عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
كان الحديث معكم في الحلقة السابقة عن أركان الصلاة، والحديث معكم في هذه الحلقة عن واجبات الصلاة.
الفرق بين الأركان والواجبات
والأصل أن جميع الأقوال والأفعال التي ورد ما يدل على وجوبـها في الصلاة: أنَّـها أركان، لكن إذا ورد منها ما يدل على أنه يُـجبَر بسجود السهو فهو من الواجبات، وليس من الأركان، فالواجبات إذًا تُـجبّـر بسجود السهو إذا تركها سهوًا، وأما ترك شيءٍ منها عمدًا، فإنه يبطل الصلاة.
فيكون الفرق إذًا بين الأركان والواجبات:
- أن الأركان إذا تُرِك منها شيءٌ بطلت الصلاة، سواءٌ كان تركه عمدًا أو سهوًا، أو بطلت الركعة التي تركه منها، وقامت التي تليها مقامها، على ما سبق تفصيله سابقًا.
- وأما الواجبات: فما تُرك منها عمدًا بطلت به الصلاة، وما ترك سهوًا لَـم تبطل، ويُـجبَـر بسجود السهو.
من واجبات الصلاة
تكبيرات الانتقال
وأول واجبات الصلاة: جميع التكبيرات ما عدا تكبيرة الإحرام، فإنـها ركن.
وتسمى هذه التكبيرات بتكبيرات الانتقال، وهي تكبيرات الركوع والسجود والرفع منه، والرفع من التشهد الأول.
ويدل لوجوب هذه التكبيرات: مواظبته عليها إلى أن توفَّاه الله ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: صلوا كما رأيتموني أصلي [1].
ويدل لذلك أيضًا: قوله عليه الصلاة والسلام: إنـما جُعِل الإمام ليؤتـمَّ به، فإذا كبَّـر فكبِّـروا [2].
ومحل التكبير: هو ما بين الركنين في الانتقال، فما كان للركوع فما بين القيام والركوع، وما كان للسجود فما بين القيام والسجود، وهكذا بقية الانتقالات، فعندما يريد أن يهوي للركوع مثلًا فلا يُكبِّـر قبل هويه للركوع، ولا يؤخِّر التكبير حتى يصل إلى الركوع، وإنـما يكون التكبير فيما بين الانتقال من القيام إلى الركوع.
وقد شدَّد بعض الفقهاء في هذه المسألة، فقالوا: لو بدأ بالتكبير قبل أن يهوي، أو أتـمَّه بعد أن يصل إلى الركوع فلا يجزئ، وقد نقل المرداوي في (الإنصاف) عن المـجد ابن تيمية، وبعض الفقهاء أنَّـهم قالوا: “ينبغي أن يكون تكبير الخفض والرفع والنهوض، ابتداؤه مع ابتداء الانتقال، وانتهاؤه مع انتهائه، فإذا شرع فيه قبله، أو كمَّله بعده، فوقع بعضه خارجًا عنه فهو كتركه؛ لأنه لَـم يُكمِّله في مَـحلِّه، فأشبه من تَـممَّ قراءته راكعًا، أو أخذ في التشهُّد قبل قعوده”.
ثم صوَّب صاحب (الإنصاف) القول: “بأنه يُعفى عن ذلك؛ لأن التحرُّز منه يعسُر، والسهو به يكثر، ففي الإبطال به مشقَّة”.
وإنـما سقنا الخلاف في هذه المسألة، وإن كان الأقرب أنه إذا كبَّـر قبل أن يركع، أو بعد أن يركع، أن صلاته لا تبطل؛ للتنبيه على أهمية العناية بـها، فإن بعض الناس يستهين بـها، فيُكبِّـر قبل أن يركع، أو يركع ثم يكبِّـر، وهو يُعرِّض صلاته للبطلان على رأي بعض الفقهاء.
والعجيب أن بعض الأئمة يؤخِّر التكبير للركوع حتى يصل للركوع، وكذا السجود والرفع منه، خشية أن يسابقه بعض المأمومين، وهذا من غرائب الاجتهاد: أن يفسد الإنسان عبادته -على رأي بعض الفقهاء- لتصحيح عبادة غيره، الذي ليس مأمورًا بأن يسابقه، بل هو مأمورٌ بـمتابعته.
التسبيح في الركوع
الواجب الثاني من واجبات الصلاة: التسبيح في الركوع؛ أي قول: سبحان ربي العظيم.
والواجب أن يقولها مرةً واحدة، فمن قال: سبحان ربي العظيم مرةً واحدة، فقد أتى بالقدر الواجب، وأدنى الكمال ثلاث تسبيحات، والأفضل عشر تسبيحات، ويدل لذلك حديث أنسٍ ، قال: “ما صليت وراء أحدٍ بعد رسول الله أشبه صلاةً برسول الله إلا هذا الفتى” يعني: عمر بن عبدالعزيز، “فحزروا تسبيحه في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات” [3].
قال الميموني: “صليت خلف أبي عبدالله -يعني: الإمام أحمد- فكنت أُسبِّح في الركوع والسجود عشر تسبيحات وأكثر”.
وهل يقول بعد التسبيح: “وبحمده”، فيقول: سبحان ربي العظيم وبحمده؟
جاء هذا في بعض الروايات، ولكن أكثر الروايات مقتصرةٌ على قول: سبحان ربي العظيم.
وحينئذٍ نقول: ينبغي أن يكون الغالب من حال المصلي الاقتصار على قول: سبحان ربي العظيم، من غير زيادة: “وبحمده”، وإن زاد: “وبحمده” أحيانًا فلا بأس.
وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سُئل عن تسبيح الركوع والسجود: سبحان ربي العظيم وبحمده، أعجب إليك، أو: سبحان ربي العظيم؟ فقال: “قد جاء هذا، وجاء هذا”. وروي عنه أنه قال: “أما أنا فلا أقول: وبحمده”.
التسميع في حق الإمام والمنفرد
الثالث من واجبات الصلاة: التسميع في حق الإمام والمنفرد؛ أي قول: سمع الله لمن حمده، وأما المأموم فلا يقوله.
التحميد
الرابع من واجبات الصلاة: التحميد؛ أي قول: ربنا ولك الحمد، للجميع، أي: للإمام والمأموم والمنفرد.
ويدل لذلك قول النبي : إذا قال -أي الإمام-: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد [4].
وقد ورد في هذا الذكر أربع صفاتٍ:
- الأولى: اللهم ربنا ولك الحمد، كما جاء ذلك في (صحيح البخاري) [5].
- الثانية: اللهم ربنا لك الحمد، كما جاء ذلك في الصحيحين [6].
- الثالثة: ربنا ولك الحمد، كما جاء ذلك في الصحيحين أيضًا [7].
- الرابعة: ربنا لك الحمد، كما جاء ذلك في (صحيح البخاري) [8].
فهذه أربع صفاتٍ قد وردت بـها السنة: اللهم ربنا ولك الحمد، اللهم ربنا لك الحمد، ربنا ولك الحمد، ربنا لك الحمد، والأفضل أن ينوع بينها، فتارةً يقول: اللهم ربنا ولك الحمد، وتارةً يقول: اللهم ربنا لك الحمد، وتارةً يقول: ربنا ولك الحمد، وتارةً يقول: ربنا لك الحمد.
وينبغي للمأموم أن يبادر لقول: ربنا ولك الحمد، بعد قول الإمام مباشرةً: سمع الله لمن حمده، ولا يتأخَّر عنه، رجاء أن يوافق قولُه قول الملائكة، فقد جاء في (صحيح البخاري) عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإنه من وافق قولُه قول الملائكة، غُفِر له ما تقدم من ذنبه [9].
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: “وفيه إشعارٌ بأن الملائكة تقول ما يقوله المأمومون، ونظير ذلك ما جاء في حديث أبي هريرة : أن النبي قال: إذا أمَّنَ الإمام فأمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه [10].
والمراد بالموافقة هنا: الموافقة في القول والزمان.
قال ابن المنيِّـر رحمه الله: “الحكمة في إيثار الموافقة في القول والزمان: أن يكون المأموم على يقظةٍ للإتيان بالوظيفة في مـحلِّها؛ لأن الملائكة لا غفلة عندهم، فمن وافقهم كان مُتيقِّظًا”.
والمراد بالملائكة في هذه الأحاديث:
- قيل: جميع الملائكة.
- وقيل: الحفَظَة.
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: “والذي يظهر أن المراد بالملائكة في هذه الأحاديث: من يشهد تلك الصلاة، ممن في الأرض أو في السماء”.
التسبيح في السجود
الواجب الخامس من واجبات الصلاة: التسبيح في السجود؛ أي قول: سبحان ربي الأعلى.
والواجب أن يقولها مرةً واحدة، والمشروع أن يقولها من غير زيادة: “وبحمده” كما قلنا في الركوع، لكن إن زاد: “وبحمده” أحيانًا فلا بأس؛ لورود ذلك في بعض الروايات، والقدر المـجزئ تسبيحةٌ واحدة، وأدنى الكمال ثلاث، والأفضل عشر.
والسنة: أن يزيد على التسبيح في الركوع والسجود قول: “سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي”.
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي؛ يتأوَّل القرآن” [11]، وقولها: “يتأوَّل القرآن” تعني قول الله : فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3].
أيها الإخوة، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية واجبات الصلاة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 631. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 378، ومسلم: 411. |
^3 | رواه أبو داود: 888، وأحمد: 12465. |
^4 | رواه البخاري: 805، ومسلم: 411. |
^5 | رواه البخاري: 795. |
^6 | رواه البخاري: 796، ومسلم: 409. |
^7 | رواه البخاري: 689، ومسلم: 411. |
^8 | رواه البخاري: 722، ومسلم: 414. |
^9 | رواه البخاري: 780، ومسلم: 409. |
^10 | سبق تخريجه. |
^11 | رواه البخاري: 794، ومسلم: 484. |