عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
المراد بصيام التطوُّع وفضله
والمراد بصيام التطوع: الصوم غير الواجب، والصوم سواء كان واجبًا أو تطوُّعًا هو من أفضل الأعمال الصالحة.
ويدل لهذا: ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به [1].
فالعبادات ثوابـها الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرة، إلا هذه العبادة الجليلة الصوم، فإن الله تعالى يجزي عليها جزاءً خاصًّا من عنده، وهذا يشمل صوم الفريضة وصوم النافلة، وإن كان صوم الفريضة أعظم أجرًا وثوابًا، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: وما تقرب إليَّ عبدي بأحب مـمَّا افترضت عليه [2]، وكما يقال: العطية بقدر معطيها، والله تعالى هو أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين.
وأضرب مثلًا يتضح به المقصود: لو أن أستاذًا أعطى المتفوقين من طلابه هدايا، وقال لأحد الطلاب المتفوقين: أما أنت يا فلان فلك عندي هديةٌ خاصة، فالمتبادر إلى الذهن أن هذه الهدية الخاصة أفضل من هدايا بقية زملائه، وهكذا الصيام يتميَّز من بينِ سائر العبادات، بأن الله تعالى يجزي عليه جزاءً خاصًا من عنده.
قال بعض أهل العلم: وإنـما كان ثواب الصيام -سواء كان فريضةً أم نفلًا- عظيمًا؛ لأنه يجتمع فيه أنواع الصبر الثلاثة: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله تعالى.
أما الصبر على طاعة الله تعالى في الصوم: فإن المسلم يصبر على هذه الطاعة ويفعلها.
وأما الصبر عن معصية الله تعالى: فلأنه يجتنب ما يحرم على الصائم.
وأما الصبر على أقدار الله تعالى: فلأن الصائم يصيبه ألـم العطش والجوع والكسل، وضعف النفس، ونحو ذلك؛ ولهذا كان الصوم من أعلى أنواع الصبر؛ لأنه جامعٌ بين الأنواع الثلاثة، وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
ثم إن الصوم يظهر فيه الإخلاص، ولا يقع فيه الرياء، فإن العبد يكون في المكان الخالي، حيث لا يراه أحدٌ من الناس، ومع ذلك يدع الأكل والشرب، وسائر المفطرات، ابتغاء وجه الله تعالى.
أفضل صيام التطوع
وأفضل صيام التطوع صيام داود ، فقد كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا، وقد أوصى به النبي عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لـمَّا أراد أن يصوم الدهر كله، قال عبدالله: “أنكحني أبي امرأةً ذات حسب، وكان أبي – أي عمرو بن العاص- يتعاهدها، فيسألها عن بعلِهَا، فقالت: نعم الرجل من رجلٍ لَـم يطأ لنا فراشًا، ولَـم يُفتِّش لنا كنفًا منذ أتيناه، فذكر ذلك عمروٌ للنبي ، فقال: ائتني به فأتاه عبدالله بن عمرو، فقال له رسول الله : ألـم أُخبَر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونـم، فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لِزوْرِك -أي: لضيفك- عليك حقًّا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهرٍ ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنةٍ عشر أمثالها، فإذًا: ذلك صيام الدهر كله فقلت: يا رسول الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يومًا وأفطِر يومين فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يومًا، وأفطر يومًا، فذلك صيام داود ، وهو أفضل الصيام قلت: يا رسول الله، إني أطيق أفضل من ذلك، فقال النبي : لا أفضل من ذلك. فكان عبدالله يقول بعدما كَبِـر: يا لتني قبلت رخصة رسول الله ” [3].
قال النووي رحمه الله: “معناه: أنه كَبِـر وعجز عن المـحافظة على ما التزمه على نفسه عند رسول الله ، فشقَّ عليه فعله لعجزه، ولـم يعجبه أن يتركه لالتزامه له، فتمنى لو قبل الرخصة فأخذ بالأخف”.
جاء في بعض الروايات: أن عبدالله كان يصوم أيامًا يسردها سردًا، ثم يفطر بعددها من الأيام؛ ليتقوَّى بذلك.
وقد دل هذا الحديث على أن أفضل صيام التطوع صيام داود، صيام يومٍ وإفطار يوم، وأنه لا أفضل من هذه المرتبة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ولا أفضل من ذلك وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا صام من صام الأبد [4]، وفي حديث أبي قتادة في (صحيح مسلم): أن النبي سئل عن صيام الدهر، فقال: لا صام ولا أفطر [5]؛ أي: لَـم يحصل له أجر الصوم لمخالفته، ولـم يفطر لأنه قد أمسك.
وفي هذه القصة إشارةٌ إلى أنه ينبغي للمسلم التوازن في الوفاء بحقوق ربه، وحقوق غيره، فإنه إذا ركَّز على القيام بحقوق ربِّه من الصلاة والصيام ونحوها من العبادات، وأهمل حقوق غيره من الزوجة والأولاد وغيرهم، كان ذلك خللًا في تعبُّده، وهكذا لو كان العكس.
ولهذا: استأذن بعض أصحاب النبي في الاختصاء والتبتُّل والانقطاع للعبادة، فلم يُرخِّص لهم، بل نهاهم عن ذلك؛ لأنه يراد من المسلم أن يأتي بالعبادة بـمفهومها الواسع، الشامل لحقوق الله تعالى وحقوق عباده؛ ولهذا تأمَّل قوله عليه الصلاة والسلام في هذه القصة: صم وأفطر، وقم ونـم، فإن لجسدك عليك حقًّا، ولعينك عليك حقًّا، ولزوجك عليك حقًّا، ولِزوْرِك عليك حقًّا.
هذا هو دين الإسلام، ينتظم جميع شؤون الحياة، وينظِّم علاقة المسلم بربه، وعلاقة المسلم بغيره من الناس: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
صيام الست من شوال
ومن أنواع صيام التطوع: صيام الست من شوال.
وقد ورد في فضلها حديث أبي أيوب الأنصاري : أن رسول الله قال: من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال، فكأنـما صام الدهر كله [6]، رواه مسلم.
ومعنى قوله: فكأنّـما صام الدهر كله أي: كأنـما صام السنة كلها؛ وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها، فصيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستٍّ من شوال بستين يومًا، أي: بشهرين، فإذا أضفت شهرين لعشرة أشهر، كان ذلك السنة كلها.
وقد سبق الإشارة: إلى أنه لا بد من تقديم القضاء، لمن كان عليه قضاءٌ من رمضان، على صيام الست من شوال، وأن ذلك شرطٌ للحصول على الثواب الوارد فيها، في أظهر قولي العلماء، وليس شرطًا لصحة الصيام.
وسبقت الإشارة كذلك: إلى أنه يشترط للحصول على الفضل الوارد في صيام الست: تبييت النيَّة من الليل، وأن ذلك شرطٌ للحصول على الثواب، وليس شرطًا لصحة الصيام.
هل يُقضى صيام الست بعد شوال؟
وبقي من المسائل المتعلقة بصيام الست من شوال، مسألة: من لَـم يتمكن من صيام الست من شوال في شهر شوال لعذرٍ كمرضٍ أو امرأةٍ نفست في رمضان، ويستوعب القضاء شهر شوال كاملًا، فهل تقضى الست من شوال بعد شهر شوال، أي: في شهر ذي القعدة؟
هذا محل خلافٍ بين أهل العلم:
- فمنهم من قال: بأنـها لا تقضى؛ لأنـها سنةٌ قد فات محلها.
- ومنهم من قال: يشرع قضاؤها، فتقضى الست من شوال في شهر ذي القعدة، كالفرض إذا أخَّره عن وقته لعذرٍ، وكالسنة الراتبة إذا أخَّرها عن وقتها لعذرٍ، فإنه يقضيها متى ما زال العذر، وهذا القول هو الأقرب في هذه المسألة، والله تعالى أعلم، وقد اختار هذا القول الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله.
قال رحمه الله: “من كان له عذرٌ من مرضٍ، أو حيضٍ، أو نفاسٍ، أو نحو ذلك من الأعذار، التي بسببها أخَّر صيام قضائه، أو أخَّر صيام الست، فلا شك في إدراك الأجر الخاص، وقد نصوا على ذلك، أما إذا لَـم يكن له عذرٌ أصلًا، بل أخَّر صيامها إلى ذي القعدة أو غيره؛ فظاهر النص يدل على أنه لا يدرك الفضل الخاص، وأنه سنةٌ في وقت فات محله، كما إذا فاته صيام عشر ذي الحجة، أو فاته غيرها، حتى فات وقتها، فقد زال ذلك المعنى الخاص، وبقي الصيام المطلق”.
أيها الإخوة، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.