عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
وصلنا إلى باب الحيض، وسبق أن نبهنا إلى أن هذا الباب من أهم الأبواب التي تكثر فيها الأسئلة، وكذا الإشكالات، وسبق أن ذكرنا جملةً من أحكامه، ونستكمل الحديث عن جملةٍ أخرى من الأحكام:
ما يجب على الحائض إذا طهرت
فمن أحكام الحيض: أنه يجب على الحائض إذا طهرت أن تغتسل بتطهير جميع البدن.
لقول النبي لفاطمة بنت أبي حُبيش: فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي [1]، أخرجه البخاري في صحيحه.
وأقل واجبٍ في الغسل: أن تعمَّ به جميع بدنـها حتى ما تحت الشعر، والأفضل أن يكون على صفة ما جاء في الحديث عن النبي حين سُئل عن غسل المـحيض، فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسِدرتـها، فتَطَهَّر فتحسن الوضوء، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا، حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليه الماء، ثم تأخذ فِرْصةً مُـمَسَّكَةً أي: قطعة قماشٍ فيها مسكٌ، فتَطَهَّر بـها قالت أسماء: كيف تَطَهَّر بـها؟ قال: سبحان الله! قالت عائشة لها: تتبعين أثر أدم [2]، رواه مسلم.
حكم نقض الحائض شعرها عند الغسل
هل يجب نقض شعر الرأس أثناء الغسل؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة:
- فمنهم من قال: يجب نقض شعر الرأس في هذه الحال.
- ومنهم من قال: إنه لا يجب؛ لِمَا جاء في “صحيح مسلمٍ” عن أم سلمة رضي الله عنها: أنَّـها سألت النبي فقالت: “يا رسول الله، إني امرأةٌ أشد شعر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟” وفي روايةٍ: “للحيضة والجنابة؟” فقال: لا، إنـما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليكِ الماء فتطهرين [3].
وقد حقق ابن القيم رحمه الله هذه المسألة في كتابه “تـهذيب سنن أبي داود” ونصر القول: بأنه يجب على المرأة عند غسل الحيض أن تنقض شعر رأسها، وقال: “إن الصواب في رواية حديث أم سلمة السابق أنَّـها قالت: “أفأنقضه لغسل الجنابة؟” قال: لا“، وأما رواية: “والحيضة” [4]، فضعَّفها ابن القيم رحمه الله تعالى.
فالأظهر -والله أعلم- من قولي الفقهاء في هذه المسألة: أنه يجب على الحائض أن تنقض شعر رأسها عند غسل الحيض، ولا يجب ذلك عند غسل الجنابة، وإنـما يكفيها أن تحثي على رأسها ثلاث حثيات، ثم تفيض عليه الماء.
حكم الحائض إذا طهرت أثناء وقت الصلاة
وإذا طهرت الحائض في أثناء وقت الصلاة وجب عليها أن تبادر بالاغتسال؛ لكي تدرك أداء الصلاة في وقتها، فإن كانت في سفرٍ وليس عندها ماءٌ، أو كان عندها ماءٌ ولكن تخاف الضرر باستعماله، أو كانت مريضةً يضرها الماء، فإنـها تتيمم بدلًا عن الاغتسال حتى يزول المانع ثم تغتسل.
ومن الملاحظ أن بعض النساء تطْهُر في أثناء وقت الصلاة، وتؤخِّر الاغتسال إلى وقتٍ آخر، وتقول: إنه لا يـمكنها كمال التطهر في هذا الوقت، وهذا ليس بحجةٍ ولا بعذر؛ لأنـها يـمكنها أن تقتصر على أقل الواجب في الغسل، وتؤدي الصلاة في وقتها، ثم إذا حصل لها وقت سعةٍ تطهرت التطهر الكامل.
أحكام الاستحاضة
تعريف الاستحاضة
نبدأ أولًا بتعريف الاستحاضة: وهي استمرار الدم على المرأة، بحيث لا ينقطع عنها أبدًا، أو ينقطع عنها مدةً يسيرةً كاليوم واليومين في الشهر، ويسميها بعض الناس في الوقت الحاضر: بالنزيف.
فدليل الحالة الأولى التي لا ينقطع الدم فيها أبدًا: ما جاء في “صحيح البخاري” عن عائشة رضي الله عنها قالت: قالت فاطمةٌ بنت أبي حُبيش لرسول الله : “يا رسول الله، إني لا أطهر” وفي روايةٍ: “إني أُستحاض فلا أطهر” [5].
ودليل الحالة الثانية: التي لا ينقطع الدم فيها إلا يسيرًا: حديث حَـمْنَة بنت جَحْش رضي الله عنها، حيث جاءت إلى النبي فقالت: “يا رسول الله، إني أُستَحاض حيضةً كثيرةً شديدةً”، رواه أحمد وأبو داود والترمذي [6]، ونقل الترمذي عن الإمام أحمد تصحيحه، وعن البخاري تحسينه.
وبـهذا يتبيَّن أن دم الاستحاضة متصلٌ لا ينقطع أبدًا، أو أنه ينقطع مدةً يسيرةً كاليوم واليومين في الشهر.
وبـهذا يعلم خطأ بعض النساء اللاتي ما إن تطول عندهنَّ فترة الحيض تعتبره دم استحاضة، مع أنه لَـم يستمر معها.
حالات المستحاضة
والمستحاضة لها ثلاث حالات:
- الحال الأولى: أن يكون لها حيضٌ معلومٌ قبل الاستحاضة، فهذه ترجع إلى مدة حيضها المعلوم السابق، فتجلس فيها، ويثبت لها أحكام الحيض، وما عداها استحاضة يثبت لها أحكام الاستحاضة.
مثال ذلك: امرأةٌ كان يأتيها الحيض ستة أيامٍ من أول كل شهر، ثم طرأت عليها الاستحاضة، فصار الدم يأتيها باستمرار، فيكون حيضها ستةٍ أيامٍ من أول كل شهر، وما عداه استحاضة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: “أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله، إني أُستَحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، إن ذلك عِرْقٌ، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنتي تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي [7]، أخرجه البخاري في صحيحه.
وفي “صحيح مسلم”: أن النبي قال لأم حبيبة بنت جحش: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي وصلي [8].
فعلى هذا تجلس المستحاضة التي لها حيضٌ معلومٌ قدر حيضها، ثم تغتسل وتصلي، ولا تبالي بالدم حينئذٍ.
- الحالة الثانية: ألا يكون لها حيضٌ معلومٌ قبل الاستحاضة، بأن تكون الاستحاضة مستمرةً بـها من أول ما رأت الدم من أول أمرها، فهذه تعمل بالتمييز، فيكون حيضها ما تَـميَّز إما بسوادٍ، أو غلظةٍ، أو رائحةٍ.
يثبت له أحكام الحيض؛ وذلك أنه يـمكن تـمييز دم الحيض عن دم الاستحاضة:
إما باللون: فدم الحيض أسودٌ، ودم الاستحاضة أحمرٌ.
وإما بالغلظة والكثافة: فدم الحيض غليظٌ كثيفٌ، ودم الاستحاضة رقيق.
وإما بالرائحة: فدم الحيض له رائحة كريهة، ودم الاستحاضة لا رائحة له.
فيمكنها في هذه الحال أن تعمل بالتمييز، فتُميِّز دم الحيض بإحدى هذه العلامات، وما عداه يكون دم استحاضةٍ تثبت له أحكام الاستحاضة.
مثال ذلك: امرأةٌ رأت الدم في أول ما رأته، واستمر عليها؛ لكنها تراه عشرة أيامٍ أسودًا، وباقي الشهر أحمرًا، أو تراه عشر أيامٍ غليظًا، وباقي الشهر رقيقًا، فحيضها هو الأسود في المثال الأول، والغليظ في المثال الثاني، وما عدا ذلك فهو استحاضة؛ لقول النبي لفاطمة بنت أبي حبيش: إذا كان دم الحيضة، فإنه أسود يُعْرَف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي؛ فإنـما هو عِرْقٌ [9]، رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم، وهذا الحديث وإن كان في سنده ومتنه نظر، فقد عمل به أهل العلم رحمهم الله، وهو أولى من ردها إلى عادة غالب النساء.
- الحال الثالثة: ألا يكون لها حيضٌ معلومٌ، ولا تـمييزٌ صالح، بأن تكون الاستحاضة مستمرةً من أول ما رأت الدم، ودمها على صفةٍ واحدة، أو على صفاتٍ مضطربة، لا يـمكن أن تكون حيضًا، فهذه تعمل بالغالب عند النساء، فيكون حيضها ستة أيامٍ أو سبعةٍ من كل شهر، يبتدئ من أول المدة التي رأت فيها الدم، وما عداه استحاضة.
مثال ذلك: أن ترى الدم أول ما تراه في الخامس من الشهر، ويستمر معها الدم من غير أن يكون فيه تـمييزٌ صالحٌ للحيض، لا بلونٍ ولا بغيره، فيكون حيضها من كل شهرٍ ستة أيامٍ أو سبعة، تبتدئ من اليوم الخامس من كل شهر.
ويدل لذلك حديث حَـمْنَة بنت جَحْشٍ رضي الله عنها، أنَّـها قالت يا رسول الله: “إني أُستَحاض حيضةً كبيرة شديدةً، فما ترى فيها؟ قد منعتني الصلاة والصيام، فقال: أنعت لك أي: أصف استعمال الكُرْسُف وهو القطن تضعينه على الفَرْج، فإنه يُذهِب الدم قالت: يا رسول الله، هو أكثر من ذلك، وفيه قال عليه الصلاة والسلام: إنـما هذا ركضةٌ من ركضات الشيطان، فتَحيَّضِي ستة أيامٍ أو سبعة في علم الله تعالى، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيتِ أنك قد طهرتِ واستنقأتِ، فصلي أربعًا وعشرين، أو ثلاثًا وعشرين ليلةً وأيامها، وصومي [10]، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ستة أيامٍ أو سبعة ليس للتخيير، وإنـما هو للاجتهاد، فتنظر فيما هو أقرب إلى حالها مـمن يشابـهها خِلْقةً، ويقاربـها سنًا ورحمًا، وفيما هو أقرب إلى الحيض من دمها، ونحو ذلك من الاعتبارات، فإن كان الأقرب أن يكون ستة، جعلته ستة، وإن الأقرب أن يكون سبعةً، جعلته سبعة.
أيها الإخوة، هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية وأحكام ومسائل هذا الباب في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 320. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 315، ومسلم: 332. |
^3 | رواه مسلم: 330. |
^4 | المعجم الأوسط: 966. |
^5, ^7 | رواه البخاري: 325. |
^6 | رواه أبو داود: 287، والترمذي: 128، وابن ماجه: 622، وأحمد: 27474. |
^8 | رواه البخاري: 325، ومسلم: 334. |
^9 | رواه أبو داود: 304، والنسائي: 215، والحاكم: 618، وابن حبان: 1348. |
^10 | رواه أبو داود: 287، والترمذي: 128، وابن ماجه: 622. |