جدول المحتويات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحدَّثنا في الحلقة السابقة عن السُّنن الرواتب، ووعدنا باستكمال الحديث عنها في هذه الحلقة.
آكد السُّنن الرواتب
فأقول وبالله التوفيق: آكَدُ السُّنن الرواتب ركعتا الفجر، وقد ذكرنا في الحلقة السابقة أنهما تختصان بأمورٍ:
- منها: عظيم فضلهما وثوابهما، فقد قال النبي : ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها[1]، رواه مسلم.
- ومنها: مشروعيتهما في الحضر والسفر.
- ومنها: أن السُّنة تخفيفهما. وقد كان النبي يُخفِّفهما، حتى إن عائشة رضي الله عنها لتقول: "كان يُخفِّفهما حتى إني لأقول: لا أدري، هل قرأ فيهما بأُمِّ الكتاب؟"[2].
- ومنها: قراءة سورتَي الإخلاص فيهما، فيقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة سورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].
قال شيخ الإسلام ابن تيميةَ رحمه الله: "سُنة الفجر تجري مجرى بداية العمل، والوتر خاتمته؛ ولذلك كان النبي يُصلِّي سُنة الفجر والوتر بسورتَي الإخلاص، وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد والقصد"[3].
وكان عليه الصلاة والسلام ربما قرأ بالآية من سورة البقرة: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا.. [البقرة:136] في الركعة الأولى، وبالآية من سورة آل عمران: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ.. [آل عمران:64].
وكان عليه الصلاة والسلام يضطجع بعد ركعتَي الفجر على شِقِّه الأيمن، كما جاء في "الصحيحين" عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: "كان النبي إذا صلَّى ركعتَي الفجر اضطجع على شِقِّه الأيمن"[4].
حكم الاضطجاع على الجنب الأيمن بعد ركعتَي الفجر
وقد اختلف العلماء في حكم الاضطجاع على الجنب الأيمن بعد ركعتَي الفجر، هل هو سُنةٌ أو ليس بسُنةٍ؟
فمِن العلماء مَن قال: إنه سُنةٌ، وبالغ ابن حزمٍ فأوجبها، ولكن القول بالوجوب قولٌ شاذٌّ، وقد أنكر العلماء على ابن حزمٍ هذا الرأي.
ويبقى النظر: هل هي مُستحبةٌ وسُنةٌ كسائر السُّنن، أم أنها ليست بسُنةٍ؟
وقد رُوِيَ عن أنسٍ وأبي موسى ورافع بن خَدِيجٍ أنهم كانوا يأتون بهذا الاضطجاع.
ورُوِيَ عن عائشةَ رضي الله عنها أنها قالت: "إن النبي لم يكن يضطجع لسُنَّةٍ، ولكنه كان يَدأبُ ليلَه فيستريح"[5].
وقد اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة أن الاضطجاع بعد ركعتَي الفجر سُنةٌ لمن يقوم الليل؛ لأنه يحتاج لأن يستريح، وليس بسُنَّةٍ بحقِّ مَن لم يقم الليل.
ولعلَّ هذا القول هو الأقرب في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
أيها الإخوة المستمعون، وهذه السُّنن الرواتب يُشرَع تركها في السفر ما عدا سُنة الفجر، فقد كان النبي يحافظ عليها سفرًا وحضرًا. أما ما عداها من السُّنن الرواتب، فقد كان النبي يتركها في حال السفر.
قال ابن القيم رحمه الله: كان النبي يُواظب على سُنة الفجر والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السُّنن، ولم يُنقَل عنه في السفر أنه صلَّى سُنةً راتبةً غيرهما؛ ولذلك كان ابن عُمر رضي الله عنهما لا يزيد على ركعتين، ويقول: "سافرتُ مع رسول الله ، ومع أبي بكرٍ وعُمر رضي الله عنهما، فكانوا لا يزيدون في السفر على ركعتين".. وقد سُئل عن سُنة الظُّهر في السفر، فقال: "لو كنت مُسبِّحًا لأتممتُ"، أي: لو كنتُ سآتي بالسُّنة الراتبة لأتممتُ الفريضة أربعًا ولم أَقصُرها ركعتين. قال ابن القيم: "وهذا من فقهه ؛ فإن الله خفَّف عن المُسافر في الرباعية شطرها، فلو شُرِعَ له الركعتان قبلها أو بعدها لكان الإتمام أولى به"[6].
وهذا كله في حال السفر. وأما في حال الحضر، فقد كان النبي يحافظ عليها محافظةً شديدةً، وحثَّ عليها عليه الصلاة والسلام بقوله: مَن صلَّى لله تعالى في يومٍ وليلةٍ ثنتي عشرة ركعةً؛ بُنِيَ له بهنَّ بيتٌ في الجنة[7].
ولهذا ينبغي لك أخي المسلم وأختي المسلمة المحافظة على هذه السُّنن، فإنها أولًا: يَكمُل بها الخلل والنقص الذي قد يقع في الفرائض، ثم إن المسلم يكسب بها أجرًا وثوابًا، وقد وعد النبي من حافظ عليهن بأن يُبنَى له بهن بيتٌ في الجنة، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: وما تقرَّب إليَّ عبدي بأحبَّ مما افترضتُه عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبَّه[8].
والمسلم إذا حافظ على هذه السُّنن الرواتب، فإنه يكون قد صلَّى في سَنةٍ واحدةٍ فقط أكثر من أربعة آلافٍ ومئتَي ركعةٍ.
قضاء السُّنن الرواتب
أيها الإخوة المستمعون، ومَن فاته شيءٌ من هذه السُّنن الرواتب فيُشرَع له قضاؤها؛ لما جاء في "صحيح مسلمٍ" عن أبي هريرةَ وأبي قتادةَ رضي الله عنهما، في قصة نوم النبي وأصحابه وهم في السفر عن صلاة الفجر حتى أوقظهم حَرُّ الشمس، فصلَّى النبي راتبة الفجر أولًا، ثم صلَّى الفريضة بعدها[9].
وفي "الصحيحين" من حديث أم سلمةَ رضي الله عنها: أن النبي شُغِلَ عن الركعتين بعد صلاة الظهر، فقضاهما بعد صلاة العصر[10].
وكان عليه الصلاة والسلام إذا صلى صلاةً داوم عليها، كما جاء في "صحيح مسلمٍ" عن عائشةَ رضي الله عنها؛ أنها سُئلت عن هاتين الركعتين اللتين كان رسول الله يُصلِّيهما بعد العصر، فقالت: "كان يُصلِّيهما قبل العصر، ثم إنه شُغِلَ عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاةً أثبتها". قال إسماعيل بن جعفر أحد رواة الحديث: "تعني: داوم عليها"[11].
وقضاء سُنة الظهر بعد العصر -وهو من أوقات النهي- من خصائصه ، ويدل على ذلك أنه قد جاء في بعض روايات حديث أم سلمةَ رضي الله عنها، كما عند أحمد وغيره، أنها قالت: فقلتُ يا رسول الله: أفنقضيهما إذا فاتتنا؟ قال: لا[12].
قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، مُعلِّقًا على هذه الرواية: حديث أم سلمةَ رضي الله عنها المذكور حديثٌ حسنٌ، أخرجه أحمد في "المُسند" بإسنادٍ جيدٍ، وهو حُجةٌ على أن قضاء سُنة الظهر بعد العصر من خصائصه عليه الصلاة والسلام.
وقد كان عُمر بن الخطاب يضرب من يُصلِّي بعد العصر، ففي "صحيح مسلمٍ" عن أنسٍ وقد سُئل عن التطوع بعد العصر، فقال: "كان عُمر يضرب الأيدي على صلاةٍ بعد العصر"[13].
أيها الإخوة المستمعون، ومما يُستدلُّ به على مشروعية قضاء السُّنن الرواتب: عموم قول النبي : مَن نام عن صلاةٍ أو نسيها فليُصلِّها إذا ذكرها[14]، وهذا يَعمُّ الفريضة والنافلة.
قال الإمام أحمد رحمه الله: "أحب أن يكون للرجل شيءٌ من النوافل يحافظ عليه، وإذا فات قضاه"[15].
وقت قضاء سُنة الظهر القبلية وركعتَي الفجر
أيها الإخوة المستمعون، ويُشرَع لمن فاتته سُنة الظهر القبلية أن يُصلِّيها بعد أداء الفريضة، ويدل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي كان إذا لم يُصلِّ أربعًا قبل الظهر صلَّاهن بعده[16]، أخرجه الترمذي بسندٍ حسنٍ.
ويُشرَع لمن فاتته ركعتا الفجر قضاؤهما، والأفضل أن يكون ذلك بعد طلوع الشمس وارتفاعها؛ لحديث أبي هريرة أن النبي قال: مَن لم يُصلِّ ركعتَي الفجر، فليُصلِّهما بعدما تطلع الشمس[17]، أخرجه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان بسندٍ صحيحٍ.
ولكن له أن يقضيهما بعد أداء صلاة الفجر؛ لحديث قيس بن عمرٍو قال: رأى رسول الله رجلًا يُصلِّي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله : صلاة الصبح ركعتان، فقال الرجل: إني لم أكن صليتُ الركعتين اللتين قبلهما فصليتهما الآن، فسكت رسول الله [18]، أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي بسندٍ حسنٍ.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، برئاسة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: إذا لم يفعل ركعتَي الفجر قبل الفريضة صلَّاهما بعدها؛ لحديث قيس بن عمرٍو السابق ذكره، وإن صلَّاهما بعد ارتفاع الشمس فهو أفضل؛ لقول النبي : مَن لم يُصلِّ ركعتَي الفجر، فليُصلِّهما بعد ما تطلع الشمس[19].
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن يوفِّقنا لما يحب ويرضى.
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
| ^1 | رواه مسلم: 725. |
|---|---|
| ^2 | رواه البخاري: 1171، ومسلم: 724. |
| ^3 | زاد المعاد، لابن القيم: 1/ 306. |
| ^4 | رواه البخاري: 1160، ومسلم: 736. |
| ^5 | رواه عبدالرزاق في "المصنف": 4857. |
| ^6 | زاد المعاد، لابن القيم: 1/ 305. |
| ^7 | رواه مسلم: 728 بنحوه. |
| ^8 | رواه البخاري: 6502 بنحوه. |
| ^9 | صحيح مسلم: 680 |
| ^10 | رواه البخاري: 1233، ومسلم: 834. |
| ^11 | رواه مسلم: 835. |
| ^12 | رواه أحمد: 26678. |
| ^13 | رواه مسلم: 836. |
| ^14 | رواه البخاري: 597، مسلم: 684 بنحوه. |
| ^15 | المغني، لابن قدامة: 2/ 544. |
| ^16 | رواه الترمذي: 426، وابن ماجه: 1158 بنحوه، والبغوي في "شرح السنة": 891. |
| ^17 | رواه الترمذي: 423، وابن خزيمة: 1117، وابن حبان: 2472. |
| ^18 | رواه أبو داود: 1267، وابن ماجه: 1154، وأحمد: 23760، والبيهقي في "السنن الكبرى": 4613. |
| ^19 | سبق تخريجه. |



