الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
لا يزال الحديث موصولًا عن أحكام صلاة الجمعة، وأتحدث معكم في هذه الحلقة عما يسن لمن يأتي الجمعة، فأقول وبالله التوفيق:
سنن يوم الجمعة
الغسل
يُسنُّ لمن أتى الجمعة أن يغتسل، وهو أمرٌ مؤكدٌ جدًا حتى إن بعض أهل العلم قال بوجوبه، ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قَالَ: إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل [1]، ويدل لذلك أيضًا ما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله قال: غُسْل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم [2]، والمراد بالمحتلم: البالغ.
وقد أخذ بظاهر هذه الأحاديث بعض العلماء فأوجبوا الغسل على كل من أتى الجمعة.
وذهب أكثر العلماء إلى أنه مستحبٌ استحبابًا مؤكدًا، وهذا هو الأقرب؛ لأنه قد وردت أحاديث أخرى تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب، ومنها ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غُفِر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام [3]، فذُكِر في هذا الحديث الوضوء فقط، ولو كان الغسل واجبًا لذُكِر.
ويدل لذلك أيضًا ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: “أن عمر بن الخطاب بينا هو يخطب الناس يوم الجمعة، إذ دخل رجلٌ من أصحاب رسول الله فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ فقال: إني شُغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النداء فلم أزد على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضًا، وقد علمت أن رسول الله كان يأمر بالغسل؟!” [4].
قال النووي في بيان وجه الدلالة: “إن عمر قد أقره على ترك الغسل هو وحاضروا الجمعة وهم أهل الحل والعقد، ولو كان الغسل واجبًا لما تركه ولألزموه”.
قال النووي: “ويدل لذلك أيضًا قول النبي : من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل قال: وهو حديثٌ حسن في السنن مشهور، وأما قول النبي : غُسْل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم، فهذا أسلوبٌ عند العرب يعنون به التأكيد -أيْ متأكدٌ في حقه-، كما يقول الرجل لصاحبه: حقك عليّ واجب أيْ متأكد، لا أن المراد الواجب المعاقب عليه”.
ومع قولنا: إن الاغتسال للجمعة ليس بواجب إلا أنه مستحبٌ متأكد الاستحباب، فينبغي للمسلم أن يحرص عليه، ويلاحظ أن بعض الناس هداهم الله يتساهلون في الإتيان بهذه السنة، وربما يكون من أسباب ذلك أنهم يتأخرون في الإتيان للجمعة فلا يتمكنون من الإتيان بهذه السنة، وإنه لمن الحرمان العظيم أن يكون التأخُّر وترك هذه السنة عادة للإنسان، والموفَّق من وفّقه الله تعالى.
وقد جاء في حديث أبي هريرة في الصحيحين أَنَّ النبي قَالَ: من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة ثم راح فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة… الحديث [5]، فقوله: من اغتسل غسل الجنابة أي غُسْلًا كغسل الجنابة، وهذا فيه دلالة على أنه ينبغي أن تكون صفة غسل الجمعة كصفة غسل الجنابة.
وقال بعض أهل العلم: إن في هذا إشارة إلى الجماع يوم الجمعة ليغتسل فيه من الجنابة، وأن الحكمة أن تسكن نفسه في الرواح إلى الصلاة ولا تمتد عينه إلى شيءٍ يراه، وأن فيه أيضًا حمْلًا للمرأة على الاغتسال في ذلك اليوم.
قالوا: ويدل لذلك حديث من غسّل واغتسل في السنن، ولكن الأقرب -والله أعلم- هو القول الأول.
التطيب
ومن السنن أيضًا لمن أتى الجمعة: مسّ الطيب أو الدهن، ويدل لذلك ما جاء في صحيح البخاري عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله : لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدّهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرّق بين اثنين، ثم يصلي ما كُتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام.. إلا غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى [6]، وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: غُسْل يوم الجمعة على كل محتلم وسواكٌ ويمس من الطيب ما قدر عليه ولو من طيب المرأة [7]، وَقَوْلُهُ: ولو من طيب المرأة دليلٌ على تأكد التطيب في حق من أتى الجمعة؛ حيث حثّه النبي على التطيب ولو لم يجد طيبًا إلا الطيب الخاص بالنساء.
وفي هذا دلالة على أنه لا بأس بتطيب الرجال بالطيب الخاص بالنساء، وأن ذلك لا يعد تشبهًا.
السواك
وقد دل حديث أبي سعيد السابق على تأكد استحباب السواك لمن أتى الجمعة، ولهذا بوّب البخاري في صحيحه بقوله: بابٌ السواك يوم الجمعة، وقال أبو سعيد عن النبي يستن أيْ يدلك أسنانه بالسواك.
قال ابن المنيّر: لما خُصّت الجمعة بطلب تحسين الظاهر من الغسل والتنظيف والتطيب؛ ناسب ذلك تطييب الفم الذي هو محل الذكر والمناجاة، وإزالة ما يضر الملائكة وبني آدم.
لبس أحسن الثياب
ومن السنن لمن أتى الجمعة: أن يلبس أحسن ثيابه، قال البخاري في صحيحه: “بابٌ يلبس أحسن ما يجد”، ثم ساق بسنده عن عبدالله بن عمر: “أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء -أيْ من حرير- عند باب المسجد فقال: يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله : إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة” [8].
قال الحافظ ابن حجر: “ووجه الاستدلال به من جهة تقريره لعمر على أصل التجمُّل للجمعة، وقصر الإنكار على لبس مثل تلك الحُلّة لكونها كانت حريرًا”.
والمعروف من هدي النبي أنه كان يلبس يوم الجمعة أحسن ثيابه، ومن هنا فإن السنة لمن أتى الجمعة أن يأخذ زينته، وأن يتجمّل ويلبس أحسن ثيابه؛ لعموم قول الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، أيْ عند كل صلاة، ويتأكد ذلك في صلاة الجمعة.
والزينة والتجمُّل مما تختلف باختلاف الأعراف والأحوال، فمثلًا إذا كان لبس المشلح أو العباءة في عرف الناس من الزينة والتجمُّل كان مندوبًا إليه لمن أتى الجمعة.
التبكير في الإتيان للجمعة
ومن السنن لمن أتى الجمعة: التبكير في الإتيان للجمعة، وهذا وإن كان مطلوبًا في جميع الصلوات إلا أنه متأكدٌ في الجمعة، وقد ورد فيه فضلٌ خاص، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر [9]، وهذا الحديث يدل على فضل التبكير لصلاة الجمعة وأن له فضلًا خاصًا.
قال ابن القيم رحمه الله: “لما كان يوم الجمعة في الأسبوع كالعيد في العام، وكان العيد مشتملًا على صلاة وقربان، وكان يوم الجمعة يوم صلاة جعل الله سبحانه التعجيل فيه إلى المسجد بدلًا من القربان، وقائمًا مقامه، فيجتمع للرائح فيه الصلاة والقربان”.
وقد اختلف العلماء في المراد بالساعات المذكورة في هذا الحديث، وأقرب الأقوال -والله أعلم- أن المراد بها ما يُعرف عند أهل الميقات بالساعات الآفاقية، وذلك بأن يُقسم النهار إلى اثني عشر جزءًا، فكل جزءٍ يسمى ساعة، ويدل لذلك حديث جابر أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة [10]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود، والنسائي بسندٍ جيد.
وهذه الساعة الآفاقية قد تكون ستين دقيقة أو أقل أو أكثر بحسب طول النهار وقصره، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه ذكر النبي خمس ساعات، ودخول الخطيب إنما يكون عند الساعة السادسة؛ لأنها هي التي تكون عند زوال الشمس، وقد كان النبي يخطب الناس إذا زالت الشمس، فتكون إذن بداية الساعة الأولى بعد طلوع الشمس بساعة، وكأنه جُعِلت هذه الساعة لأجل أن يغتسل الإنسان فيها، وأن يتنظّف ويتهيأ.
وظاهر هذا الحديث أن من أتى الجامع بعد دخول الخطيب لا يُكتب له من أجر التبكير شيء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر [11]، أيْ الخطبة، وجاء في رواية أخرى: فإذا خرج الإمام طويت الصحف، وحضرت الملائكة تستمع الذكر، وجاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن خزيمة: فيقول بعض الملائكة لبعض: ما حبس فلانًا؟ فتقول: اللهم إن كان ضالًا فاهده، وإن كان فقيرًا فأغنه، وإن كان مريضًا فعافه [12].
وإنه لمن الحرمان أن يفوّت الإنسان على نفسه هذا الأجر العظيم وهذا الثواب الجزيل، خاصة إذا كان قد اعتاد على ألا يأتي الجمعة إلا بعد دخول الخطيب، فلا يُكتب له من أجر التبكير شيء.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا لما يرضيه، وأن يرزقنا السداد في القول والعمل، وأن يعيننا على طاعته وحسن عبادته.
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 877، ومسلم: 844. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 879، 858، مسلم: 846. |
^3 | رواه مسلم: 857. |
^4 | رواه البخاري: 878، مسلم: 845. |
^5 | رواه البخاري: 881، ومسلم: 850. |
^6 | رواه البخاري: 883. |
^7 | رواه مسلم: 846. |
^8 | رواه البخاري: 886. |
^9 | سبق تخريجه. |
^10 | رواه ابو داود: 1048. |
^11 | رواه البخاري: 881. |
^12 | رواه ابن خزيمة في صحيحه: 1771. |