الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
تكلمنا في الحلقة السابقة عن جملةٍ من مسائل الحيض، ونتحدث معكم في هذه الحلقة عن أحكام الحيض.
الحيض له أحكامٌ كثيرة نذكر منها ما يتسع له وقت هذه الحلقة:
الحائض والصلاة
يحرم على الحائض الصلاة فرضها ونفلها، ولا تصح منها، كذلك لا تجب عليها الصلاة، إلا أن تدرك من وقتها مقدار ركعةٍ كاملة، فتجب عليها الصلاة حينئذٍ، سواءٌ أدركت ذلك من أول الوقت أو من آخره.
مثال ذلك من أوله: امرأة حاضت بعد غروب الشمس بـمقدار ركعة، فيجب عليها إذا طهرت قضاء صلاة المغرب؛ لأنـها أدركت من وقتها قدر ركعةٍ قبل أن تحيض.
ومثال ذلك من آخره: امرأةٌ طَهُرت من الحيض قبل طلوع الشمس بـمقدار ركعة، فيجب عليها إذا تطهَّرت قضاء صلاة الفجر؛ لأنـها أدركت من وقتها جزءً يتسع لركعةٍ.
أما إذا أدركت الحائض من الوقت جزءً لا يتسع لركعةٍ كاملة، مثل أن تحيض في المثال الأول بعد الغروب بلحظة، أو تطهر في المثال الثاني قبل طلوع الشمس بلحظة، فإن الصلاة لا تجب عليها؛ لقول النبي : من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة [1]، متفقٌ عليه؛ فإن مفهومه: أن من أدرك أقل من ركعة لَـم يكن مدركًا للصلاة، وهذا هو الراجح من قولي الفقهاء في المسألة.
وإذا أدركت ركعةً من وقت العصر، فهل تجب عليها صلاة الظهر مع العصر؟ أو أدركت ركعةً من وقت صلاة العشاء الآخرة، هل تجب عليها صلاة المغرب مع العشاء؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة:
- فمن الفقهاء من قال: إنـها إذا أدركت ركعةً من وقت العصر، فيجب عليها صلاة الظهر معها، وإذا أدركت ركعةً من وقت صلاة العشاء، فيجب عليها صلاة المغرب معها.
- وقال بعضهم: إنه لا يجب عليها إلا ما أدركت وقته فقط، وهي صلاة العصر والعشاء الآخرة؛ لقول النبي : من أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر متفقٌ عليه [2]، ولـم يقل النبي : فقد أدرك الظهر والعصر، ولـم يذكر وجوب الظهر عليه، والأصل براءة الذمَّة، وهذا هو مذهب أبي حنيفة ومالك، حكاه عنهما النووي في (شرح المهذَّب).
ولعله القول الأظهر في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
الحائض والأذكار
أما الذكر، والتسبيح، والتكبير، والتحميد، والتهليل، والتسمية على الأكل، وغيره، وقراءة الحديث والفقه، والدعاء، والتأمين على الدعاء، واستماع القرآن؛ فلا يحرم عليها شيءٌ من ذلك، فقد جاء في الصحيحين وغيرهما: “أن النبي كان يتكئ في حجر عائشة رضي الله عنها وهي حائضٌ، فيقرأ القرآن” [3].
وفي الصحيحين عن أم عطية رضي الله عنها: أنـها سمعت النبي يقول: يخرج العواتق، وذوات الخدور والحُيَّض -يعني: إلى صلاة العيدين- وليشهدن الخير، ودعوة المؤمنين، ويعتزل الحيض المصلى [4].
الحائض وقراءة القرآن
أما قراءة القرآن: فإن كان نظرًا بالعين، أو تأملًا بالقلب بدون نطقٍ باللسان فلا بأس بذلك، مثل أن يوضع المصحف أو اللوح، فتنظر إلى الآيات، وتقرؤها بقلبها، فهذا جائزٌ باتفاق العلماء، وأما إن كانت قراءتـها نطقًا باللسان:
- فجمهور العلماء على أنه ممنوعٌ غير جائز.
- وقال البخاري وابن جرير الطبري وابن المنذر: هو جائزٌ، وحكي عن مالك، وعن الشافعي في القول القديم، وذكره البخاري تعليقًا عن إبراهيم النخعي: أنه لا بأس أن تقرأ الآية.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ليس في منعها من القرآن سنةٌ أصلًا، فإن قوله: لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن [5]، حديثٌ ضعيفٌ باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
وقد كان النساء يحضن في عهد النبي ، فلو كانت القراءة محرمةً عليهنَّ كالصلاة؛ لكان هذا مـمَّا بيَّنه النبي لأمته، ولكان هذا مـمَّا تعلمته أمهات المؤمنين، وكان ذلك مـمَّا ينقلونه في الناس، فلـمَّا لـم ينقل أحدٌ عن النبي في ذلك نـهيًا؛ لـم يجز أن تجعل حرامًا، مع العلم أنه لـم ينه عن ذلك، وإذا لـم ينه عنه مع كثرة الحيض في زمنه؛ علم أنه ليس بـمحرم”.
وحينئذٍ نقول: القول الأظهر في هذه المسألة -والله تعالى أعلم- هو أنه لا بأس أن تقرأ الحائض القرآن الكريم.
ومـما يدل على ذلك من السنة: ما جاء في “صحيح البخاري” عن جابر في قصة عائشة رضي الله عنها لـمَّا حاضت في حجة الوداع، قال: “فأمرها النبي أن تفعل ما يفعل الحاج، غير ألا تطوف بالبيت” [6].
وجاء ذلك في رواية من قول النبي : افعلي ما يفعل الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت ولا تصلي [7]، فنهاها النبي عن أمرين: عن الطواف بالبيت، وعن الصلاة، ولـم ينهها عما عدا ذلك.
ومعلومٌ أن قراءة القرآن من أفضل أعمال الحاج، فلو كانت الحائض مـمنوعةً من قراءة القرآن؛ لبيَّـن ذلك النبي ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وحينئذٍ نقول: الأظهر أن الحائض يجوز لها أن تقرأ القرآن عن ظهر قلب، أو تقرأه من وراء حائل؛ لكنها لا تـمس المصحف.
الحائض والصيام
يحرم على الحائض الصيام فرضه ونفله، ولا يصح منها، لكن يجب عليها قضاء الفرض؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: “كان يصيبنا ذلك -تعني الحيض- فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة” [8]، متفقٌ عليه.
وإذا حاضت وهي صائمةٌ بطل صومها، ولو كان ذلك قُبَيل الغروب بلحظة، ووجب عليها قضاء ذلك اليوم إن كان فرضًا، أما إذا أحست بانتقال الحيض قبل الغروب، لكن لـم يخرج إلا بعد الغروب، فإن صومها صحيحٌ وتامٌّ، ولا يبطل على القول الصحيح؛ لأن الدم في باطن الجوف لا حكم له.
ولأن النبي لـمَّا سُئل عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، هل عليها من غسل؟ قال: نعم، إذا هي رأت الماء [9]، فعلّق الحكم برؤية المني لا بانتقاله، فكذلك الحيض لا تثبت أحكامه إلا برؤيته خارجًا لا بانتقاله.
وإذا طلع الفجر وهي حائضٌ، لـم يصح منها صيام ذلك اليوم، ولو طهرت بعد الفجر بلحظة.
وإذا طهرت قُبَيل الفجر فصامت صح صومها، وإن لـم تغتسل إلا بعد الفجر، كالجنب إذا نوى الصيام وهو جنبٌ، ولـم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر، فإن صومه صحيح؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: “كان النبي يصبح جُنُبًا من جماعٍ غير احتلام، ثم يصوم في رمضان” متفقٌ عليه [10].
الحائض والطواف
ويحرم على الحائض: الطواف بالبيت فرضه ونفله، ولا يصح منها؛ لقول النبي لعائشة لـمَّا حاضت: افعلي ما يفعل الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت، حتى تطهري [11].
وأما بقية الأفعال: كالسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، والمبيت بـمزدلفة ومِنَـى، ورمي الجمار، وغيرها من مناسك الحج والعمرة، فليست حرامًا عليها.
وعلى هذا: فلو طافت الأنثى وهي حائض، ثم خرج الحيض بعد الطواف مباشرةً، أو في أثناء السعي، فلا حرج عليها في ذلك.
ومن أحكام الحائض:
سقوط طواف الوداع عنها، فإذا أكملت الأنثى مناسك الحج والعمرة، ثم حاضت قبل الخروج إلى بلدها، واستمر بـها الحيض إلى خروجها، فإنـها تخرج بلا وداع؛ لحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: “أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفِّف عن المرأة الحائض” [12]، متفقٌ عليه.
ولا يستحب للحائض عند الوداع أن تأتي إلى باب المسجد الحرام وتدعو؛ لأن ذلك لـم يرد عن النبي ، والعبادات مبناها على التوقيف، وفي قصة صفية رضي الله عنها حين حاضت بعد طواف الإفاضة: أن النبي قال لها: فلتنفر إذًا [13].
ولـم يأمر بالحضور إلى باب المسجد، ولو كان ذلك مشروعًا لبيَّنه.
وأما طواف الإفاضة في الحج، وكذا طواف العمرة، فإنه لا يسقط عنها، بل تطوف إذا طهرت.
أيها الإخوة، هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية أحكام الحائض في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 580، ومسلم: 607. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 579، ومسلم: 608. |
^3 | رواه البخاري: 297، ومسلم: 301. |
^4 | رواه البخاري: 324، ومسلم: 890. |
^5 | رواه الترمذي: 131. |
^6 | رواه البخاري: 305، ومسلم: 1211. |
^7 | رواه أبو داود: 1786. |
^8 | رواه البخاري: 321، ومسلم: 335. |
^9 | رواه الترمذي: 122، وقال: هذا حديث حسن صحيح. |
^10 | رواه البخاري: 1931، ومسلم: 1109. |
^11 | سبق تخريجه. |
^12 | رواه البخاري: 1755، ومسلم: 1328. |
^13 | رواه أحمد: 24101. |