عناصر المادة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
لا يزال الحديث موصولًا عن شرط ستر العورة في الصلاة، وقد سبق الكلام عن لباس الرجل في الصلاة، ونتحدث في هذه الحلقة عن لباس المرأة في الصلاة.
وجوب ستر عورة المرأة في الصلاة
يجب على المرأة الحرَّة أن تستر في الصلاة جميع بدنـها، ما عدا الوجه والكفَّين والقدمين.
ويدل لذلك: حديث ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله قال: المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان [1]، أخرجه الترمذي في “سننه”، وصححه ابن خزيـمة وابن حبان.
فقوله عليه الصلاة والسلام: المرأة عورة يقتضي وجوب ستر جميع بدنـها، وهو عامٌ في الصلاة، وفي غيرها، إلا أنه يُستثنى من ذلك الوجه، وكذلك الكفَّان والقدمان.
دليل كشف الوجه في الصلاة
أما الوجه: فقد أجمع العلماء على جواز كشفه في الصلاة، ومـمن حكى الإجماع على ذلك الحافظ ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى، وقال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا نعلم فيه خلافًا”.
حكم كشف الكفين والقدمين في الصلاة
وأما الكفَّان والقدمان، فقد اختلف العلماء في حكم سترها في الصلاة على ثلاثة أقوال:
- الأول: لا يجب ستر الكفَّين والقدمين في الصلاة، وإليه ذهب الثوري والمزني، وهو الرواية الصحيحة عند الحنفية.
- الثاني: يجب ستر القدمين، وأما الكفان فلا يجب سترهما في الصلاة، وإليه ذهب الأوزاعي وأبو ثورٍ، وهو روايةٌ عند الحنفية، وهو مذهب المالكية والشافعية، والرواية المعتمدة عند الحنابلة.
- الثالث: أنه يجب ستر الكفين والقدمين في الصلاة، وهو روايةٌ عند الحنابلة.
وأظهر هذه الأقوال -والله تعالى أعلم-: هو القول الأول: وهو أنه لا يجب ستر الكفين والقدمين في الصلاة، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ولـم يرد في السنة حديثٌ خاصٌ يدل على وجوب ستر الكفين في الصلاة، وغاية ما استدل به من رأى الوجوب: عموم قول النبي : المرأة عورةٌ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان [2].
وأما القدمان: فاستدل من رأى وجوب سترهما في الصلاة، بحديث أم سلمة رضي الله عنها: “أنَّـها سألت النبي : أتصلي المرأة في درعٍ وخمارٍ ليس عليه إزار؟ فقال رسول الله : إذا كان الدرع سابغًا يغطي ظهور قدميها [3]، أخرجه أبو داود والبيهقي والحاكم.
وقد ضعَّف هذا الحديث جمعٌ من المـحدثين، وممن ضعَّفه الدارقطني، وابن الجوزي، وابن عبدالهادي، والحافظ ابن حجر رحمهم الله تعالى، وحاصل ما أُعِل به: أن هذا الحديث قد جاء من طريق عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار، عن محمد بن زيد بن قنفذ عن أمه، عن أم سلمة: أنَّـها سألت النبي .
وأم محمد بن زيد لا تُعرَف، ثم إن ابن دينار قد تفرَّد برفع هذا الحديث، وهو مع كونه من رجال البخاري، فإن فيه ضعفًا من قِبَل حفظه، وقد خالفه جماعةٌ من الثقات، فرووه من طريق محمد بن زيد عن أمه، عن أم سلمة موقوفًا عليها، قال ابن عبدالهادي رحمه الله: “قد غلط -أي: ابن دينار- في رفع هذا الحديث” وصوَّب الدارقطني كون هذا الحديث موقوفًا على أم سلمة، وتبعه على ذلك الحافظ ابن حجر في (التلخيص)؛ ولكن مع ذلك تبقى جهالة أم محمد بن زيد قادحةً في صحته موقوفًا.
والحاصل: أن هذا الحديث لا يصح مرفوعًا إلى النبي ، وفي صحته موقوفًا إلى أم سلمة نظرٌ.
وحينئذٍ نقول: إنه لَـم يثبت كذلك في وجوب ستر القدمين في الصلاة شيءٌ، والأظهر -والله أعلم- أن ذلك لا يجب.
ويدل لذلك: أن النساء على عهد النبي إنـما كان لهنَّ قُمُص، وكُنَّ يصنعن الصنائع والقُمُص عليهنَّ، فتُبدي المرأة يديها إذا عجنت وطحنت وخبزت، وكذلك قدميها، ولو كان ستر القدمين واليدين في الصلاة واجبًا؛ لبيَّـن ذلك النبي ؛ إذ أن هذا مـمَّا تحتاج الأمة إلى بيانه على مر القرون، وهذه المسألة مـمَّا تعم بـها البلوى، فلو كان ستر اليدين والقدمين في الصلاة واجبًا؛ لبيَّـن ذلك النبي باينًا ظاهرًا.
وظاهر حال نساء الصحابة رضوان الله عليهم أنـهنَّ كُنَّ يُصلِّين في القُمُص والـخُمُر، ولو كان ستر الكفَّين والقدمين واجبًا؛ لأمرهنَّ به النبي ، كما أمرهنَّ بالـخُمُر مع القُمُص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “أمر المرأة في الصلاة بتغطية يديها بعيدٌ جدًا، واليدان يسجدان كما يسجد الوجه، والنساء على عهد النبي إنـما كان لهنَّ قُمُصٌ، وكنَّ يصنعنَ الصنائع والقُمُص عليهنَّ، فتبدي المرأة يديها إذا عجنت وطحنت وخبزت، ولو كان ستر اليدين في الصلاة واجبًا لبيَّنه النبي ، وكذلك القدمان، وإنـما أمر بالخمار فقط مع القميص، فكُنَّ يُصلِّينَ بقُمُصِهنَّ وخُـمُرِهنَّ.
وأما الثوب الذي كانت المرأة تُرخِيْه، وسألت عن ذلك النبي ، فقال: شبرًا فقلن: إذًا تبدو سُوقُهنَّ، فقال: ذراعًا لا يزدن عليه [4]، فهذا كان إذا خرجن من البيوت، ولهذا: سئل عن المرأة تـجرُّ ذيلها على المكان القذر، فقال: يُطهِّره ما بعده [5].
وأما في نفس البيت فلم تكن تلبس ذلك، كما أن الخِفَاف اتخذها النساء بعد ذلك لستر السوق إذا خرجن، وهُنَّ لا يلبسنها في البيوت؛ ولهذا قُلْنَ: “إذًا تبدوا سوُقُهنَّ” فكان المقصود تغطية الساق؛ لأن الثوب إذا كان فوق الكعبين؛ بدا الساق عند المشي.
وكُنَّ نساء المسلمين يُصلِّين في بُيُوتـهنَّ، وقد قال النبي : لا تـمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتـُهنَّ خيرٌ لهنَّ [6]، ولـم يؤمرن مع القُمُص إلا بالـخُمُر، لَـم تؤمر بسراويل؛ لأن القميص يغني عنه، ولـم تؤمر بـما يُغطِّي رجليها لا خُفٍّ ولا جورب، ولا بـما يغطي يديها لا بقفَّازين ولا غير ذلك، فدل على أنه لا يجب عليها في الصلاة ستر ذلك إذا لَـم يكن عندها رجالٌ أجانب”.
أخذ الزينة في الصلاة للمرأة
والمرأة كالرجل: يستحب لها أن تأخذ زينتها في الصلاة، زيادةً على ما يجب عليها ستره في الصلاة؛ لدخولها في عموم قول الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، فقوله: عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، أي: عند كل سجود، والمراد: عند كل صلاة، حتى لو صلَّت المرأة وحدها، فيُستحب لها كما يستحب للرجل أخذ الزينة في الصلاة؛ لأن أخذ الزينة في الصلاة إنـما هو لحق الله .
ولهذا: فإن المرأة الحرَّة لو صلَّت مكشوفة الرأس بدون خمار، فإن صلاتـها لا تصح حتى ولو كانت وحدها.
ومن أخذ الزينة في الصلاة بالنسبة للمرأة الحرة: أن تبالغ في ستر جميع بدنـها، ما عدا الوجه.
ومن ذلك: ستر ما وقع الخلاف في وجوب ستره، وهما الكفَّان والقدمان، حتى عند القائلين بأنه لا يجب سترها، فإنـهم مع قولهم بعدم وجوب سترها، إلا أنَّـهم يرون أنه يُستحب للمرأة الحرة ستـرها خروجًا من الخلاف؛ ولأن ذلك أبلغ في الستر المتأكد في الصلاة، لا سيما للمرأة.
ونحن قد رجحنا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من أن المرأة الحرة لا يجب عليها ستر قدميها ولا كفَّيها في الصلاة، ولكن مع ذلك نقول: إنه يُستحب للمرأة أن تستر كفيها وقدميها في الصلاة؛ لأن ذلك أبلغ في الستر، وخروجًا من الخلاف في هذه المسألة.
ويدخل في الزينة التي ينبغي للمرأة أن تأخذها في الصلاة: صلاة المرأة في ثلاثة أثواب:
- دِرْعٍ سابغٍ؛ يغطي البدن والرجلين.
- وخمار؛ يغطي الرأس والعنق.
- وجلباب؛ وهو الملحفة، تلتحف به من فوق الدرع.
وقد روي عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: “إذا صلت المرأة فلتصلِّ في ثيابـها كلها: الدرع، والخمار، والملحفة” وروي نحو ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
قال الإمام أحمد رحمه الله: “قد اتفق عامة العلماء على الدرع والخمار، وما زاد فهو خيرٌ وأستر” وكلام الإمام أحمد رحمه الله يدل على أن الأمر في ذلك واسع، أي: سواءٌ صلَّت المرأة في درع وخمار وجلباب، أو في درعٍ وخمار وإزار، ولكن إذا صلت في درعٍ وخمارٍ وجلباب، فينبغي أن تجافي الجلباب عنها عند الركوع والسجود؛ لئلا تصفها ثيابـها، وكذلك أيضًا تكشف الجلباب ولا تضمه في حال القيام؛ لئلا يصف أعضاءها.
أيها الإخوة، هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه الترمذي: 1173، وابن حبان: 5598، وابن خزيمة: 1685، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. |
---|---|
^2 | سبق تخريجه. |
^3 | رواه أبو داود: 640، والبيهقي في السنن الكبرى: 3251، والحاكم في المستدرك: 915. |
^4 | رواه الترمذي: 1731، والنسائي: 5338، وأحمد: 5172، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. |
^5 | رواه أبو داود: 383، والترمذي: 143، وابن ماجه: 531، وأحمد: 26488. |
^6 | رواه أبو داود: 567، وأحمد: 5468. |