إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
حكم ستر العورة في الصلاة
إن ستر العورة في الصلاة شرطٌ لصحتها، فمن صلى وهو مكشوف العورة؛ فإن صلاته باطلة في قول جمهور أهل العلم.
ويدل لذلك قول الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، فقد أمر الله تعالى بأخذ الزينة عند كل مسجد، والمراد بالزينة: الثياب الساترة للعورة، كما قال مجاهد رحمه الله وغيره، والمراد بقوله: عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، أي: عند كل موضع سجود، أي: عند كل صلاة، فيكون العبد مأمورًا بستر العورة عند كل صلاة، وهذا يدل على وجوب ستر العورة في الصلاة، وأنه شرطٌ لصحتها.
ويدل ذلك أيضًا: قول النبي ، كما في حديث عائشة: لا يقبل الله صلاة حائضٍ إلا بخمار [1]، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد وابن خزيمة وابن حبان.
ووجه الدلالة: أن النبي نفى قبول صلاة المرأة إذا صلت مكشوفة الرأس بلا خمار، وهذا يدل على اشتراط ستر عورة المرأة، وأنه شرطٌ لصحة الصلاة؛ إذ أن نفي القبول يقتضي نفي الصحة.
حكم تغطية عاتق الرجل في الصلاة
ألحق بعض أهل العلم تغطية عاتق الرجل في الصلاة بستر العورة في الوجوب، وجمهور أهل العلم على أن ذلك مستحب، وأن وجوب الستر إنـما يختص بالعورة، وللعلماء في ذلك أقوالٌ ثلاثة:
- الأول: أنه يجب على المصلي أن يضع على عاتقه شيئًا من اللباس في الصلاة، وبعض أصحاب هذا القول يخص ذلك بالفرض دون النفل، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة.
- الثاني: أن ذلك مستحبٌ وليس بواجب، وإليه ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو إحدى الروايات عند الحنابلة، ونسبه الموفق ابن قدامة رحمه الله لأكثر الفقهاء.
- الثالث: وهو قولٌ وسطٌ بين القولين؛ وهو التفريق بين الثوب الواسع، والثوب الضيق، فإن كان الثوب واسعًا، فيجب على المصلي أن يضع شيئًا منه على عاتقه، وإن كان الثوب ضيقًا فإنه يتَّزر به، ولا يجب عليه أن يضع شيئًا على عاتقه، وإليه ذهب ابن المنذر رحمه الله، وهو مذهب الظاهرية.
ولعل هذا القول الأخير هو الأقرب في هذه المسألة؛ إذ أنه تجتمع به الأدلة الواردة فيها.
ومنها: حديث جابر : أن النبي قال: إذا صليت في ثوبٍ واحدٍ، فإن كان واسعًا فالتحف به، وإن كان ضيقًا فاتَّزِر به [2]، وفي روايةٍ: إذا ما اتسع الثوب، فالْتُعاطِف به على منكبيك، ثم صلِّ، وإذا ضاق عن ذلك، فشُدَّ به حِقْوَيْكَ، ثم صلِّ من غير رداء [3]، فأمر النبي بستر العاتق إذا كان الثوب واسعًا، وبالاتزار بالثوب، وترك ستر العاتق إذا كان ضيقًا.
وفي هذا دلالةٌ على وجوب ستر العاتق إذا كان الثوب واسعًا؛ إذ أن الأمر يقتضي الوجوب، وعلى عدم وجوبه إذا كان الثوب ضيِّقًا، كما يدل لذلك الأمر بالاتزار به في هذه الحال.
ومـما يدل لذلك: قصة جابر رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرجها مسلمٌ في صحيحه بطولها، وجاء فيها: “كانت عليَّ بُرْدَةٌ، ذهبت أن أُخالف بين طرفيها فلم تبلغ لي، وكانت لها ذباذب -أي: أهدابٌ وأطراف- فنَكَّستها، ثم خالفتُ بين طرفيها، ثم تَواقَصْتُ عليها -أي: انحنيتُ-، فلـمَّا فرغ رسول الله قال: يا جابر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: إذا كان واسعًا فخالف بين طرفيه، وإذا كان ضيقًا، فاشدده على حقوك [4].
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: “بيَّـن مسلمٌ في روايته أن الإنكار كان بسبب أن الثوب كان ضيقًا، وأنه خالف بين طرفيه، وتواقص -أي: انحنى عليه- كأنه عند المخالفة بين طرفي الثوب لَـم يصل ساترًا، فانحنى ليستتر، فأعلمه النبي بأن محل ذلك ما إذا كان الثوب واسعًا، أما إذا كان الثوب ضيقًا، فإنه يجزؤه أن يأتزر به؛ لأن القصد الأصلي هو ستر العورة، وهو يحصل بالائتزار، ولا يحتاج إلى التواقص المغاير للاعتدال المأمور به”.
ويدل لذلك أيضًا: حديث أبي هريرة : أن النبي قال: لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد، ليس على عاتقيه منه شيء [5] أخرجه البخاري ومسلمٌ في صحيحيهما.
فنهى النبي عن الصلاة في الثوب الواحد ليس على العاتق منه شيء، والنهي إذا أطلق فإنه يقتضي التحريم، مـمَّا يدل على وجوب ستر العاتق في الصلاة، ولكن هذا محمولٌ على ما إذا كان الثوب واسعًا، بدليل حديث جابرٍ رضي الله تعالى عنهما السابق.
ويدل لذلك أيضًا حديث أبي هريرة : أن النبي قال: إذا صلى أحدكم في ثوبٍ، فليُخالف بين طرفيه على عاتقيه [6].
فأمر النبي بالمخالفة بين طرفي الثوب بستر العاتقين، والأمر يقتضي الوجوب، ولكنه محمولٌ على ما إذا كان الثوب واسعًا، بدليل حديث جابر السابق.
الصلاة في النعال
دلَّت السنة على استحباب الصلاة في النعال، واتفق العلماء على جواز الصلاة فيها، وعلى عدم كراهة الصلاة فيها إذا علمت طهارتـها؛ وذلك للأحاديث الصحيحة الكثيرة الدالة لذلك، حتى إن الطحاوي رحمه الله جعل الأحاديث الدالة على شرعية الصلاة في النعال، من الأحاديث المتواترة.
وقد روي ذلك عن جماعة من الصحابة ، ودل لذلك عدة أحاديث وردت عن النبي ، ومنها: حديث أوس بن أبي أوس قال: “رأيت رسول الله يصلي في نعليه”. [7].
وفي حديث أنسٍ في الصحيحين، أنه سُئل: “أكان النبي يصلي في نعليه؟ قال: نعم” [8]. وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
وجاء في حديث شدَّاد بن أوسٍ : أن النبي قال: خالفوا اليهود، فإنـهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم [9]. أخرجه أبو داود، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وقال الحاكم: “صحيح الإسناد، ولـم يُـخرِّجاه”، وأقره الذهبي، وقال الحافظ العراقي: “إسناده حسن”.
فاليهود ينزعون خَفَافهم ونِعالهم عند الصلاة، ويزعمون في ذلك الاقتداء بـموسى عليه الصلاة والسلام، حيث قال الله تعالى له: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [طه:12]، فأمر النبي بمخالفتهم بالصلاة في النعال، وفي الخِفَاف، والأصل أن الأمر بـمخالفة اليهود يقتضي الوجوب، ولكن صُرِف مقتضى هذا الأمر عن الوجوب أدلةٌ أخرى.
ويدل لذلك أيضًا: حديث أبي سعيدٍ : أن النبي قال: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر: فإن رأى في نعليه قَذَرًا أو أذى، فليمسحه وليصلِّ فيهما. [10].
وحديث أنسٍ : أن النبي قال: إذا توضأ أحدكم ولبس خُفَّيْه، فليمسح عليهما، وليصلِّ فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة [11]، أخرجه الحاكم، والدارقطني، والبيهقي.
وجاء في حديث علي : أن النبي قال: زَيْن الصلاة الحذاء [12]، أخرجه أبو يعلى في مسنده، وفي سنده مقال.
والقول باستحباب الصلاة في النعال مُتوجِّهٌ فيما إذا كان الصلاة تقام في مساجد غير مفروشة بالسجَّاد ونحوه، أي: التي يصلى فيها على التراب، كما كان عليه الحال في مسجد رسول الله ، فإنه لَـم يكن مفروشًا بسجَّادٍ ولا غيره، بل كان النبي وأصحابه يصلون على التراب، حتى إن أحدهم إذا لَـم يستطع أن يُـمكِّن جبهته من الأرض من شدة الحر، بسط ثوبه فسجد عليه.
وكذلك يتوجَّه القول باستحباب الصلاة في النعال، فيما لو صلى الإنسان خارج المسجد، كما لو صلى في البَـرِّية، ونحو ذلك.
ولكن معظم المساجد في وقتنا الحاضر أصبحت مفروشة بالسجَّاد على اختلاف أنواعه، فلا يتوجه القول باستحباب الصلاة في النعال فيها؛ لِمَا يترتب على ذلك من تلويث المسجد وتقذيره، حتى يصبح مع مرور الوقت وكرًا للقاذورات والأذى، فالسجاد الذي تفرش به المساجد في الوقت الحاضر يجذب ما يكون في أسفل النعل من أذى، بحكم ليونته ورخاوته، لا سيما إذا كان ذلك الأذى رطبًا.
وقد تنوعَّت النعال في وقتنا الحاضر، فوجدت نعالٌ لَـم يكن مثلها موجودًا من قبل، كالنعال البلاستيكية التي لا صلابة فيها، وكثيرٌ من الناس لا يبالي، ولا يتحفظ من نعليه، فإذا دخل هؤلاء المسجد بنعالهم؛ تجمعت القاذورات والأذى في فرش المسجد، مـمَّا يلحق الأذى في المصلين.
ولهذا فالذي يظهر -والله أعلم- عدم توجه القول باستحباب الصلاة في النعال في المساجد المفروشة بالسجاد ونحوها، بل ربَّـما يقال: إنه يتعيَّـن القول بخلع النعال عند دخول المساجد، لا سيما إذا كان ذلك يسبب فتنةً، وكراهةً للحق وأهله.
ومن المعلوم عند أهل العلم أن ترك بعض السنن للمصلحة وتأليف القلوب أنه لا بأس به، بل قد يكون مطلوبًا، وقد يَعْرِض للمفضول ما يجعله أفضل من الفاضل، كما يدل لذلك قول النبي في حديث عائشة: لولا أن قومكِ حديثو عهدٍ بجاهليةٍ؛ لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أُخرِج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: بابًا شرقيًا، وبابًا غربيًا، فبلغت به أساس إبراهيم [13].
فترك النبي هدم الكعبة، وبناءها على قواعد إبراهيم؛ مخافة الفتنة؛ ولأجل مصلحة تأليف قلوب الناس، فدل هذا على أن العمل الفاضل قد يُشرَع تركه إذا اقتضت المصلحة ذلك.
وهكذا نقول: إن هذه السنة لا تفعل في المساجد المفروشة؛ نظرًا لِمَا يترتب على ذلك من المفاسد، ويـمكن أن تُـحيا هذه السنة بالصلاة في النعال في البَـرِّية، وفي الأماكن التي لا يوجد فيها سجَّاد، وبذلك لا يقال: إن هذا القول يلزم منه إماتة السنة، فنقول: إن السنة يـمكن إحياؤها بفعل هذه السنة في غير المساجد المفروشة، وكذلك أيضًا ببيان هذه السنة بالقول.
أيها الإخوة، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة، إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أبو داود: 641، والترمذي: 377، وابن ماجه: 655، وابن حبان: 1711، وابن خزيمة: 775، وأحمد: 25167، وقال الترمذي: حديث حسن. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 361، ومسلم: 3010. |
^3 | رواه أحمد: 14594. |
^4 | رواه مسلم: 3010. |
^5 | رواه البخاري: 359، ومسلم: 516. |
^6 | رواه أبو داود: 627، وأحمد: 7608. |
^7 | رواه ابن ماجه: 1037. |
^8 | رواه البخاري: 386، ومسلم: 555. |
^9 | رواه أبو داود: 652، وابن حبان: 2186 والحاكم في المستدرك: 956 والبيهقي في السنن الكبرى: 4257. |
^10 | رواه أبو داود: 650. |
^11 | رواه الحاكم في المستدرك: 643، والدارقطني: 779، والبيهقي في السنن الكبرى: 1329. |
^12 | رواه أبو يعلى الموصلي: 532. |
^13 | رواه البخاري: 1586. |