إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
تحدثنا في الحلقة السابقة عن مسنونات الصلاة، ونفرد هذه الحلقة عن آكد مسنونات الصلاة، وهو الحشوع فيها:
تعريف الخشوع ومحله
الخشوع معناه في اللغة: الانخفاض والذلُّ والسكون والخضوع.
قال الله تعالى: وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ [طه:108]، أي: سكنت وذلَّت وخضعت، ومنه وصف الأرض بالخشوع في قول الله سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [فصلت:39].
وعرَّفه ابن القيم رحمه الله بأنه: قيام القلب بين يدي الربِّ بالخضوع والذل.
ومحل الخشوع: القلب، وثـمرته على الجوارح.
حكم الخشوع في الصلاة
والخشوع في الصلاة ليس بواجبٍ، وإنـما هو مستحبٌ، فمن أتى بالصلاة بكامل شروطها وأركانـها وواجباتـها، ولـم يقع ما يبطلها فهي صحيحة مجزئةٌ، وإن لَـم يخشع فيها.
وقد حكى النووي رحمه الله الإجماع على أن الخشوع في الصلاة ليس بواجب، وتُعقِّب بأن من العلماء من قال بوجوبه، فيكون القول بعدم الوجوب هو قول أكثر أهل العلم.
حكم صلاة الموسوس
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “الوسواس في الصلاة نوعان:
- أحدهما: لا يـمنع ما يُؤمر به من تدبُّر الكَلِم الطيب، والعمل الصالح الذي في الصلاة، بل يكون بـمنزلة الخواطر، فهذا لا يبطل الصلاة، لكن من سلمت صلاته منه فهو أفضل مـمن لَـم تسلم منه صلاته.
- الثاني: ما منع الفهم، وشهود القلب، بحيث يصير الرجل غافلًا، فهذا لا ريب أنه يـمنع الثواب.
كما روى أبو داود في سننه، عن عمار بن ياسر : أن النبي قال: إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها [1]، فأخبر أنه قد لا يُكتب له منها إلا العشر.
وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها”.
ولكن: هل يُبطل الصلاة، ويُوجب الإعادة؟
فيه تفصيل: فإن كانت الغفلة في الصلاة أقل من الحضور، والغالب الحضور لَـم تجب الإعادة، وإن كان الثواب ناقصًا، فإن النصوص قد تواترت بأن السهو لا يبطل الصلاة، وإنـما يُـجبَر بعضه بسجدتي السهو.
أما إن غلبت الغفلة على الحضور، ففيه للعلماء قولان:
- أحدهما: لا تصح الصلاة في الباطن، وإن صحت في الظاهر، كحقن الدم؛ لأن مقصود الصلاة لَـم يحصل، فهو شبيهٌ بصلاة المرائي، فإنه بالاتفاق لا يبرأ بـها في الباطن، وهذا قول أبي عبدالله بن حامد، وأبي حامد الغزالي وغيرهما.
- الثاني: تبرأ الذمَّة، فلا تجب عليه الإعادة، وإن كان لا أجر له فيها ولا ثواب، بـمنزلة صوم الذي لَـم يدع قول الزور والعمل به، فليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وهذا هو المأثور عن الإمام أحمد، وغيره من الأئمة.
واستدلوا بـما في الصحيحين عن أبي هريرة : أن النبي قال: إذا أذَّن المؤذِّن بالصلاة أدبر الشيطان وله ضُراطٌ؛ حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثُوِّب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، ما لَـم يكن يذكر، حتى يظل لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين [2].
فقد أخبر النبي أن الشيطان يُذكِّره بأمورٍ، حتى لا يدري كم صلى، وأمره بسجدتين للسهو، ولـم يأمره بالإعادة، ولـم يُفرِّق بين القليل والكثير.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وهذا القول أشبه وأعدل، فإن النصوص والآثار إنـما دلت على أن الأجر والثواب مشروطٌ بالحضور، ولا تدل على وجوب الإعادة، لا باطنًا ولا ظاهرًا”.
والحاصل: أن الصلاة إذا وقعت مكتملة الأركان والشروط والواجبات، فإنـها تقع مجزأة، تبرأ بـها الذمَّة، لكن ليس للإنسان من أجر صلاته إلا بـمقدار ما عقل منها.
مكانة الخشوع في الصلاة
أيها الإخوة، الخشوع في الصلاة هو روح الصلاة، وهو لبُّها، وهو المقصود الأعظم منها، وصلاةٍ بلا خشوع، كجسدٍ بلا روح.
قال ابن القيم رحمه الله: “لا يزال الله مُقبِلًا على عبده ما دام العبد مقبلًا على صلاته، فإذا التفت العبد بقلبه أو بصره، أعرض الله تعالى عنه، وقد سئل النبي عن التفات الرجل في صلاته، فقال: هو اختلاسٌ يختلسه الشيطان من صلاة العبد [3].
قال: ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه، مثل رجلٍ قد استدعاه السلطان، فأوقفه بين يديه، وأقبل يناديه ويخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يـمينًا وشمالًا، وقد انصرف قلبه عن السلطان، فلا يفهم ما يخاطبه به؛ لأن قلبه ليس حاضرًا معه، فما ظنُّ هذا الرجل أن يفعل به السلطان؟!
أفليس أقل المراتب في حقه: أن ينصرف من بين يديه مـمقُوتًا مُبْعدًا، قد سقط من عينيه؟!
فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب، المقبل على الله تعالى في صلاته، الذي قد أشْعَرَ قلبه عظمة من هو واقفٌ بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته، وذلَّت عنقه له، واستحيا من ربِّه تعالى، أن يُقبِل على غيره، أو يلتفت عنه، وبين صلاتيهما كما قال حسان بن عطِيَّة: “إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض؛ وذلك أن أحدهما مقبلٌ على الله ، والآخر ساهٍ غافلٍ.
فإذا أقبل العبد على مخلوقٍ مثله بينه وبينه حجاب لَـم يكن إقبالًا ولا تقريبًا، فما الظن بالخالق ؟! وإذا أقبل على الخالق وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس، والنفس مشغوفةٌ بـها ملأى منها، فكيف يكون ذلك إقبالًا، وقد ألهته الوساوس والأفكار، وذهبت به كل مذهب..
قال رحمه الله: والعبد إذا قام في الصلاة غار منه الشيطان، فإنه قد قام في أعظم مقامٍ وأقربه وأغيظه للشيطان، وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد ألا يقيمه فيه، بل لا يزال به يعده ويُـمنِّيه ويُنسِّيه، ويجلب عليه بخيْلِه ورجْلِه، حتى يُهوِّن عليه شأن الصلاة، فيتهاون بـها فيتركها.
فإن عجز عن ذلك، وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام، أقبل عدو الله تعالى الشيطان، حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيُذكِّره في الصلاة ما لَـم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربَّـما كان قد نسي الشيء والحاجة، وأيس منها، فيُذكِّره إياها في الصلاة، ويشغل قلبه بـها، ويأخذه عن الله ، فيقوم العبد في صلاته بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه، ما يناله المقبل على ربِّه ، الحاضر بقلبه في صلاته، فينصرف من صلاته بـمثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله، لَـم تخف عنه بالصلاة.
فإن الصلاة إنـما تُكفِّر سيئات من أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه، فهذا إذا انصرف منها وجد خفَّةً من نفسه، وأحس بأثقالٍ قد وضعت عنه، فوجد نشاطًا وراحةً وروحًا، حتى يتمنَّى أنه لَـم يكن خرج منها؛ لأنـها قُرَّة عينيه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومُستَراحَه في الدنيا”.
أخي، إذا قمت إلى الصلاة فتذكر قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، وجاهد نفسك على الخشوع فيها؛ حتى تنال الفلاح الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون، وأن يوفقنا لصالح القول والعمل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.