عناصر المادة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أدنى الكمال في صلاة الوتر ثلاث ركعاتٍ بسلامين.
أي: أن يصلي ركعتين ثم يسلم، ثم يأتي بواحدةٍ ثم يسلم، ويجوز أن يجعلها بتشهُّدٍ واحدٍ، وسلامٍ واحد، كما سبق بيان ذلك في أنواع صلاة الوتر في الحلقة السابقة.
القراءة في صلاة الوتر وحكم القنوت فيه
والسنة: أن يقرأ في الركعة الأولى بـ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، وفي الثانية بسورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وفي الثالثة بسورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].
لحديث أُبَـيِّ بنِ كعبٍ، وحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما.
ثم بعد الرفع من الركوع من الركعة الأخيرة، يشرع له أن يدعو بدعاء القنوت.
ويدل لذلك حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: “علمني رسول الله كلماتٍ أقولُـهنَّ في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولَّنِـي فيمن تولَّيْت، وبارك لي فيما أعطيت، وقنـي شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذلُّ من واليت، تباركت ربنا وتعاليت [1]، أخرجه أحمد والترمذي، وقال: “هذا حديثٌ حسن”، ولا نعرف عن النبي في القنوت شيئًا أحسن من هذا.
وأخرجه البيهقي وزاد: ولا يعزُّ من عاديت [2].
وقد ذهب بعض أهل العلم: إلى أنه لا يُقنَت إلا في النصف الأخير من رمضان، وقد كان ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد رحمه الله، ثم رجع عنه، فقد قال في رواية المرُّوذِي: “كنت أذهب إلى أنه في النصف من شهر رمضان، ثم إني قلتُ: هو دعاءٌ وخير”، وفي روايةٍ عنه قال: “كنت أذهب إليه، ثم رأيت السنة كلها”.
والقول: بأنه يُشرَع القنوت في جميع ليالي السنة، هو الأقرب -والله تعالى أعلم-، ولكن لَـم يثبت عن النبي أنه قنت في صلاة الوتر، إلا ما رواه النسائي، وابن ماجه، عن أُبَـيِّ بنِ كعبٍ : “أن النبي قنت في الوتر” [3]، ولكن ضعَّف إسناد هذا الحديث بعض أهل العلم.
وقد قال الإمام أحمد -وهو من الأئمة الكبار في الحديث-: “إنه لَـم يصح عن النبي في القنوت شيءٍ، ولكن عمر كان يقنت”.
ومعلومٌ أن قوله عليه الصلاة والسلام سنةٌ، وفعله سنةٌ، وتركه سنة؛ ولهذا: فإن الأقرب -والله أعلم- هو مشروعية القنوت في صلاة الوتر، ولكن الأولى ألا يداوم المصلي عليه، وإنـما يأت به أحيانًا، ويتركه أحيانًا.
دعاء قنوت الوتر
وقد روى البيهقي بسندٍ جيد، عن عمر بن الخطاب : “أنه كان يقول في قنوته: اللهم إنا نستعينك، ونستهديك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك، ولا نكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونَحفِد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجدَّ بالكفار مُلحِق” [4].
وقوله: “وإليك نسعى ونَحفِد”: أصل الحَفْد مداركة الخطى والإسراع، والمراد: نبادر.
وقوله: “إن عذابك الجِدْ” أي: الحق، “بالكفار ملحِق” بكسر الحاء، أي: لاحق.
قال الخلَّال: “سألت ثعلبًا -وهو من أئمة اللغة- عن مُلحِق، أو: مُلحَق؟ قال: العرب تقولهما معًا” ولكن الرواية قد وردت بكسر الحاء: مُلحِق.
ولا بأس أن يدعو في القنوت بـما يَتيسَّر من المأثور وغيره، ولكن على الداعي أن يجتنب الاعتداء في الدعاء؛ فإن الله تعالى قد أخبر بأنه لا يحب المعتدين، كما قال سبحانه: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، ومن الاعتداء في الدعاء: أن يدعو الداعي بأمرٍ غير مـمكن، أو بأمرٍ فيه سوء أدبٍ مع الله .
والمشروع للداعي الخشوع والخضوع في الدعاء، وعدم رفع الصوت، وقد أثنى الله تعالى على زكريا بدعائه دعاءً خفيًّا: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3]، وإنك لتعجب عندما تسمع بعض الأئمة في دعاء القنوت في رمضان يرفع صوته بالدعاء، وكأنه يخطب خطبة جمعة، وهذا خلاف المشروع.
حكم التغني بالدعاء وتلحينه
وقد كره بعض أهل العلم التغنِّـي بالدعاء وتلحينه.
قال ابن الهُمَام رحمه الله: “لا أرى تحرير النغم في الدعاء يصدر ممن فهم معنى الدعاء والسؤال، وما ذلك إلا نوع لعب، فإنه لو قدر في الشاهد -أي: في الواقع- سائل حاجةٍ من ملكٍ، أدى سؤاله وطلبه بتحرير النغم فيه، من الرفع والخفض والترجيع كالتغنِّـي، نُسِب إلى قصد السخرية واللعب؛ إذ مقام طلب الحاجة التضرُّع لا التغنِّـي”.
وينبغي أن يختم دعاء القنوت بـما جاء في حديث علي : أن النبي كان يقول في آخر وترِه: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك [5]، أخرجه أحمد، وأصحاب السنن.
ثم يصلي على النبي لآثارٍ رويت عن بعض الصحابة في هذا.
حكم مسح الوجه بعد دعاء القنوت
وهل يُشرَع له مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من دعاء القنوت؟
قد روي في ذلك حديث عمر قال: “كان رسول الله إذا مدَّ يديه في الدعاء لَـم يردهما حتى يـمسح بـهما وجهه”.
قال الحافظ ابن حجر في (بلوغ المرام): “أخرجه الترمذي، وله شواهد، منها حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما عند أبي داود وغيره، قال: ومجموعهما يقضي بأنه حديثٌ حسن”.
ويرى بعض أهل العلم أنه لا يصح في مسح الوجه باليدين بعد الدعاء حديث.
قال البيهقي: “أما مسح الوجه باليدين عند الفراغ من الدعاء، فلستُ أحفظُه عن أحدٍ من السلف في دعاء القنوت، وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارجها -يعني: خارج الصلاة- وقد روي فيه عن النبي حديثٌ فيه ضعف، وهو مستعملٌ عند بعضهم خارج الصلاة، وأما في الصلاة فهو عملٌ لم يثبت بخبرٍ صحيح، ولا أثرٍ ثابتٍ، ولا قياس، فالأولى ألا يفعله، ويقتصر على ما فعله السلف ، من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “أما مسح وجهه بيديه، فليس فيه إلا حديثٌ أو حديثان، لا تقوم بـهما حجةٌ”.
والحاصل: أن العلماء مختلفون في حكم مسح الوجه باليدين بعد الدعاء، واختلافهم راجعٌ إلى اختلافهم في ثبوت الرواية عن النبي في ذلك، والأقرب -والله أعلم- أنه لا يُشرع مسح الوجه باليدين في الدعاء مطلقًا، سواءٌ بعد الفراغ من دعاء القنوت، أو خارج الصلاة؛ لأن جميع ما روي في ذلك ضعيفٌ لا يثبت، والمسح باليدين عبادة تحتاج إلى دليلٍ صحيح.
ولكن مع ذلك ينبغي ألا يُنكرَ على من مسح وجهه بيديه بعد الدعاء؛ لأن الحديث المروي في ذلك قابلٌ للتحسين، وقد حسَّنَه أحد أئمة الحديث، وهو الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله.
السنة بعد الفراغ من الوتر
وبعد الفراغ من صلاة الوتر يستحب له أن يُسبِّح قائلًا: سبحان الملك القدُّوس، ثلاث مرات.
ويدل لذلك: ما جاء في (سنن أبي داود) بسندٍ صحيح، عن أُبَـيِّ بنِ كعب قال: “كان رسول الله إذا سلَّم في الوتر قال: سبحان الملك القدُّوس [6] رواه النسائي، وزاد: “ويَـمد صوته في الثالثة” [7].
أسأل الله تعالى أن يوفقنا للعلم النافع، وأن يرزقنا الفقه في الدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه الترمذي: 464، والنسائي: 1745، وأحمد: 1718. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 1425، والبيهقي في السنن الكبرى: 3138. |
^3 | رواه ابن ماجه: 1182 والنسائي: 1699. |
^4 | رواه البيهقي في السنن الكبرى: 3142. |
^5 | رواه أبو داود: 1427، والترمذي: 3566، وابن ماجه: 1179، والنسائي: 1747، وأحمد: 751، وقال الترمذي: حديث حسن غريب. |
^6 | رواه أبو داود: 1430. |
^7 | رواه النسائي: 1732. |