عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
مسائل متعلقة بخطبة وصلاة الجمعة
حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج، ولا يزال حديثنا موصولًا عن الأحكام والمسائل المتعلقة بخطبة وصلاة الجمعة، فأقول وبالله التوفيق:
تخطي الرقاب يوم الجمعة
مما ورد النهي عنه تخطي رقاب الناس يوم الجمعة، فعن عبدالله بن بسر قال: “جاء رجلٌ يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي يخطب، فقال النبي : اجلس فقد آذيت [1]، أخرجه أبو داود، والنسائي، وأخرجه أحمد بلفظ: اجلس فقد آذيت وآنيت [2].
وقد بوّب البخاري رحمه الله في صحيح على هذه المسألة بقوله: “بابٌ لا يفرِّق بين اثنين يوم الجمعة”، ثم ساق بسنده عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله : من اغتسل يوم الجمعة وتطهّر بما استطاع من طهر ثم ادّهن أو مسّ من طيبٍ، ثم راح فلم يفرّق بين اثنين، فصلى ما كُتِب له، ثم إذا خرج الإمام أنصت؛ غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى [3].
والشاهد قوله: فلم يفرّق بين اثنين قال ابن المنيّر رحمه الله: “التفرقة بين اثنين تتناول القعود بينهما، وإخراج أحدهما، والقعود مكانه، وقد يُطلق على مجرد التخطي، وفي التخطي زيادة رفع رجليه على رؤوسهما أو أكتافهما، وربما تعلّق بأكتافهما شيءٌ مما برجليه”.
وقد استُثني من كراهة التخطّي ما إذا كان في الصفوف الأوَلِ فُرجة فأراد الداخل سدّها، فيُغتفر له لتقصيرهم؛ أيْ: في سدّها.
حكم تخطّي الرقاب يوم الجمعة
وقد اختلف العلماء في حكم تخطّي الرقاب هل هو مكروه أو محرّم؟
فالجمهور على أنه مكروه، ومن أهل العلم من قال بتحريمه لظاهر الأدلة السابقة، وخاصة حديث: اجلس فقد آذيت، قالوا: قطع النبي للخطبة وأمر هذا الرجل المتخطي بالجلوس، ووصف عمله بالأذية؛ يقتضي أن هذا العمل محرّم.
ثم إن هذا المتخطّي للرقاب مع كونه يؤذي الناس يشغلهم عن استماع الخطبة، فيشغل من تخطى رقبته، ويُشغل من يراه ويشاهده.
وإنك لتعجب عندما ترى مَنْ مِنَ الناس من قد اعتاد على التأخر في الإتيان للجمعة، فلا يأتي لها إلا بعد دخول الخطيب، ثم مع تأخُّره يتخطى الرقاب للجلوس في الصفوف الأوَل، أو أنه يجد الجامع ممتلئًا فيتخطى الرقاب للبحث عن مكانٍ له.
وتصرّفه هذا على كلا التقديرين دائرٌ بين الكراهة والتحريم، والذي ينبغي لمن أتى متأخرًا أن يجلس في أقرب مكانٍ يتهيأ له في الجامع، فإن لم يجد انتظر حتى يتهيأ له، خاصة وأنه مع إقامة الصلاة وتراصّ الصفوف يتهيأ أماكن لمن يأتي متأخرًا.
تحية المسجد لمن دخل أثناء الخطبة
ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما، ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن جابر رضي الله عنهما قال: “جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله يخطب فجلس، فقال له: يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما، ثم قال : إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب؛ فليركع ركعتين، وليتجوّز فيهما [4]، وقد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن للخطيب أن يأمر في خطبته وينهى، ويبيّن الأحكام المحتاج إليها، وأن ذلك لا يقطع التوالي المشترط فيها، بل إن ذلك التوجيه والأمر والنهي إنما هو في الحقيقة جزءٌ من الخطبة، فإذا رأى الخطيب من جلس دون أن يصلي ركعتين يقطع الخطبة، ويوجّهه، ويبيّن للناس الحكم في هذه المسألة، أو إذا رأى الخطيب مثلًا أناسًا يتحدثون أثناء الخطبة فله أن ينكر عليهم، وأن يوجّههم، وأن يبيِّن حرمة الكلام من المستمع للخطبة.
ولا يدخل هذا في قول النبي : إذا قلت لصاحبك: “أنصت” والإمام يخطب فقد لغوت [5]؛ فإن هذا النهي خاصٌ بالمستمع للخطبة، ولا يدخل فيه الخطيب؛ لأن مقام الخطيب مقام توجيهٍ وإرشاد.
ما يُقرأ بعد الفاتحة في صلاة الجمعة؟
ومن المسائل المتعلقة بصلاة الجمعة: أن ما يُقرأ به بعد الفاتحة في صلاة الجمعة قد ورد فيه ثلاث سنن:
- الأولى: قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى، وسورة المنافقون في الركعة الثانية، ويدل لذلك ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة : “أَنَّ النَّبِيَّ كان يقرأ بهاتين السورتين في صلاة الجمعة”.
- الثانية: قراءة سورة الأعلى في الركعة الأولى، وسورة الغاشية في الركعة الثانية، ويدل لذلك ما جاء في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: “أَنَّ النَّبِيَّ كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وإذا اجتمع العيد والجمعة في يومٍ واحد يقرأ بهما أيضًا في الصلاتين” [6].
- الثالثة: مما ورد في القراءة في صلاة الجمعة، وهي ربما مما يخفى على كثيرٍ من الناس: قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى، وسورة الغاشية في الركعة الثانية، ويدل لذلك ما جاء في صحيح مسلم أن الضحاك بن قيس كتب إلى النعمان بن بشير رضي الله عنه يسأله أيّ شيءٍ قرأ رسول الله يوم الجمعة سوى سورة الجمعة؟ فقال: “كان يقرأ هَلْ أَتَاكَ” يعني سورة هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [7].
التنفل قبل الجمعة
ومن المسائل المتعلقة بالجمعة: أن من أتى الجمعة فيصلي ما كُتب له مثنى مثنى من غير تقديرٍ بعدد، فليس قبل صلاة الجمعة سُنة مقدّرةٌ بعدد، ويدل لذلك حديث سلمان السابق: من اغتسل يوم الجمعة، وتطهر بما استطاع من طهرٍ، ثم ادّهن أو مس من طيب، ثم راح فلم يفرّق بين اثنين، فصلى ما كُتب له، ثم إذا خرج الإمام أنصت؛ غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى [8].
والشاهد قوله: صلى ما كُتب له، ولم يقيّد ذلك النبي بعدد معيّن، فدل ذلك على أن الصلاة قبل الجمعة لا تُقدَّر بعدد.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة : أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: من اغتسل يوم الجمعة ثم أتى المسجد فصلى ما قُدِّر له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ثم يصلي معه غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام [9].
والشاهد قوله: فصلى ما قُدِّر له، ولم يقيد ذلك بعددٍ معيّن، وهذا هو المأثور عن كثير من السلف كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يشتغلون بالصلاة إلى قبيل وقت النهي قبيل الزوال، قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ: رأيت أبا عبدالله، يعني الإمام أحمد، إذا كان يوم الجمعة يصلي إلى أن يعلم أن الشمس قد قاربت أن تزول، فإذا قاربت أمسك عن الصلاة، والصلاة هي أحب العمل إلى الله تعالى كما صحّ ذلك عن النبي ، فإذا تيسّر لمن أتى الجمعة أن يشتغل بالصلاة إلى مقاربة وقت النهي قُبيل الزوال كان ذلك حسنًا، وهو أفضل ما يشتغل به من أنواع القُرَب؛ لأن الصلاة يجتمع فيها من الذكر وتلاوة القرآن والدعاء والتعظيم لله تعالى بالركوع والسجود، وغير ذلك ما لا يجتمع في غيرها من العبادات، ولهذا كانت أحب العمل إلى الله تعالى.
التطوع بعد الجمعة
وأما السنة بعد صلاة الجمعة: فقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه وصف تطوّع النبي قال: “فكان لا يصلي الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته”، وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: إذا صلى أحدكم الجمعة فليصلّ بعدها أربعًا [10].
وقد اختلف العلماء في الجمع بين هذين الحديثين؛ فقال بعضهم: إن صلى بعد الجمعة في المسجد صلى أربعًا، وإن صلى في بيته صلى ركعتين.
وقال آخرون: بل المشروع أن يصلي بعد الجمعة أربع ركعات؛ لأن حديث أبي هريرة إذا صلى أحدكم الجمعة فليصلِّ بعدها أربعًا [11]، إنما هو من قول النبي ، بينما حديث ابن عمر: “أَنَّ النَّبِيَّ كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته”، فمن فعل النبي ، ومعلومٌ أن دلالة القول أقوى وأصرح من دلالة الفعل، كما هو مقررٌ عند الأصوليين، وذلك لأن الفعل يتطرَّقُ إليه عدة احتمالات، بخلاف القول فدلالته صريحةٌ على المراد.
وهذا القول الأخير لعله هو الأقرب في هذه المسألة، والله أعلم.
والحاصل أيها الإخوة: أن من أتى الجمعة فإنه يصلي ما قُدِّر له مثنى مثنى من غير تحديدٍ بعددٍ معيَّن، هذا قبل الصلاة، وأما بعد صلاة الجمعة فإنه يصلي بعدها أربعًا.
أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علمًا نافعًا، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.