عناصر المادة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أحكام زوال اللباس عمَّا يتعيَّـن ستره في الصلاة
كأن يكون لابسًا للباس الإحرام مثلًا، فنزل الإزار عن السرَّة، فصلى وقد انكشف جزءٌ يسيرٌ من عورته، أو انكشف من العورة جزءٌ كثيرٌ فستره في الحال، فهل تصح الصلاة في هذه الحال؟
نقول: إذا زال اللباس عمَّا يتعيَّـن ستره في الصلاة وهو في أثنائها، فلا يخلو الأمر من أن يكون زوال اللباس يسيرًا أو كثيرًا؛ فإن كان كثيرًا، فلا يخلو الأمر من أن يستر عورته في الحال، من غير تطاول الزمان أو لا؛ فإن كان الانكشاف كثيرًا، واستمر هذا الانكشاف مدةً طويلة، فإن صلاته تبطل عند جمهور العلماء؛ وذلك لإخلاله بشرط ستر العورة في الصلاة، أما إذا كان الانكشاف يسيرًا، أو أن الانكشاف كان كثيرًا، لكنه ستره في الحال من غير تطاول الزمان، فقد اختلف العلماء في ذلك، والظاهر -والله أعلم- أن الانكشاف اليسير غير مبطلٍ للصلاة مطلقًا، وهو مذهب الحنفية، وهو أحد الأقوال عند المالكية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة.
ويدل لذلك: ما جاء في (صحيح البخاري) عن عمرو بن سلمة : أن النبي قال: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنًا [1]؛ فنظروا فلم يكن أحدٌ أكثر قرآنًا مني؛ لـمَّا كنت أتلقَّى الركبان، فقدمونـي بين أيديهم، وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عليَّ بردةٌ كنت إذا سجدتُّ تقلَّصت عنِّـي، فقالت امرأةٌ من القوم: ألا تغطون عنا أُسْتَ قارئكم؟!” وفي رواية أبي داود: “فقالت امرأةٌ من النساء: واروا عنَّا عورة قارئكم، قال: فاشتروا لي قميصًا، فما فرحت بشيءٍ فرحي بذلك القميص” [2].
ففي هذه القصة كان عمرو بن سلمة يصلي بقومه في عهد النبي ، وقد انكشف جزءٌ من عورته، ولـم يُنقَل عن النبي أنه أنكر عليه ذلك، أو أنه أمره بإعادة الصلاة، فدلَّ ذلك على صحة الصلاة مع الانكشاف اليسير للعورة.
ثم إن الثياب لا سيما ثياب الفقراء لا تخل في الغالب من خَرْقٍ أو فَتْقٍ، والاحتراز من ذلك يشق، فعفي عنه كيسير الدم، ثم إن القاعدة عند بعض الفقهاء: أن ما صحَّت الصلاة مع كثيره حال العذر، فُرِّق بين قليله وكثيره في غير حال العذر كالمشي أثناء الصلاة، وقد اختلف العلماء في الحد الفاصل بين اليسير والكثير.
والأظهر -والله أعلم- أن حد الكثير: هو ما فحُش في النظر، وحد اليسير: هو ما لا يفحش في النظر، وأن المرجع في ذلك إلى العُرْف والعادة، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة؛ وذلك لأن الشرع لَـم يرد بتقدير الحد الفاصل بين الانكشاف اليسير والانكشاف الكثير، فيُرجع في ذلك إلى العُرف؛ لأن كل ما لَـم يرد الشرع بتقديره، فإنه يُرد إلى العرف، كالكثير من العمل في الصلاة، وكالحِرْز في السرقة، ونحو ذلك.
والتقدير من غير دليلٍ تحكُّمٌ فلا يُصار إليه.
هذا ما يتعلق بالانكشاف اليسير.
وأما إذا كان الانكشاف كثيرًا، فإنْ ستَرَ العورة في الحال من غير تطاول الزمان، فلا يخلو: أن يكون الانكشاف عن عمدٍ، أو عن غير عمد:
أما إذا كان هذا الانكشاف الكثير عن عمدٍ، فإن صلاته تبطل؛ لأن ستر العورة شرطٌ من شروط صحة الصلاة، وقد أخلَّ به متعمِّدًا.
أما إذا كان هذا الانكشاف الكثير عن غير عمدٍ، كما لو حصل الانكشاف بفعل ريحٍ، ونحو ذلك، فستر عورته في الحال من غير تطاول الزمان، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة:
والأظهر -والله تعالى أعلم- أن صلاته صحيحة، وأنه لا يُؤثر ذلك الانكشاف على صحة صلاته، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة، وهو قول ابن القاسم من المالكية، وذلك قياسًا على الانكشاف اليسير للعورة، فإنه -كما سبق- غير مبطلٍ للصلاة، فكذلك الانكشاف الكثير في الزمن اليسير، بجامع أن كلًا منهما يشق التحرُّز منه؛ ولأن هذا الانكشاف انكشافٌ عارضٌ حصل بلا تقصيرٍ من المصلي، فيُعفى عنه لمشقَّة التحرُّز منه.
الحاصل: أن الانكشاف اليسير للعورة في الزمن الكثير أنه لا يضر، وأن الصلاة تصح معه؛ لقصة عمرو بن سلمة ، ويقاس عليه كذلك الانكشاف الكثير في الزمن اليسير عن غير عمدٍ، فالصلاة تصح معه كذلك.
حكم الثياب الشفافة في الصلاة
ويحسن التنبيه ونحن نتحدث عن شرط ستر العورة في الصلاة: إلى أن الخفيف من اللباس الذي يَشفُّ عما يجب ستره في الصلاة، لا تصح الصلاة معه، وبذلك يُعلم خطأ أولئك الذين يصلون في الثياب الرقيقة، التي تشف عمَّا وراءها، ويلبسون تحتها سراويل قصيرة، بحيث تبدو أفخاذهم من وراء تلك الثياب، فإن صلاتـهم لا تصح عند جمهور العلماء لإخلالهم بشرط ستر العورة في الصلاة.
على أنه يحرم لبس الخفيف من اللباس الذي يَشِفُّ عمَّا يجب ستره أمام الناس، وقد أخرج مسلمٌ في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : صنفان من أهل النار لَـم أرهما: قومٌ معهم سِيَاطٌ كأذناب البقر يضربون بـها الناس، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ، مُـمِيلاتٌ مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا [3].
قال الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله: “أراد بقوله: كاسياتٍ عارياتٍ: اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصف ولا يستر، فهنَّ كاسيات بالاسم، عارياتٌ في الحقيقة، وقد رُوي عن أم علقمة بنت أبي علقمة قالت: “رأيت حفصة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر دخلت على عائشة رضي الله عنها، وعليها خمارٌ رقيقٌ يَشِفُّ عن جبينها، فشقَّتْه عائشة رضي الله عنها، وقالت: أما تعلمين ما أنزل الله من سورة النور، ثم دعت بخمارٍ فكستها”.
ففي هذا الأثر أنكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على هذه المرأة لبسها للخمار الرقيق، وقد فهمت عائشة رضي الله عنها هذا من أمر الله تعالى للمؤمنات بأن يضربنَ بخُمُرهنَّ على جيوبـهنَّ؛ ولهذا قالت: أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور، إشارةً إلى أن من تستَّرت بلباسٍ شفَّاف، فإنـها في حقيقة الأمر لَـم تستتر ولـم تأتَـمِر بقول الله تعالى في سورة النور: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31].
الضابط في اللباس الشفاف
والضابط في اللباس الذي يَشِفُّ عمَّا تحته: أن يُرى لون الجلد من ورائه، فيعلم بياضه أو سواده أو حمرته أو نحو ذلك، فإذا كان هذا اللباس كذلك، يرى من ورائه لون الجلد، فإنه لا تصح الصلاة معه؛ لكونه غير ساترٍ للعورة.
أيها الإخوة، هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.