عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
لا يزال الحديث موصولًا عن أحكام صلاة الجمعة، وأتحدث معكم في هذه الحلقة عن شروط صحتها.
من شروط صحة صلاة الجمعة
الوقت
وأبتدئ بالحديث عن الشرط الأول وهو الوقت؛ فلا تصح قبل دخول وقتها، ولا تصح بعد خروج وقتها.
وشرط الوقت هو آكد شروط الصلاة، سواء في صلاة الجمعة أو في غيرها من الصلوات، ولهذا إذا دخل الوقت يصلي المسلم على حسب حاله، ولو ترك ما لا يقدر عليه من الشروط والأركان، فلو دخل الوقت على الإنسان وليس عنده ماءٌ ولا ترابٌ، أو لا يستطيع أن يتطهر أو لا يستطيع القيام أو لا يستطيع التوجُّه إلى القبلة صلى على حسب حاله، ولا يترك الصلاة حتى يخرج وقتها.
وقت صلاة الجمعة
ونعود بعد ذلك للحديث عن وقت صلاة الجمعة، وقد اتفق العلماء على أن آخره هو آخر وقت صلاة الظهر، وذلك إذا كان ظل الشيء كطوله بعد ظل الزوال، وأما أول وقت صلاة الجمعة فقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال:
- الأول: أنه من أول وقت صلاة العيد وهو من بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، أيْ بعد طلوع الشمس بحوالي عشر دقائق، وهذا القول هو المشهور من مذهب الحنابلة وهو من المفردات.
- الثاني: أنها تصح في الساعة السادسة قبل الزوال بساعة، وهذا القول رواية عن أحمد اختارها الخرقي والموفق ابن قدامة.
وقد استدل أصحاب هذين القولين بقول ابن سيدان قال: “شهدت الجمعة مع أبي بكر رضي الله عنه فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، وشهدتها مع عمر رضي الله عنه فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان رضي الله عنه فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول قد زال النهار، فما رأيت أحدًا عاب ذلك ولا أنكره”. وهذا الأثر رجاله ثقات إلا أن عبدالله بن سيدان غير معروف العدالة، قال البخاري: “لا يُتابع على حديثه”، فيكون هذا الأثر ضعيفًا.
- القول الثالث في المسألة: أن ابتداء وقت صلاة الجمعة من بعد زوال الشمس، وإليه ذهب أكثر العلماء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وهذا القول هو القول الراجح في هذه المسألة، والله أعلم.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: بابٌ وقت الجمعة إذا زالت الشمس”، وكذلك يروى عن عمر، وعلي، والنعمان بن بشير، وعمرو بن حريث .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “جزم البخاري رحمه الله بهذه المسألة مع وقوع الخلاف فيها لضعف دليل المخالف عنده”.
ثم ساق البخاري بسنده عن أنس بن مالك : “أن النبي كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس” [1]، أيْ تزول، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وفي هذا الحديث إشعارٌ لمواظبته على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس”.
قال: وروى ابن أبي شيبة عن سويد بن غفلة رضي الله عنه: “أنه صلى مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين زالت الشمس”؛ وإسناده قوي، وفي حديث السقيفة عن ابن عباس رضي الله عنها قال: “فلما كان يوم الجمعة وزالت الشمس خرج عمر رضي الله عنه فجلس على المنبر”.
وهذه الأحاديث والآثار تدل على أن هدي النبي وخلفائه الراشدين من بعده أنهم كانوا يصلون الجمعة إذا زالت الشمس.
وأما القول الأول وهو أن ابتداء وقتها هو ابتداء وقت صلاة العيد، أيْ من بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، فقولٌ ضعيف، ولهذا قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وأما فعلها في أول النهار فالصحيح أنه لا يجوز؛ لما ذكره أكثر العلماء، ولأن التوقيت لا يثبت إلا بدليلٍ من نصٍ أو ما يقوم مقامه، وما ثبت عن النبي ولا خلفائه أنهم صلوها في أول النهار، ولأن مقتضى الدليل كون وقتها وقت الظهر”.
وأما القول الثاني وهو: أن ابتداء وقتها في الساعة السادسة قبل الزوال فلا دليل عليه.
والراجح هو ما عليه أكثر أهل العلم: من أن ابتداء وقت صلاة الجمعة بعد الزوال، وهو ظاهر السنة، لكن كان عليه الصلاة والسلام يبادر بالدخول للخطبة بعد الزوال مباشرة من غير تأخير، كما يدل لذلك حديث أنس السابق.
ومن هنا ينبغي للخطباء أن لا يدخلوا إلا بعد زوال الشمس؛ فإن الخطيب إذا دخل قبل الزوال فقد عرّض صلاته وصلاة المأمومين خلفه للبطلان على رأي أكثر العلماء، لكونها قد وقعت قبل دخول وقتها.
حكم جعل الخطبة قبل الزوال والصلاة بعده
ولكن هل للخطيب أن يجعل الخطبة قبل الزوال والصلاة بعدها؟
على رأي جماهير أهل العلم ليس له ذلك؛ لأن الخطبة جزءٌ من صلاة الجمعة، ولهذا سماها الله تعالى هي والصلاة ذكر الله، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، وذِكْر الله في الآية يشمل الخطبة والصلاة.
قال بعض الفقهاء: إنما كانت صلاة الجمعة ركعتين؛ لأن خطبتي الجمعة تقوم عن ركعتين.
قال في “الإنصاف”: “هاتان الخطبتان بدلٌ عن ركعتين”.
حضور العدد المعتبر شرعًا
الشرط الثاني من شروط صحة الجمعة: حضور العدد المعتبر شرعًا، وقد اختُلِف فيه فقيل: أربعون رجلًا، وقيل: خمسون، وقيل: اثنا عشر، وقيل: أربعة رجال، وقيل: ثلاثة رجال.
وهذا القول الأخير هو الأقرب في هذه المسألة والله أعلم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ويدل له قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه [الجمعة:9]، بصيغة الجمع، وأقل الجمع: ثلاثة، فيكون اثنان يستمعان، والثالث يخطب، ويدل لذلك أيضًا حديث أبي الدرداء أن النبي قال: ما من ثلاثة في قرية لا تُقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان [2]، أخرجه أبو داود، والنسائي، وأحمد، وابن خزيمة، وابن حبان؛ بسند حسن، ولفظ الصلاة في هذا الحديث عامٌ فيشمل الجمعة وغيرها.
وأما الأقوال الأخرى فأدلتها إما صحيحة غير صريحة، وإما صريحة غير صحيحة، والله تعالى أعلم.
أن يكونوا بقرية مستوطنين
الشرط الثالث من شروط صحة الجمعة: أن يكونوا بقرية مستوطنين؛ والقرية إذا أُطلقت في اللغة العربية فإنها تشمل المدينة والمصر، ولهذا سمى الله تعالى مكة بأم القرى، وقال : وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [يس:13]، وفي آخر الآيات قال: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس:20]، فسماها الله تعالى: قرية ومدينة.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “الاستيطان شرطٌ لصحة الجمعة في قول أكثر أهل العلم، وهو الإقامة في قرية مبنية بما جرت العادة بالبناء به، فلا يظعنون عنها صيفًا ولا شتاءً، فأما أهل الخيام وبيوت الشعر فلا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم؛ لأن ذلك لا يُنصب للاستيطان غالبًا، وقد كانت قبائل العرب حول المدينة فلم يقيموا الجمعة، ولم يأمرهم النبي بإقامتها، لكن إذا كانوا مقيمين بموضعٍ يسمعون النداء؛ لزمهم السعي إليه، ويجوز إقامة الجمعة في الأبنية المتفرّقة إذا شملها اسمٌ واحد، إذا كان تفرّقًا قد جرت به العادة، أما إذا كان تفرقًا لم تجر به العادة لم تجب عليهم الجمعة”.
وبناءً على هذا الشرط فإن المسافر ليس له أن يقيم الجمعة في السفر، ولكن إذا صلى الجمعة خلف المستوطن صحّت منه.
وهكذا أهل البوادي ليس لهم أن يقيموا الجمعة، والمقصود بالبوادي هنا من يقيم في البرّية ولا يستقر في مكانٍ واحد، بل يتتبع العشب والكلأ، أما إذا كانوا مقيمين في قرية إقامة دائمة لا يرتحلون صيفًا ولا شتاءً فإن هؤلاء مستوطنون يجب عليهم إقامة الجمعة إذا تحققت الشروط الأخرى.
وبناءً على هذا الشرط كذلك لو أن جماعة خرجوا بعيدًا عن البلد لنزهة مثلًا وأقاموا أيامًا، فليس لهم إقامة الجمعة لكونهم غير مستوطنين وإنما يصلونها ظهرًا.
أن يتقدمها خطبتان
الشرط الرابع من شروط صحة الجمعة: أن يتقدمها خطبتان؛ وسيأتي الكلام مفصلًا عن هذا الشرط في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا للفقه في الدين، وأن يمنّ علينا بالعلم النافع والعمل الصالح.
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.