عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حديثنا في هذه الحلقة وفي حلقات قادمة إن شاء الله تعالى عن أحكام صلاة الجمعة، وأبتدئ الحديث في هذه الحلقة عن فضلها، وبعض خصائصها وشروط وجوبها، فأقول وبالله التوفيق:
فضل يوم الجمعة
يوم الجمعة كان يسمى في الجاهلية بـ(العروبة)، واختُلِف في سبب تسميته بالجمعة على أقوال، واختار الحافظ ابن حجر رحمه الله أنه سمي بذلك؛ لأن خلق آدم جُمِع فيه، قال: “وقد ورد في ذلك حديث سلمان أخرجه أحمد وابن خزيمة”.
ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويدل لذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: خير يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلِق آدم، وفيه أدخل الجنة وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة [1].
وقد هدى الله تعالى هذه الأمة إليها بعدما ضلّ عنها الأمم السابقة، فاختلف فيها اليهود فصارت جمعتهم السبت، واختلف فيها النصارى فصارت جمعتهم الأحد، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله قال: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلِنا، ثم هذا يومهم الذي فُرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع اليهود غدًا والنصارى بعد غد [2].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “قوله: نحن الآخرون السابقون أيْ الآخرون زمانًا، والأولون منزلة، والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية فهي سابقةٌ لهم في الآخرة، بأنهم أول من يُحشر وأول من يُحاسب، وأول من يُقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة، وفي حديث حذيفة عند مسلم: نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة؛ المقضي لهم قبل الخلائق [3].
قال ابن القيم رحمه الله: يستحب أن يتفرغ في يوم الجمعة للعبادة، وله على سائر الأيام منزلةٌ بأنواعٍ من العبادات واجبة ومستحبة، فالله سبحانه جعل لأهل كل ملة يومًا يتفرغون فيه للعبادة، ويتخلون عن أشغال الدنيا، فيوم الجمعة يوم عبادة، وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان.
خصائص صلاة الجمعة
وصلاة الجمعة صلاة مستقلّة ليست بدلًا عن الظهر، ويدل لذلك قول عمر : “صلاة الجمعة ركعتان تمامٌ غير قصرٍ على لسان نبيكم محمد ” رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، بسند صحيح.
ولخصائصها التي تفارق فيها الظهر، ومنها: أنه لا تجوز زيادتها على ركعتين، ولا تُجمع مع العصر، ولا تنعقد بنية الظهر ممن لا تجب عليه.
ولكن صلاة الظهر بدلٌ عنها إذا فاتت، قال صاحب الإفصاح: “اتفقوا على أنه إذا فاتت صلاة الجمعة تصلى ظهرًا”.
وكان النبي يقرأ في فجر يوم الجمعة بسورتي: السجدة والإنسان؛ كما جاء ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة : “أَنَّ النَّبِيَّ كان يقرأ في فجر الجمعة: الم تَنزِيلُ السجدة، وهَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ” [4]، وجاء في رواية الطبراني: “وكان يديم ذلك” [5].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إنما كان النبي يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة لأنهما تضمّنتا ما كان ويكون في يومها؛ فإنهما اشتملتا على خلق آدم وعلى ذكر المعاد وحشر العباد، وذلك يكون يوم الجمعة، وكأن في قراءتهما في هذا اليوم تذكيرًا للأمة بما كان فيه ويكون”.
ومن هنا فينبغي للأئمة الحرص على تطبيق هذه السنة.
وننبه هنا إلى أن السنة تطبَّق كاملة أيْ قراءة السورتين جميعًا، أما قراءة سورة السجدة وتقسيمها بين الركعتين فهذا خلاف السنة، وكذا قراءة بعض سورة السجدة وبعض سورة الإنسان هذا خلاف السنة.
سئل سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله: هل تُطبّق هذه السنة مع أن ذلك قد يشق على بعض كبار السن ونحوهم؟
فأجاب: “نعم تطبق هذه السنة، ولا تُترك لأجل ما ذُكِر، ومن يشق عليه القيام خلف الإمام فإنه يصلي جالسًا”.
ويختص يوم الجمعة بصلاة الجمعة، قال ابن القيم رحمه الله: “من خصائص يوم الجمعة: صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين، وهي أعظم من كل مجمعٍ يجتمعون فيه وأفرضه؛ سوى مجمع عرفة، ومن تركها تهاونًا بها طبع الله على قلبه، وقرْب أهل الجنة يوم القيامة وسبقهم إلى الزيارة يوم المزيد بحسب قربهم من الإمام يوم الجمعة وتبكيرهم”.
وقول ابن القيم رحم الله: “إن من تركها تهاونًا بها طبع الله على قلبه” قد جاءت الإشارة إليه في حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: “سمعنا رسول الله يقول على أعواد منبره: لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكوننَّ من الغافلين [6]، رواه مسلم.
وجاء في حديث أبي الجعد الضمري قال: قال رسول الله : من ترك ثلاث جمع تهاونًا بها طبع الله على قلبه [7]، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: “هذا حديثٌ حسن”.
شروط صلاة الجمعة
وتلزم الجمعة كل مسلم ذكر مكلّف حُرٍ مستوطن ببناء ليس له عذر.
أما كونه مسلمًُا ذكرًا عاقلُا، فهذا لا خلاف بين العلماء في اشتراطه؛ لأن الإسلام والعقل شرطان لوجوب وصحة العبادة المحضة، وكذا الذكورية والحريّة شرطان لوجوب الجمعة وانعقادها، فلا تجب الجمعة على المرأة، ولا على العبد، ولا على الصبي الذي لم يبلغ، لكن الجمعة تصح منهم إذا صلوها مع الناس، ويدل لذلك حديث طارق بن شهاب أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: الجمعة حقٌ واجبٌ على كل مسلم إلا أربعة: عبدٌ مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض [8]، رواه أبو داود وقال: “طارق بن شهاب قد رأى النبي ولم يسمع منه شيئًا”.
قال النووي: “وهذا غير قادحٍ في صحته؛ فإنه يكون مرسل صحابي، وهو حُجَّة، والحديث على شرط الشيخين، يعني البخاري ومسلم.
وأما شرط الاستيطان فسيأتي الكلام عنه مفصلًا في حلقة قادمة إن شاء الله.
وأما اشتراط ألا يكون له عذر، فإنه إذا كان له عذرٌ لم تجب عليه الجمعة؛ كالمريض الذي لا يستطيع حضور الجمعة، أو يشق عليه حضورها مشقة شديدة فلا تجب عليه ويصليها ظهرًا.
وكذا المسافر لا تجب عليه الجمعة ويصليها ظهرًا، هذا هو هدي النبي وخلفائه الراشدين من بعده، أنهم لم يكونوا يقيمون الجمعة في أسفارهم بل يصلونها ظهرًا، ومن هنا ذهب كثيرٌ من أهل العلم إلى أن إقامة المسافر للجمعة بدعة، فلو أن جماعة سافروا وأرادوا أن يقيموا الجمعة في سفرهم فإن هذا غير مشروع، بل هو بدعة محدثة، لكن للمسافر أن يصلي الجمعة خلف المقيم.
ويُشترط كذلك بالإضافة للشروط السابقة: ألا يكون بينه وبين موضع الجمعة أكثر من فرسخ، والفرسخ يعادل خمسة كيلو مترات تقريبًا، وهذا مقيدٌ بما إذا كان خارج البلد، أما من كان داخل البلد؛ فتلزمه الجمعة مطلقًا حتى لو لم يسمع النداء.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “من شروط وجوب الجمعة ألا يكون بينه وبين موضع الجمعة أكثر من فرسخ، وهذا الشرط في حق غير أهل المصر، أما أهل المصر فيلزمهم كلهم الجمعة بعدوا أو قربوا، نص عليه أحمد فقال: أما أهل المصر فلا بد لهم من شهودها، سمعوا النداء أو لم يسمعوا”.
أيها الإخوة المستمعون: هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية أحكام الجمعة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.