عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
لا يزال الحديث موصولًا عن واجبات الصلاة، وقد تحدثنا في الحلقة السابقة عن خمسة منها، ووعدنا باستكمال الحديث عنها في هذه الحلقة، فأقول وبالله التوفيق:
من واجبات الصلاة
قول: “ربِّ اغفر لي” بين السجدتين
السادس من واجبات الصلاة، قول: “ربِّ اغفر لي” بين السجدتين.
وقد جاء في حديث حذيفة : “أن النبي كان يقول بين السجدتين: ربِّ اغفر لي، ربِّ اغفر لي” [1]. أخرجه ابن ماجه بسندٍ صحيح.
وفي حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي كان يقول في هذه الجلسة: “ربِّ اغفر لي وارحمني، واهدني، وارزقني” [2]، وجاء في روايةٍ أخرى زيادة: “واجبرني، وارفعني، وعافني”.
قال النووي رحمه الله: “والاحتياط والاختيار أن يجمع بين الروايات، ويأتي بجميع ألفاظها، وهي سبعة”.
والمقدار الواجب من ذلك أن يقول: “ربِّ اغفر لي” مرةً واحدةً، وما زاد على ذلك فهو مستحبٌ، ولكن ينبغي للمسلم أن يقتدي بالنبي ، فقد كان عليه الصلاة والسلام يطيل الجلسة بين السجدتين حتى تكون قريبًا من سجوده.
ففي الصحيحين عن أنسٍ قال: “كان رسول الله يقعد بين السجدتين حتى يقول القائل: قد نسي” [3].
قال ابن القيم رحمه الله: “وهذه السنة -يعني: إطالة الجلسة بين السجدتين- قد تركها أكثر الناس من بعد انقراض عصر الصحابة؛ ولهذا قال ثابت: “وكان أنسٌ يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه، يـمكث بين السجدتين حتى نقول: قد نسي، أو قد أوهم” وأما من حكَّم السنة ولـم يلتفت إلى ما خالفها، فإنه لا يعبأ بـمن خالف هذا الهدي”.
والذكر الوارد في الجلسة بين السجدتين هو ما ورد في الحديث السابق، وهي سبع كلمات: “ربِّ اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، واجبرني، وعافني، وارفعني” هذا هو الذكر الذي قد وردت به السنة، ولكن لو زاد عليها بأدعيةٍ أخرى فلا بأس؛ لأن المقام مقام دعاء، ولكن الأولى والأفضل أن يقتصر على هذه الألفاظ الواردة، وألا يزيد عليها.
وأما من أراد أن يستزيد، فيدعو بـما أحب من خيري الدنيا والآخرة في السجود، فإنه مقام دعاء.
كما جاء في الحديث الصحيح: أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجدٌ، فأكثروا فيه من الدعاء، فقمِنٌ أي: حريٌ، أن يستجاب لكم [4].
وكذلك أيضًا في التشهد الأخير قُبَيل السلام، كما جاء في الحديث: ثم يَتخيَّـر من الدعاء أعجبه إليه [5].
وأما في الجلسة بين السجدتين فالأولى الاقتصار على هذه الألفاظ التي قد وردت بـها السنة: ربِّ اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، واجبرني، وعافني، وارفعني.
التشهد الأول
السابع من واجبات الصلاة: التشهد الأول.
وهو أن يقول: “التحيَّات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله”.
وهو واجبٌ وليس بركن؛ لأن النبي لـمَّا نسيه جبَـرَه بسجود السهو، ولو كان ركنًا لأتى به ولـم ينجبر بسجود السهو.
هل يصلي على النبي في التشهد الأول؟
اختلف العلماء في ذلك:
- فقد ذهب بعض أهل العلم: إلى أنه لا يصلي على النبي في التشهد الأول، وأن ذلك غير مشروع.
- وقال الشافعي: تُشرَع الصلاة على النبي في التشهد الأول.
أما من قال: إنـها لا تشرع، فقد استدلَّ بحديث ابن مسعودٍ : “أن النبي كان يجلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرَّضْف -وهي الحجارة الـمُحْمَاة- حتى يقوم”.
واستدلَّ القائلون بأنـها تشرع الصلاة على النبي في التشهد الأول، بعموم الأحاديث الواردة في مشروعية الصلاة على النبي في التشهد، ولـم يرد فيها تخصيص تشهُّدٍ دون تشهُّد، فهي تشمل التشهُّد الأول والأخير جميعًا.
ومن ذلك: ما جاء في الصحيحين عن كعب بن عُجْرة قال: “خرج علينا النبي ، فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نُسلِّم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلَّيْت على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد” [6]، ولـم يقل: قولوا ذلك في التشهد الأخير.
والقول بـمشروعية الصلاة على النبي في التشهد الأول هو الأقرب في هذه المسألة -والله تعالى أعلم- وقد اختاره الوزير بن هُبيرة، واختاره من العلماء المعاصرين سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله.
أما ما استدل به القائلون بعدم مشروعية الصلاة على النبي في التشهد الأول من حديث ابن مسعودٍ: “أن النبي كان يجلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف -أي الحجارة المحماة- حتى يقوم” [7].
فهذا الحديث حديثٌ ضعيفٌ، لا تقوم به حجة، فقد أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد، من طريق أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه، وأبو عبيدة لَـم يسمع من أبيه، فيكون هذا الحديث ضعيفًا لانقطاعه.
والحاصل: أن الصلاة على النبي تشرع في التشهد الأول والتشهد الأخير جميعًا في أظهر قولي العلماء.
الجلوس للتشهد الأول
الثامن من واجبات الصلاة: الجلوس للتشهد الأول.
وقد أضاف بعض الفقهاء الصلاة على النبي في التشهد الأخير، فاعتبروها من واجبات الصلاة، وقد سبق الكلام عن هذه المسألة سابقًا، وذكرنا أن العلماء اختلفوا في حكم الصلاة على النبي في التشهد الأخير، فمنهم من اعتبرها ركنًا، ومنهم من اعتبرها واجبًا، ومنهم من اعتبرها سنة، وذكرنا أن الأقرب -والله تعالى أعلم- أنَّـها من واجبات الصلاة.
وعلى هذا مشى الموفق ابن قدامة رحمه الله في (العمدة) وفي (المقنِع) حيث ألحقها بواجبات الصلاة.
أيها الإخوة، هذه هي واجبات الصلاة، فمن ترك واحدًا منها متعمِّدًا بطلت صلاته؛ لأنه متلاعبٌ فيها، ومن تركه سهوًا أو جهلًا فإنه يسجد للسهو؛ لأنه قد ترك واجبًا يحرم تركه، فيجبره بسجود السهو.
سنن الصلاة
وبعد الحديث عن أركان الصلاة وواجباتـها، ننتقل للحديث عن سنن الصلاة، وهي نوعان: سنن الأقوال، وسنن الأفعال.
سنن الأقوال
أما سنن الأقوال فهي كثيرة، ومنها: الاستفتاح، والتعوُّذ، والبسملة، والتأمين، والقراءة بعد الفاتحة بـما تيسر من القرآن في صلاة الفجر، وصلاة الجمعة والعيدين، وصلاة الكسوف، والركعتين الأوليين من المغرب والعشاء والظهر والعصر.
ومن سنن الأقوال: أن يقول بعد قول: ربنا ولك الحمد: “ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيءٍ بعد” [8]، وما زاد على المرة الواحدة في تسبيح ركوعٍ وسجود، والزيادة على المرة في قول: ربِّ اغفر بين السجدتين، وأن يقول في التشهد الأخير بعد الصلاة على النبي : “اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المـحْيَا والممات، ومن فتنة المسيح الدجَّال” [9]، وما زاد على ذلك من الدعاء.
سنن الأفعال
وأما النوع الثاني: فسنن الأفعال: كرفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، وعند الهوي إلى الركوع، وعند الرفع منه، ووضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر، والنظر إلى موضع سجوده، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع، ومجافاة بطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه في السجود، ومد ظهره في الركوع معتدلًا، وجعل رأسه حياله، فلا يخفضه ولا يرفعه، وتـمكين جبهته وأنفه، وبقية أعضائه من مواضع السجود، وغير ذلك من سنن الأقوال والأفعال.
فهذه السنن لا يلزم الإتيان بـها، بل من فعلها، أو شيئًا منها، فله زيادة أجرٍ، ومن تركها أو بعضها، فلا حرج عليه، شأن سائر السنن.
ويتأكد الإتيان بـهذه السنن في حق الإمام فإنه مؤتـمَن، وينبغي له أن يصلي بالناس أتـمَّ صلاةٍ، كما كان النبي يصلي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “على إمام الناس في الصلاة أن يصلي بـهم صلاةً كاملة، ولا يقتصر على ما يجوز للمنفرد الاقتصار عليه إلا لعذر، ألا ترى أن الوكيل والولي في البيع والشراء، عليه أن يتصرَّف لموكِّله ولمولِّيه على الوجه الأصلح له في ماله، وهو في مال نفسه يُفوِّت نفسه ما شاء، فأمر الدين أهم”.
ومراد الشيخ: أن الإنسان في بيعه وشرائه قد يتغاضى، فيشتري السلعة بأكثر من ثـمن مثلها، أو يبيعها بأقل من ثـمن مِثلها، لكنه إذا باع أو اشترى لآخر إما بوكالةٍ أو بولاية فيلزمه أن يتصرَّف لوكيله وموليه على الوجه الأصلح، فلا يبيع بأقل من ثـمن المثل، ولا يشتري بأكثر من ثـمن المثل، فإذا كان هذا في أمور الدنيا، فأمر الدين أهم، فالإمام في الصلاة يصلي بالناس، فعليه أن يأتي بالصلاة على الوجه الأكمل.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، والعلم النافع، وأن يوفقنا لِمَا يحب ويرضى من الأقوال والأعمال.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أبو داود: 874، وابن ماجه: 897، والنسائي: 1145. |
---|---|
^2 | رواه ابن ماجه: 898. |
^3 | رواه البخاري: 821، ومسلم: 472. |
^4 | رواه مسلم: 479. |
^5 | رواه البخاري: 835. |
^6 | رواه البخاري: 4798، ومسلم: 405. |
^7 | رواه أبو داود: 995، والترمذي: 366، والنسائي: 1176، وأحمد: 3656. |
^8 | رواه مسلم: 471. |
^9 | رواه البخاري: 1377، ومسلم: 588. |