إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
لا يزال الحديث موصولًا عن شرط: ستر العورة.
ونبتدئ في هذه الجلقة بالحديث عن معنى العورة في اللغة، وفي الشرع، وبالفرق بين عورة النظر، والعورة في الصلاة، ثم نُبيّن حد عورة الرجل في الصلاة.
تعريف العورة
العورة في اللغة: مشتقةٌ من الفعل (عَوَرَ)، وقد ذكر ابن فارس رحمه الله: أن العين والواو والراء أصلان:
- أحدهما يدل على تداول الشيء، ومنه قولهم: عَوَرَ القوم فلانًا، واعتوروه ضربًا، إذا تعاونوا.
- الأصل الآخر يدل على مرضٍ في إحدى عيني الإنسان، وكل ذي عينين، ومعناه: الخلو من النظر.
والعورة مشتقةٌ من هذا الأصل، كأنه شيءٌ ينبغي مراقبته لخلوه، وتطلق العورة في اللغة على عدة معانٍ، فتطلق على سَوْءَة الإنسان، وكل ما يُستَحيَا منه إذا ظهر، وعلى كل مكمن للستر، وعلى العيب، وعلى الخلل، وعلى الساعة التي يغلب ظهور العورة فيها وهي ثلاث ساعات: ساعةٌ قبل صلاة الفجر، وساعةٌ عند منتصف النهار، وساعةٌ بعد العشاء الآخرة.
وأما تعريف العورة في الشرع فهي: ما يجب ستره في الصلاة، وما يحرم النظر إليه.
وهذا هو أحسن التعريفات التي قيلت في تعريف العورة في الشرع، وهو بـهذا المعنى تكون العورة مشتقَّةً من الأصل الثاني لمادة: العين والواو والراء، الذي معناه: الخلو من النظر، وكأنـها شيءٌ ينبغي مراقبته لِـخُلوِّه.
الفرق بين عورة النظر والعورة في الصلاة
هناك فرقٌ بين عورة النظر، وبين العورة في الصلاة؛ ويتضح الفرق بينهما من خلال بيان المراد بكلٍ منهما:
- فالمراد بعورة النظر: ما يحرم كشفه أمام من لا يحل النظر إليه.
- والمراد بالعورة في الصلاة: ما يجب ستره في الصلاة.
وليست العورة في الصلاة مرتبطةً بعورة النظر، لا طردًا ولا عكسًا، كما قرّر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ووجه ذلك: أن النهي عن النظر والمس لعورة النظير، كالرجال مع الرجال، والنساء مع النساء؛ لِمَا في ذلك من القبح والفحش، وأما الرجال مع النساء، فلأجل شهوة النكاح، وأما الصلاة فإن الأمر بستر العورة فيها لحق الله تعالى، فإن المرأة لو صلت وحدها لكانت مأمورةً بالاختمار، وفي غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها في بيتها، وليس لأحدٍ أن يصلي عريانًا مع قدرته على الستر، ولو كان وحده.
وحينئذٍ: قد يستر المصلي في الصلاة ما يجوز إبداؤه في غير الصلاة، وقد يبدي في الصلاة ما يستره في غير الصلاة، فمثال الأول: المنكبان، فإنه قد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : أن النبي قال: لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء [1]، فهذا لحق الصلاة، ويجوز له كشف منكبيه للرجال خارج الصلاة، وكذلك المرأة الحرة تختمر في الصلاة، وهي لا تختمر عند زوجها، ولا عند ذوي محارمها، فيجوز لها أن تكشف رأسها لهؤلاء.
ومثال الثاني: الوجه بالنسبة للمرأة، فإنه ليس لها أن تبدي وجهها للأجانب على أصح القولين، ويجوز لها كشف وجهها في الصلاة بالإجماع.
فتبيّن بـهذا: الفرق بين عورة النظر، والعورة في الصلاة، وتبيّن غلط من ظن أن الذي يستر في الصلاة هو الذي يستر عن أعين الناظرين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذي يُستَر في الصلاة، هو الذي يُستَر عن أعين الناظرين، وهو العورة، وقد أخذ ما يستر في الصلاة من قول الله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]، ثم قال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ [النور:31]، يعني: الباطنة، فقال: يجوز لها في الصلاة أن تبدي الزينة الظاهرة دون الباطنة” ثم شرع رحمه الله في بيان الفرق بين عورة النظر، والعورة في الصلاة، وبيان غلط هذه الطائفة.
حد عورة الرجل في الصلاة
وقد اختلف الفقهاء في حد عورة الرجل في الصلاة.
وقبل عرض أقوال الفقهاء في هذه المسألة، نقول: إنه لا خلاف بين العلماء في أن ما فوق سرَّة الرجل، وما تحت ركبته ليس بعورة، ولا خلاف بينهم في أن القبل والدبر عورة، وإنـما الخلاف فيما عدا ذلك، أي: فيما عدا الفرجين، مـمَّا تحت السرة، وفوق الركبة، وفي السرة والركبة كذلك.
- القول الأول: أن عورة الرجل في الصلاة: هي ما بين السرَّة والركبة، مع دخول السرة والركبة فيها، وهذا قولٌ عند المالكية، وأحد الوجوه عند الشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة.
- القول الثاني: أن العورة في الصلاة، هي: ما بين السرة والركبة، مع عدم دخولهما فيها، وهذا هو الصحيح من مذهب المالكية، والصحيح كذلك من مذهب الشافعية، والرواية المعتمدة عند الحنابلة.
- القول الثالث: أنَّـها ما بين السرة والركبة، مع دخول الركبة، وعدم دخول السرة، وهذا هو مذهب الحنفية، وقولٌ عند المالكية، وأحد الوجوه عند الشافعية.
والأقرب في هذه المسألة -والله تعالى أعلم- هو القول الأول: وهو أن عورة الرجل في الصلاة هي ما بين السرة والركبة، مع دخول السرة والركبة فيها.
ويدل لذلك مجموع أدلةٍ، والاستدلال إنـما هو بـمجموع الأدلة لا بآحادها؛ إذ أن أكثرها لا تخل من ضعفٍ من جهة الإسناد، ولكن الاستدلال إنـما يقع بـمجموع هذه الأدلة.
ويـمكن تقسيم هذه الأدلة إلى أربعة أقسام:
- الأول: الأدلة الدالة على أن ما تحت السرة، وفوق الركبة عورة، ومنها: حديث أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله يقول: ما فوق الركبتين من العورة، وما أسفل من السرة من العورة [2]، أخرجه الدارقطني والبيهقي، وفي سنده مقال.
- الثاني: الأدلة الدالة على أن الركبة من العورة، ومنها: حديث علي قال: قال رسول الله : الركبة من العورة [3]، وفي سنده مقال.
قالوا: ولأن الركبة هي ملتقى عظم الساق والفخذ، وعظم الفخذ عورة، وعظم الساق ليس بعورة، فقد اجتمع في الركبة المعنى الموجود لكونـها عورة؛ ولكونـها غير عورة، فيترجح المُوجِب لكونـها عورةٌ احتياطًا. - الثالث: الأدلة الدالة على أن السرة من العورة، ومنها: ما أخرج البيهقي من طريق ابن جريج: أن النبي قال: السرة من العورة [4]، وهذا الحديث وإن كان صريح الدلالة في أن السرة تدخل في العورة، إلا أنه ضعيفٌ من جهة الإسناد، ولهذا قال البيهقي: “هذا معضلٌ مرسل”؛ ولأن السرة هي أحد حدي العورة، فتكون من العورة كالركبة.
- رابعًا: الأدلة الدالة على أن الفخذ عورة، ومنها: حديث جُرهد الأسلمي : أن النبي مر به وهو كاشفٌ عن فخذه، فقال: غطِّ فخذك، فإن الفخذ عورة [5]، أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد والبيهقي والدارقطني والحاكم، وهو صريح الدلالة في أن الفخذ عورة، وله شواهد يتقوَّى بـها، ولا يقل بـها عن درجة الحسن.
وكذلك أيضًا: حديث محمد بن جَحْش قال: “مر رسول الله على مَعْمَر وفخذاه مكشوفتان، قال: يا معمر، غطِّ فخذيك، فإن الفخذين عورة [6]، وهذا صريح الدلالة في أن الفخذ عورة، واعترض عليه بأن في إسناده ضعفًا؛ لجهالة بعض رواته.
وفي حديث علي : أن النبي قال: لا تُبْـرِز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حيٍّ ولا ميت [7]، أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم، ووجه الدلالة: أن النبي نـهى عن إبراز الفخذ، والنظر إلى فخذ الغير، سواء كان حيًّا أو ميتًا، وهذا يدل على أن الفخذ عورة؛ إذ لو لَـم يكن عورة؛ لَمَا نـهى النبي عن إبرازه، وعن النظر إلى فخذ الغير؛ واعتُرِض عليه بأن في إسناده ضعفًا لانقطاعه بين ابن جُريج وحبيب بن ثابت، وفي سنده مقال.
هذه الأحاديث وإن كان بعضها لا يخل من ضعف، إلا أنَّـها تدل بـمجموعها على أن عورة الرجل في الصلاة ما بين السرة إلى الركبة، مع دخول السرة والركبة فيها؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لا ينبغي أن يكون هناك خلافٌ في أنه يجب تغطية الفخذ في الصلاة؛ إذ كيف يناجي المسلم ربه وهو بادئ الفخذين، ولـم يستر منه سوى السوأتين؟!”.
أيها الإخوة، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة، إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 359، ومسلم: 516. |
---|---|
^2 | رواه البيهقي في الكبرى: 3237، والدارقطني: 890. |
^3 | رواه الدارقطني: 889. |
^4 | مختصر خلافيات البيهقي: 2/ 152. |
^5 | رواه أبو داود: 4014، والترمذي: 2795، وأحمد: 15933، والبيهقي في السنن الكبرى: 3228، والحاكم: 6684، والطحاوي في شرح مشكل الآثار: 1703. |
^6 | رواه أحمد: 22495، والحاكم في المستدرك: 7361. |
^7 | رواه أبو داود: 4015، وابن ماجه: 1460، وأحمد: 1249. |