عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
لا يزال الحديث موصولًا عن أركان الصلاة، وقد تكلمنا في الحلقة السابقة عن جملة منها، ونستكمل في هذه الحلقة الحديث عن بقيتها، فأقول وبالله التوفيق:
من أركان الصلاة
التشهد الأخير
الركن العاشر من أركان الصلاة: التشهُّد الأخير.
ويدل لهذا الركن: حديث عبدالله من مسعودٍ قال: “كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهُّد: السلام على الله من عباده، السلام على جبرائيل وميكائيل، السلام على فلانٍ وفلان، فالتفت إلينا رسول الله ، وقال: إن الله هو السلام، فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيَّات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتمُوها أصابت كل عبدٍ لله صالحٍ في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله” [1]. أخرجه النسائي والدارقطني بـهذا اللفظ، وأصله في الصحيحين.
وموضع الشاهد منه قوله: “قبل أن يفرض علينا” ففيه دلالةٌ على أن التشهُّد فرضٌ، فيكون ركنًا من أركان الصلاة.
وهذا الحديث وإن كان يعمُّ التشهدين الأول والأخير، إلا أن السنة قد دلَّت على أن التشهد الأول واجبٌ، وليس بركنٍ، فإن النبي لـمَّا تركه سهوًا؛ جبَـرَه بسجود السهو، فدلَّ ذلك على أنه ليس بركنٍ، فإن الركن لا يُـجبَر تركه بسجود السهو، وإنـما هذا شأن الواجبات.
الجلوس للتشهُّد الأخير
الركن الحادي عشر من أركان الصلاة: الجلوس للتشهُّد الأخير.
وقد حكى الحافظ ابن عبد البر وغيره الإجماع على وجوب هذا الجلوس، بناءً على ذلك: لو فُرِض أن أحدًا قرأ التشهد الأخير قائمًا مثلًا، فإنه ذلك لا يـجزئُه؛ لأنه ترك ركنًا من أركان الصلاة، وهو الجلوس لهذا التشهُّد.
الصلاة على النبي
الركن الثاني عشر: الصلاة على النبي .
والقول بأنـها ركنٌ هو المذهب عند الحنابلة، كما ذكر ذلك صاحب (الإنصاف) وبه قال الشافعي.
وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله في هذه المسألة، ففي (مسائل المروذي) قال: “قلت لأبي عبدالله: إن إسحاق بن راهويه يقول: لو أن رجلًا ترك الصلاة على النبي في التشهد بطلت صلاته، فقال الإمام أحمد: ما أجترئ أن أقول هذا، وقال مرةً: هذا شذوذ”.
لكن جاء عنه في (مسائل أبي زرعة الدمشقي) أنه قال: “كنت أتـهيَّب ذلك ثم تبيَّنت، فإذا الصلاة على النبي واجبة”.
قال ابن القيم معلِّقًا على ذلك: “وظاهر هذا أنه رجع عن قوله بعدم الوجوب”.
هذا ما يتعلق بتحقيق رأي الإمام أحمد في هذه المسألة.
وأما أبو حنيفة ومالك فقد ذهبا إلى القول: بأن الصلاة على النبي في التشهد الأخير أنَّـها مستحبة، وليست بواجبة.
فالأقوال في هذه المسألة ثلاثة:
- قولٌ بأن الصلاة على النبي في التشهد الأخير ركنٌ.
- وقولٌ بأنـها واجبة.
- وقولٌ بأنـها مستحبة.
والأصل في هذه المسألة: ما جاء في الصحيحين عن كعب بن عُجْرة قال: “خرج علينا النبي ، فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيت على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد [2].
فالقائلون بأنـها ركنٌ قالوا: الأمر في هذا الحديث يقتضي الوجوب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: صلوا كما رأيتموني أصلي [3]، وهذا يقتضي أن هذا الواجب ركنٌ، إذا تُرِك بطلت الصلاة.
والقائلون بأنـها واجبة، قالوا: ليس في هذا الحديث ما يدل على أنَّـها ركن، وغاية ما فيه الأمر، والأمر يقتضي الوجوب دون الركنية.
وأما القائلون بالاستحباب، فقالوا: إن هذا إرشادٌ من النبي ، إنـما أرشد إليه عليه الصلاة والسلام لـمَّا سُئل.
والقول بأنـها ركنٌ بعيد؛ ولهذا: فإن الموفق ابن قدامة رحمه الله لَـم يعدَّها من أركان الصلاة، وإنـما عدَّها من واجبات الصلاة في كتابه (العمدة) وكذا (المقنِع) واختار القول بالوجوب كذلك ابن القيم، وجمعٌ من المـحققين من أهل العلم رحمة الله تعالى على الجميع.
ومـما يحسن التنبيه إليه هنا: أنه لا يشرع زيادة: “سيِّدنا” عند الصلاة على النبي ، مع أن الذي نعتقده، وندين الله به أنه عليه الصلاة والسلام هو سيدنا، بل هو سيد ولد آدم، ولكن المسألة مسألة اتباع.
وقد سُئل الحافظ ابن حجرٍ عن صفة الصلاة على النبي في الصلاة، أو في خارج الصلاة: هل يشترط فيها أن يوصف النبي بالسيادة، كأن يقول: اللهم صلِّ على سيدنا محمد، أو يقتصر على قوله: اللهم صلِّ على محمد؟
فأجاب رحمه الله، قال: “المشروع أن يصلي على النبي بدون وصفه بالسيادة، فيقول: اللهم صلِّ على محمد، ولا يقول: اللهم صلِّ على سيدنا محمد.
قال: واتباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعًا منه ؛ لأنه لو كان ذلك راجحًا لجاء عن الصحابة والتابعين، ولـم نقف على شيءٍ من الآثار عن أحدٍ من الصحابة ولا التابعين أنه قال ذلك، مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك”.
التسليمة الأولى
الركن الثالث عشر من أركان الصلاة: التسليمة الأولى.
ويدل لذلك: حديث عليّ : أن النبي قال: مفتاح الصلاة الطهور، وتـحريـمها التكبير، وتحليلها التسليم [4]، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد بسندٍ صحيح.
ويدل لذلك أيضًا ما جاء في (صحيح مسلم) عن جابر بن سمرة : أن النبي قال: إنـما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، يُسلِّم على أخيه من على يـمينه وشماله [5].
والواجب تسليمةٌ واحدة، وأما التسليمة الأخرى فمستحبَّة، في أظهر أقوال أهل العلم.
ويدل لذلك: حديث أنسٍ : “أن النبي كان يُسلِّم تسليمةً واحدة” أخرجه البيهقي في (السنن الكبرى)، وقال الحافظ ابن حجر: “رجاله ثقات” [6].
حكم صلاة من ترك ركنًا منها
أيها الإخوة: هذه هي أركان الصلاة، فمن ترك ركنًا منها فإن كان تكبيرة الإحرام لَـم تنعقد صلاته، وإن كان المتروك غير تكبيرة الإحرام، وقد تركه عمدًا بطلت صلاته كذلك، وإن كان تركه سهوًا، كركوعٍ أو سجودٍ مثلًا، فإنه لا بد أن يأتي به وبـما بعده، إلا إذا ذكره بعدما يصلَ إلى موضعٍ معيَّنٍ من صلاته؛ فتُلغى تلك الركعة، وتقوم التي بعدها مقامها.
وقد اختلف العلماء في هذا الموضع:
فقال بعضهم: إذا شرع في قراءة الفاتحة من الركعة التالية؛ بطلت الركعة التي ترك فيها الركن، وقامت التي بعدها مقامها.
وقال آخرون: لا تبطل الركعة التي ترك فيها الركن، إلا إذا وصل إلى محلِّه من الركعة التالية، وبناءً على ذلك يجب عليه الرجوع ما لَـم يصل إلى موضعه من الركعة التالية، وبالمثال يتضح المقال:
مثال ذلك: رجلٌ يصلي فلـمَّا سجد السجود الأول من الركعة الأولى، قام إلى الركعة الثانية ناسيًا، وشرع في قراءة الفاتحة، ثم إنه ذَكَر أو ذُكِّر أنه لَـم يسجد إلا سجدةً واحدة:
فعلى القول الأول: ليس له أن يرجع؛ لكونه قد شرع في قراءة الفاتحة، لكن تلغى الركعة الأولى، وتقوم الثانية مقامها.
وعلى القول الثاني: يجب عليه أن يرجع، ويأتي بالسجود وبـما بعده؛ لكونه لَـم يصل إلى موضعه من الركعة الثانية، فلم يصل إلى السجود من الركعة الثانية.
والأقرب في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول الثاني: فيلزمه الرجوع والإتيان بالركن المتروك وبـما بعده؛ لأنه وقع في غير محلِّه، والترتيب من أركان الصلاة، لكن إذا وصل إلى موضعه من الركعة الثانية، فإنه لا يرجع؛ لأن رجوعه ليس له فائدة؛ إذ أنه إذا رجع فسيرجع إلى نفس المـحل.
أيها الإخوة، هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة؛ أسأل الله أن يوفقنا للعلم النافع، والفقه في الدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 831 402، ومسلم: 402، والنسائي: 1169، والدارقطني: 1327. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 6357، ومسلم: 406. |
^3 | رواه البخاري: 631. |
^4 | رواه أبو داود: 61، والترمذي: 3، وابن ماجه: 276، وأحمد: 1006. |
^5 | رواه مسلم: 431. |
^6 | رواه الترمذي: 296، وابن ماجه: 919، وابن حبان: 1995 عن عائشة رضي الله عنها، والبيهقي في السنن الكبرى: 2987 عن أنس . |