبي في خطبته: “خطبة الجمعة يقصد بها الثناء على الله تعالى وتمجيده، والشهادة له بالوحدانية ولرسوله بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه، وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جنانه، ونهيهم عمّا يقربهم من سخطه وناره؛ فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها..
قال رحمه الله: وهكذا كانت خطب النبي ، إنما هي لتقرير أصول الإيمان: من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا، ومعرفة بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمورًا مشتركة بين الخلائق؛ وهي النوح على الحياة، والتخويف بالموت، فإن هذا أمرٌ لا يحصِّل في القلب إيمانًا بالله، ولا توحيدًا له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيرًا بأيامه، ولا بعثًا للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة، غير أنهم يموتون وتُقسم أموالهم ويبلي التراب أجسامهم، فيا ليت شعري أيُّ إيمانٌ حصل بهذا؟ وأي توحيدٍ ومعرفةٍ وعلمٍ نافعٍ حصل به؟
قال: ومن تأمل خُطَبَ النبي وخُطَبَ أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب ، وأصول الإيمان الكلية والدعوة إلى الله، وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه وأيامه التي تخوّفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحبِّبه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحبِّبُهم إليه فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم..
قال ابن القيم: ثم طال العهد وخفي نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر رسومًا تُقام من غير مراعاة لحقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها وزينوها بما زينوها به، فجعلوا الرسوم والأوضاع سننًا لا ينبغي الإخلال به، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصعوا الخطب بالتسجيع والفقر وعِلْم البديع فنَقَصَ بل عَدِمَ حظُّ القلوب منها وفات المقصود بها”.
وهذا الذي قاله يحكي طابع الخطب في عصره، وهذا الذي قد ذكره رحمه الله هو موجودٌ في خطب كثير من الناس اليوم، فبعض الخطباء يجعل الخطبة كأنها موضوع إنشاء مدرسي يرتجل فيه ما يحضره من الكلام بمناسبة وبدون مناسبة، ويطيل الخطبة تطويلًا مملًا، فهبطوا بالخُطَبِ إلى هذا المستوى الذي لم تعد معه مؤدية للغرض المطلوب من التأثير والتأثُّر والإفادة.
وبعض الخطباء يُقحِم في الخطبة مواضيع لا تتناسب مع موضوعها، وليس من الحكمة ذكرها في هذا المقام، وقد لا يفهمها غالب الحضور؛ لأنها أرفع من مستواهم، فيدخلون فيها الأوضاع السياسية والمواضيع الصحفية، وسرد المجريات التي لا يستفيد منها الحاضرون.
فينبغي للخطباء أن يتأسوا وأن يقتدوا بالنبي في خطبه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وأن يركّزوا في مواضيعها على نصوص القرآن والسنة التي تتناسب مع المقام، وأن يضمّنوها الوصية بتقوى الله والموعظة الحسنة، وأن يعالجوا بها أمراض المجتمع بأسلوبٍ واضحٍ مركّزٍ مختصر، وأن يكثروا فيها من قراءة القرآن العظيم الذي به حياة القلوب ونور البصائر: قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لا يكفي في الخطبة ذمُّ الدنيا وذكر الموت؛ لأنه لا بد من اسم الخطبة عرفًا بما يحرّك القلوب، ويبعث بها على الخير، بل لا بد من الحث على الطاعة، والزجر عن المعصية، والدعوة إلى الله تعالى، والتذكير بآلائه..
قال: ولا تحصل الخطبة باختصارٍ يفوت به المقصود، وقد كان النبي إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيشٍ يقول: صبّحكم ومسّاكم [2]”.
لا يوجد في أي دينٍ من الأديان أو ملة من الملل مثل هذا الاجتماع الأسبوعي للمسلمين في خطبتي وصلاة الجمعة، يجتمع الناس على مختلف طبقاتهم ومستوياتهم، ينصتون للخطبة، وربما لو أراد أحدٌ من الناس أن يجمع مثل هذا الجمع لما استطاع، ولو قُدِّر أنه استطاع لما أمكن استنصاتهم.
فيا أيها الخطباء! إن خطبة الجمعة فرصةٌ للدعوة إلى الله تعالى، ولتعليم الناس أمور دينهم، إنها منبرٌ إعلاميٌ مؤثّرٌ جدًا، ولو أن كل خطيبٍ استشعر مسؤولية المنبر وأعطاه حقه؛ لكان له الأثر البالغ في توجيه الناس وإرشادهم.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا السداد في القول والعمل، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يعيننا على شكره وذكره وحسن عبادته.
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.