logo
الرئيسية/برامج إذاعية/مجالس الفقه/(42) برنامج مجالس الفقه- قضاء رمضان وصوم التطوع

(42) برنامج مجالس الفقه- قضاء رمضان وصوم التطوع

مشاهدة من الموقع

المقدم: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

حياكم الله -أيها الإخوة المستمعون والمستمعات- في برنامجكم: (مجالس الفقه).

(مجالس الفقه) برنامجٌ يُذاع عبر أثير "إذاعة القرآن الكريم"، نتدارس فيه شيئًا من المسائل الفقهية والنوازل المعاصرة التي يكثر السؤال عنها ويحتاج إلى معرفتها المسلم، يصحبنا في هذا البرنامج فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعودٍ الإسلامية، والمدرس بالحرمين الشريفين، فباسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا، فمرحبًا بكم.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المستمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم.

حكم قضاء رمضان والتتابع فيه

شيخنا، في حلقاتٍ ماضياتٍ كان الحديث متصلًا بالأحكام والمسائل الفقهية المتعلقة بالصيام، ولعلنا في هذه الحلقة نكمل الحديث في هذا الباب بالحديث عن قضاء رمضان.

أولًا ما حكم القضاء، وما حكم التتابع فيه؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقضاء رمضان قد نصَّ الله تعالى عليه في كتابه الكريم في موضعين في السورة البقرة، فقال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، وقال في الآية الأخرى: وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ  [البقرة:185]، فمن فاته أيامٌ من رمضان؛ وجب عليه أن يقضيها بعد رمضان.

ويُسن القضاء على الفور، فمن كان عليه أيامٌ أفطرها من نهار رمضان؛ فيُسن له المبادرة إلى قضائها على الفور بعد العيد مباشرةً؛ لأن هذا أسرع في إبراء الذمة وأحوط للإنسان؛ فإن الإنسان لا يدري ما يعرض له، وله أن يُؤخِّر القضاء إلى آخر شعبان، لكن إن بقي من شعبان بقدر ما عليه؛ فيجب عليه القضاء، إذا كان عليه مثلًا سبعة أيامٍ؛ فيجب عليه أن يقضي قبل رمضان بسبعة أيامٍ، هنا يكون القضاء واجبًا في هذا الوقت، ويدل لذلك قول عائشة رضي الله عنها: "كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان" [1]، أخرجه البخاري ومسلمٌ، وجاء في روايةٍ: "الشغل بالنبي " [2]، يعني: السبب: أنها كانت منشغلةً بالنبي .

المقدم: أحسن الله إليكم، هنا هل يُشترط التتابع في قضاء رمضان، أو له أن يقضي هذه الأيام متفرقةً؟

الشيخ: التتابع في القضاء ليس واجبًا، وإنما هو مستحبٌّ؛ ولهذا قال الموفق بن قدامة رحمه الله: "لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في استحباب التتابع في قضاء رمضان"، فالأفضل أن يكون القضاء متتابعًا وألا يكون متفرقًا؛ لأنه أشبه بالأداء، ولأن في هذا خروجًا من خلافِ مَن أوجب التتابع، وإن كان قول أكثر أهل العلم -وهو القول الراجح- أنه لا يجب القضاء متتابعًا، وإنما يُستحب.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم صوم التطوع لمن عليه قضاء

أيضًا من المسائل المتعلقة بالقضاء: هل يجوز للمسلم أن يصوم صومًا تطوُّعًا أو مستحبًّا وعليه شيءٌ من أيام الصيام الواجب في قضاء رمضان؟

الشيخ: هذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء:

  • فمنهم من ذهب إلى أنه ليس للمسلم أن يتطوع بالصيام وعليه قضاء صومٍ واجبٍ، فإن فعل؛ لم يصح تطوعه، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، واستدلوا بقول النبي : اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء [3]، متفقٌ عليه؛ قالوا: وبناءً على ذلك: ليس له أن يتطوع بصيام الست من شوالٍ وعليه قضاءٌ، ليس له أن يتطوع بصيام عرفة وعليه قضاءٌ، وليس له أن يصوم مثلًا الاثنين والخميس وعليه قضاءٌ، هذا هو القول الأول في المسألة.
  • والقول الثاني، وهو قول جماهير الفقهاء: أنه يجوز له أن يتطوع بالصوم قبل القضاء ما لم يضق الوقت، واستدلوا بعموم قول الله : فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]؛ قالوا: فدلَّت الآية على أن القضاء على التراخي؛ لأن الله تعالى قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، ولم يشترط الله أن يكون ذلك على الفور، وإنما دلَّت الآية على أنه على التراخي؛ وبناءً على ذلك: يجوز التطوع قبل القضاء، ولحديث عائشة رضي الله عنها السابق: "كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فلا أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان"، ويبعد أن عائشة رضي الله عنها لم تكن تصوم أيام التطوع ما بين شوالٍ إلى شعبان، هذا بعيدٌ، وأيضًا قياسًا على جواز التنفُّل قبل صلاة الفريضة مع سعة الوقت، وهذا بالإجماع؛ فكذا أيضًا إذا تطوع بالصوم قبل القضاء.

وهذا القول الأخير -وهو قول الجمهور، وهو يجوز التطوع بالصيام قبل القضاء- هو القول الراجح، وإن كان الأولى بالمسلم أن يُبادر بقضاء الصوم الواجب، لكن من حيث الحكم: القول الراجح أنه يجوز التطوع بالصوم قبل الصيام الواجب.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم قضاء الصيام في الأيام المستحب صومها

في هذه المسألة بخصوصها، بعضهم يفعل طريقةً، لكن نريد أن نعرف الحكم الشرعي فيها: هي أنه يجمع بين النيتين، فينتقي يومًا من الأيام المستحبة التي يُستحب صيامها، ويجعل نية الصيام لقضاء رمضان، وإدراكًا لذلك اليوم الذي يُستحب صومه، فهل مثل هذا الفعل مشروعٌ؟

الشيخ: نعم، هذا لا بأس به، لكن بشرط: أن تكون النية للقضاء؛ فمثلًا: بعض النساء يكون عليهن أيامٌ من رمضان، فإذا دخل شهر ذي الحجة؛ صمن التسعة الأيام الأولى، وتنوي أنها تقضي بذلك الصوم الواجب عليها، فهذا لا بأس به، وقد رُوي هذا عن عمر ، وبذلك تنال أجر الصيام الواجب، وتنال أيضًا أجر صيام النافلة؛ لأنها شغلت هذا الوقت الفاضل بعبادة الصيام؛ فمثلًا: لو جعل الإنسان الصيام الواجب في التسع من ذي الحجة مثلًا، فيكون قد شغل هذا الوقت الفاضل الذي ما من أيامٍ العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر [4]، بعبادة الصيام، وإن كان هو الصيام الواجب في حقه، وبذلك يُدرك الفضل بإذن الله ، وهذه مسألةٌ يغفل عنها كثيرٌ من الناس، بل إن بعض العامة تجد أنه يتطوع ويتطوع، وفي ذمته أيامٌ لم يصمها، يعني بعض الناس مثلًا يصوم الست من شوالٍ، ثم يصوم التسعة أيامٍ من ذي الحجة، ثم يصوم عاشوراء ولم يُبادر بقضاء الصوم الواجب عليه، هذا من قلة الفقه، فالذي ينبغي: المبادرة بالصيام الواجب وإبراء الذمة، وأن يقضي الإنسان ما عليه، ثم بعد ذلك يأتي النفل، وإذا صادف أن القضاء وافق زمنًا فاضلًا؛ فهنا لا بأس أن يجعل القضاء في ذلك الزمن الفاضل، ويُرجى أن ينال أجر صيام النافلة كذلك.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

والكلام هنا سواءٌ في النوافل التي ترتَّب عليها فضلٌ خاصٌّ، أو ليست كذلك؟ يعني كمن يصوم القضاء في يوم عاشوراء، أو في يوم عرفة لغير الحاج؟

الشيخ: نعم؛ لأن المقصود: استيعاب هذا الزمن بعبادة الصيام، سواءٌ كان ذلك صيام نافلةٍ، أو صيام فريضةٍ، أو صيامًا واجبًا، إلا إذا كان صيام نذرٍ، إذا كان صيام نذرٍ؛ فهنا لا بد أن يُفرِده، لكن ما عدا ذلك فالأمر واسعٌ.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

حكم تقديم صيام الست من شوال على قضاء رمضان

مما يتصل شيخنا بهذه المسألة، ويكثر الحقيقةَ السؤال عنه: حكم تقديم صيام الست من شوالٍ على قضاء رمضان، وهل يترتب..، أو يحصل له بذلك الأجر الوارد في الحديث أنه كصيام الدهر؟

الشيخ: سبق قبل قليلٍ الإشارة لخلاف الفقهاء في حكم الابتداء بصيام التطوع قبل الصيام الواجب، وذكرنا أن الحنابلة يرون هذا لا يصح، وأن الجمهور يرون صحة ذلك، فعلى مذهب الحنابلة لا يجوز تقديم الست من شوالٍ على القضاء، لكن على قول الجمهور: من الجماهير من يرى أنه وإن كان يصح تقديم التطوع على القضاء إلا أنه لو قدم صيام الست من شوالٍ على القضاء؛ فإنه لا يحصل على الثواب المذكور في الحديث؛ لقول النبي : من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوالٍ؛ كان كصيام الدهر [5]؛ لأن قوله في الحديث: من صام رمضان، يدل على استكمال صيام الشهر، ومن كان عليه قضاءٌ لا يَصدُق عليه أنه صام رمضان كاملًا، وإنما صام بعضه؛ ولذلك فالست من شوالٍ لها خصوصيةٌ في هذا، من أراد أن ينال الثواب المرتَّب عليها؛ فينبغي أن يُبادر بالقضاء أولًا، ثم يصوم الست، وهذا هو القول الراجح -والله أعلم- أنه لا يحصل على الثواب الكامل من صيام الست حتى يُبادر أولًا بصيام القضاء، وهذا اختيار شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله؛ ولذلك أقول: من أراد أن يحصل على الثواب المذكور في الحديث: من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوالٍ؛ كان كصيام الدهر [6]، فعليه أن يُبادر بالقضاء قبل صيام الست، لكن لو أنه صام الست قبل القضاء، لا نقول: إن صيامه لا يصح، على القول الراجح وهو قول الجمهور: أن صيامه صحيحٌ، لكن لا يحصل على الثواب المذكور في الحديث؛ لكونه لم يصم رمضان كاملًا، وإنما صام بعضه.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح، ونحن في هذا البرنامج (مجالس الفقه) نتدارس شيئًا من المسائل والأحكام الفقهية والنوازل المعاصرة مع شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، والحديث في هذه الحلقة متصلٌ بالصيام والأحكام الفقهية المتعلقة به.

فضل صوم التطوع

شيخنا، لعلي أنتقل إلى ما يتعلق بصيام التطوع، وبعض المسائل المرتبطة بذلك إن أذنتم، فلو بينتم لنا ابتداءً فضل صوم التطوع والأحاديث الواردة في ذلك.

الشيخ: عبادة الصيام -سواءٌ كان الصيام واجبًا أو تطوعًا- من أفضل الأعمال الصالحة، ويجزي الله تعالى على هذه العبادة جزاءً خاصًّا من عنده، كما جاء في "الصحيحين" عن أبي هريرة أن النبي قال: كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعفٍ، قال الله: إلا الصوم؛ فإنه لي، وأنا أجزي به [7]، فتأمل قوله تعالى: إلا الصوم؛ فإنه لي، وأنا أجزي به، أي أن الله تعالى يجزي الصوم بجزاءٍ خاصٍّ من عنده جل وعلا، وهذا بخلاف سائر الأعمال الصالحة، فإن جزاءها من باب الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، لكن عبادة الصوم يجزي الله تعالى عليها جزاءً خاصًّا، وكما يقال: العطية بقدر معطيها، فإذا كان المُعطي كريمًا؛ كانت العطية جزلةً وعظيمةً، وأُوضِّح هذا بمثال: لو أن معلمًا قال للمتفوقين من طلابه: لكم جوائز، أنت -يا فلان- لك جائزة كذا، وأنت كذا، وأنت كذا، ثم التفت إلى أحد الطلاب المتفوقين وقال: أما أنت -يا فلان- فلك جائزةٌ خاصةٌ عندي، فالمتبادر: أن هذه الجائزة الخاصة أفضل من جوائز زملائه؛ لأنها جائزةٌ خاصةٌ ليست كسائر الجوائز، هكذا أيضًا عبادة الصيام، الأعمال الصالحة تُضاعَف؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، لكن عبادة الصوم يجزي الله تعالى عليها جزاءً خاصًّا، وهو سبحانه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين، فالظن أن هذا الجزاء سيكون عظيمًا وجزيلًا؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي أمامة : عليك بالصوم؛ فإنه لا مِثل له [8]، يعني: في الأجر والثواب.

ولعل الحكمة في هذا والله أعلم: أن الصوم يظهر فيه الإخلاص لله ؛ لأن الإنسان يكون في المكان الخالي لا يراه أحدٌ، وبإمكانه أن يُفطر، فلن يأتي أحدٌ طوال النهار يُراقب هذا الإنسان هل أكل أو شرب أم لا، يعني -على الأقل- حتى لو مثلًا دخل مكانًا لا يكون فيه إلا هو؛ مثلًا: دخل دورة مياهٍ، أو دخل أي مكانٍ ربما يستطيع أن يشرب أو أن يأكل أو أن يأتي بشيءٍ من المفطرات، لن يكون أحدٌ رقيبًا عليه طوال النهار، فإذا ترك المفطرات ابتغاء الأجر والثواب من الله ؛ فهذا دليلٌ على إخلاصه، وعلى صدقه مع ربه ؛ ولهذا كان الثواب عظيمًا، والأجر جزيلًا.

وهذا لا يختص بصيام الفريضة، وإنما يشمل أيضًا صيام النافلة، وإن كان صيام الفريضة أعظم أجرًا من صيام النافلة، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه [9]، وقد جاء في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة أن النبي قال: من صام يومًا في سبيل الله؛ باعد الله تعالى وجهه عن النار سبعين خريفًا [10].

ثم إن الصوم يجتمع فيه أنواع الصبر الثلاثة:

  1. الصبر على طاعة الله.
  2. والصبر عن معصية الله.
  3. والصبر على أقدار الله.

فالصبر على طاعة الله في الصوم: أن المسلم يصبر على فعل هذه الطاعة ويُؤدِّيها.

وأما الصبر عن المعصية: فلأن الصائم يجتنب ما يحرم على الصائم.

وأما الصبر على أقدار الله: فالصبر على ما يتعرض له الصائم من ألم الجوع والعطش والكسل والفتور وضعف النفس، وأحيانًا الارتباك أحيانًا الذي يحصل له في الطعام والشراب والنوم ونحو ذلك، هذه تحتاج إلى صبرٍ.

فالصوم يجمع هذه الأنواع، يجمع أنواع الصبر الثلاثة؛ ولهذا قال الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]؛ ولهذا ينبغي أن يجعل المسلم له نصيبًا من صيام التطوع بعد صيام الواجب؛ يعني مثلًا: يصوم ثلاثة أيامٍ من الشهر، أو يصوم أيام البيض، أو يصوم يوم الاثنين، أو يومي الاثنين والخميس، وهكذا أيضًا الأيام الفاضلة؛ مثل: صيام يوم عرفة وعاشوراء ونحو ذلك، والمقصود: أن المسلم ينبغي أن يُعنَى بعبادة الصوم؛ فإن أجرها عظيمٌ، وثوابها جزيلٌ، وأن يجعل له نصيبًا من الوقت للصيام، يُخصِّص أيامًا يصومها لله ؛ فإن هذا من الأعمال الصالحة العظيمة.

عبادة الصوم تختص بخَصِيصةٍ لا توجد في غيرها: وهي أن الصائم يكون في عبادةٍ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا لا نظير له؛ وهذا يدل على الفضل العظيم لهذه العبادة.

فعلى المسلم -بعد المحافظة على الصوم الواجب- أن يكون له نصيبٌ من صيام النافلة.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم.

درجات الصوم المستحب

شيخنا، صوم النافلة هل هو.. -كما لا يخفى على شريف علمكم- أنواعٌ، لكن هل هناك تفاوتٌ بينها في الفضل؟ وما هو أعلى درجات الصوم المستحب لمن أراد أن يُطبِّقه؟

الشيخ: أولًا: صيام الدهر بأن يصوم جميع الأيام، هذا ورد النهي عنه، نهى النبي عن صيام الدهر، وقال فيمن يصوم صوم الدهر: لا صام ولا أفطر [11]، فهذا منهيٌّ عنه.

فأعلى درجات صيام النافلة: هو صيام داود ، فقد كان يصوم يومًا ويُفطر يومًا، كما قال النبي : أفضل الصيام صيام داود؛ كان يصوم يومًا ويُفطر يومًا [12]، هذه أعلى درجات صيام النافلة.

وقد جاء في قصة عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لما بلغ النبيَّ أن عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما يصوم الدهر كله، يعني يصوم ولا يُفطر، يصوم جميع الأيام، قال عبدالله : أنكَحَني أبي امرأةً ذات حسبٍ، فكان يتعاهد كَنَّتَه، يعني زوجة ابنه، كان أبوه عمرو بن العاص يتعاهد زوجة الابن؛ لأنه يعرف أن ابنه عبدالله عنده قوةٌ في العبادة، فكان يتعاهد زوجة ابنه، ويسأل هذه الزوجة عن زوجها، فتقول: نِعم الرجل من رجلٍ لم يطأ لنا فراشًا، ولم يُفتِّش لنا كَنَفًا منذ أتينا! ففهم عمرو بن العاص المقصود، فذهب عمرٌو  وأخبر بذلك النبي ، قال النبي : الْقَنِي به، قال: فدعوت ابني عبدالله وجئت به إلى النبي ، فقال النبي لعبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما: كيف تصوم؟، قال: كل يومٍ، قال: وكيف تختم القرآن؟، قال: كل ليلةٍ، وفي روايةٍ قال: ألم أُخْبَرْ أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: بلى يا رسول الله، فقال النبي : لا تفعل، صم وأَفطِر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقًّا، ولعينك عليك حقًّا، ولزوجك عليك حقًّا، ولِزَوْرِك -يعني: ضيفك- عليك حقًّا، وإن بحَسْبك أن تصوم من كل شهرٍ ثلاثة أيامٍ؛ فإن لك بكل حسنةٍ عشر أمثالها، وذلك صيام الدهر كله -أولًا بدأ النبي بصيام ثلاثة أيامٍ من الشهر، وأخبر بأن صيام ثلاثة أيامٍ من الشهر تعدل صيام الدهر؛ لأنك إذا ضربت ثلاثةً في عشرةٍ؛ تأتي ثلاثين، فكأنك صمت السنة كلها- فقال: يا رسول الله: إني أُطيق أكثر من ذلك -يعني أطيق أكثر من صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ- قال : فصم يومًا وأفطر يومين، قال عبدالله : إني أطيق أكثر من ذلك، قال: فصم يومًا وأفطر يومًا، فذلك صيام داود ، وهو أفضل الصيام، قال عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما: إني أُطيق أفضل من ذلك، فقال النبي : لا أفضل من ذلك؛ فدل هذا على أن أعلى درجات صيام النافلة: صيام داود ، وهو صيام يومٍ وإفطار يومٍ، فاقتصر عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما على ذلك، فكان يصوم يومًا ويُفطر يومًا، ولكن لما تقدم به السن، وكبير في السن كان يشق عليه الصوم؛ لأنه يحتاج إلى سيولةٍ ورطوبةٍ، فيشق عليه الصوم، ولما تقدم بعبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما السن وضعف؛ ندم وقال: يا ليتني قبلت رخصة النبي ! -يعني: أن أكتفي بصيام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ- فكان عبدالله يسرد الأيام صومًا، ثم يُفطر بعددها [13]، وأدرك أنه لو أخذ برخصة النبي ؛ لكان ذلك خيرًا له.

هنا وقفةٌ يسيرةٌ فقط مع هذه القصة:

هذه القصة فيها إشارةٌ إلى أنه ينبغي التوازن في حياة المسلم، وألا يُغلِّب جانبًا على جانبٍ، فكونه مثلًا ينشغل بالعبادة ويُهمل أهله، حتى إن زوجة عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهم اشتكت، وأتت بهذه العبارة: نِعم الرجل من رجلٍ لم يطأ لنا فراشًا، ولم يُفتِّش لنا كَنَفًا! يعني أهملها في الفراش.

فكون الإنسان ينشغل بالعبادة ويُهمل أهله، هذا يُعتبر نوعًا من الخلل، كذلك كونه ينشغل بأمورٍ ويترك أهله ويُهملهم، هذا أيضًا نوعٌ من الخلل؛ ولذلك النبي أرشد للتوازن في حياة المسلم، قال: إن لجسدك عليك حقًّا، ولعينك عليك حقًّا، ولزوجك عليك حقًّا، ولِزَوْرِكَ -يعني: ضيفك- عليك حقًّا، فأعط كل ذي حقٍّ حقه [14]، هذا هو الذي ينبغي: التوازن، ينبغي التوازن.

وأيضًا جاء في قصة أبي الدرداء لما رآه سلمان رضي الله عنهما يُكثر العبادة ويترك أهله، والقصة في "صحيح البخاري"، قال سلمان لأبي الدرداء رضي الله عنهما: يا أبا الدرداء، إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كُلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فأتى أبو الدرداء النبي فذكر له ذلك، فقال النبي : صدق سلمان [15].

والشاهد من هذه القصة التي أوردناها من قصة عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما: أن النبي تدرَّج معه إلى أعلى درجات صوم التطوع: وهي أن يصوم يومًا ويفطر يومًا؛ وهذا يدل على أنه لا يُشرع صيام الدهر، وقد يتعجب الإنسان من أناسٍ يصومون الدهر، وعندهم قوةٌ وجَلَدٌ في العبادة، وربما أن الصوم لا يشق عليهم أصلًا، لكن ينبغي أن يتنبهوا إلى أن أعلى درجات صيام التطوع: هي صيام يومٍ وإفطار يومٍ، وأنه لا أفضل من ذلك.

هل يفطر من اعتاد صيام داود إذا صادف يومًا فاضلًا؟

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم هذا البيان والإيضاح، ونسأل الله من فضله الكريم.

هنا شيخنا تَرِد مسألة: من كان حريصًا على صيام داود يصوم يومًا ويُفطر يومًا، فوافق يوم فطره يومًا فاضلًا، فهل يقال هنا: أَفطِر ولك الأجر المترتب على ذلك اليوم الفاضل؛ كمَن يوافق يوم فطره يوم عرفة، أو وافق يوم فطره يوم عاشوراء، أو يقال: هنا خالِف هذا الأمر لأجل إدراك ذلك الفضل الخاص؟

الشيخ: الأفضل أن يُخالف هذا الأمر؛ لإدراك الفضل الخاص؛ لأن المقصود في النهي: النهي لمن صام السنة كلها ولم يُفطر، لكن من كان أحيانًا يسرد الصوم لإدراك فضلٍ خاصٍّ؛ فلا بأس، بل كان النبي يفعل ذلك أحيانًا كما تقول عائشة رضي الله عنها: "كان يصوم حتى يقول القائل: لا يُفطر، ويُفطر حتى يقول القائل: لا يصوم" [16]، فلو كان مثلًا: هذا الذي يصوم يومًا ويُفطر يومًا، كان يوم إفطاره عاشوراء، ليس مناسبًا ألا يصوم عاشوراء بحجة أنه اليوم الذي يُفطر فيه، إنما يصوم عاشوراء، لا بأس أن يسرد أحيانًا بعض الأيام بالصوم، لكن المنهي عنه: أن يَسرُد السَّنة كلها بالصوم.

المقدم: أحسن الله إليكم، وأيضًا مما يتصل بمن يحرص على صيام داود : أنه ربما يشق عليه الصيام مشقةً بالغةً، فيُؤدِّي به ذلك إلى التقصير في أمورٍ واجبةٍ عليه؛ كالتقصير في وظيفته أو عمله الذي أُنيط به، أو حتى في أعماله الأخرى الواجبة في المنزل ونحوها، فما توجيهكم في مثل هذه الحال؟

الشيخ: هذا من الخلل الذي ذكرناه قبل قليلٍ، أن الإنسان يكون عنده خللٌ، ولا يكون عنده توازنٌ، يعني كونه يحرص على أمورٍ ليست واجبةً عليه؛ أمورٍ نافلةٍ، ويترك أمورًا واجبةً، هذا من قلة الفقه، على المسلم أن يبدأ أولًا بتحقيق الأمور الواجبة، ثم بعد ذلك يأتي بما تيسر من النوافل، فهذا الذي يصوم يومًا ويُفطر يومًا، ويترتب على ذلك إخلالٌ ببعض الواجبات، نقول: هذا يُعتبر تقصيرًا، وهذا نوعٌ من الخلل.

المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا، وشكر الله لكم هذا البيان والإيضاح.

حكم صيام الأيام البيض

أيضًا مما يتصل بصوم النافلة: ما يتعلق بصيام الأيام البيض؛ حكمها، والفضل الوارد فيها، وما هي الأيام البيض؟

الشيخ: أيام البيض: هي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر القمري، وسُمِّيت بذلك؛ لابيضاض لياليها بنور القمر، فالوصف لليالي، فالتقدير: أيام الليالي البيض، ويُستثنى من ذلك: شهر ذي الحجة، فإن الثالث عشر من أيام التشريق لا يجوز صومه؛ ولذلك في شهر ذي الحجة يُصام الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر بدلًا عن الثالث عشر.

وقد جاء في فضله أحاديث أبي ذرٍّ  أن النبي قال: يا أبا ذرٍّ، إذا صمتَ من الشهر ثلاثة أيامٍ؛ فصُمْ ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة [17]، وهذا الحديث أخرجه أحمد والترمذي والنسائي، وفي سنده مقالٌ، وقال الوزير ابن هبيرة رحمه الله: "اتفقوا على أن صيام الأيام البيض التي جاء الحديث فيها: هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وهو وإن كان في سنده مقالٌ؛ إلا أن العمل عليه عند عامة أهل العلم".

وقيل في الحكمة من مشروعية صيامها: إن دم الإنسان في منتصف الشهر يكون أكثر فورانًا، وتَهِيج فيه فضلات البدن، والصوم يُذهب هذه الفضلات، ويُخفِّف من ضغط الدم؛ ولهذا يقول القائمون على دُوُر الرعاية التي فيها بعض المرضى النفسيين، أو الذين عندهم أمراض أعصابٍ: إن أكثر ما تكون حركتهم وهيجانهم: في منتصف الشهر، وهذا أمرٌ معروفٌ من طبيعة الإنسان؛ أن أكثر ما يفور دمه ويهيج: في منتصف الشهر؛ يقولون: لأن ذلك -والله أعلم- له علاقةٌ بجاذبية القمر، وقد قرر الإمام ابن القيم رحمه الله الحكمة في هذا، وبكل حالٍ: حُكم الله تعالى هو حِكمة الحِكَم وغاية الحكم.

والثابت في الأحاديث الصحيحة كما في "الصحيحين" وغيره: هو صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ [18]، سواءٌ كان في أوله أو في وسطه أو في آخره، لكن إن جعلها في الأيام البيض كان هذا هو الأحسن.

المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم شيخنا هذا البيان والإيضاح.

إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة، فأسأل الله جل وعلا أن يجزي شيخنا الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان خير الجزاء.

الشيخ: وشكرًا لكم وللإخوة المستمعين.

المقدم: كما أشكر من قام بتسجيل هذه الحلقة.

إلى أن ألتقيكم في حلقةٍ قادمةٍ -بإذن الله - نستكمل فيها الحديث عن بعض المسائل والأحكام المتعلقة بالصيام، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

^1 رواه البخاري: 1950، ومسلم: 1146.
^2 رواه مسلم: 1099.
^3 رواه البخاري: 1852، رواه مسلم: 1148.
^4 رواه البخاري: 969، بنحوه، والترمذي: 757، بهذا اللفظ وقال: حسن صحيح غريب.
^5, ^6 رواه مسلم: 1164.
^7 رواه البخاري: 1894، ومسلم: 1151.
^8 رواه ابن ماجه: 1422، وأحمد: 15527، والنسائي: 8645.
^9 رواه البخاري: 6502.
^10 رواه البخاري: 2840، ومسلم: 1153.
^11 رواه مسلم: 1162.
^12 رواه البخاري: 1978، ومسلم: 1159.
^13 رواه البخاري: 1975، 1976، 5052، 5199، ومسلم: 1159.
^14 رواه البخاري: 1975، بنحوه.
^15 رواه البخاري: 1968.
^16 رواه البخاري: 1971، ومسلم: 1175.
^17 رواه الترمذي: 761، والنسائي: 2424، وأحمد: 21437.
^18 سبق تخريجه.
مواد ذات صلة
zh