logo
الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(32) المسح على الخفين- أدلته ومدته

(32) المسح على الخفين- أدلته ومدته

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بـهديه إلى يوم الدين.

نبتدئ الحديث عن أحكام المسح على الـخُفَّيـن.

تعريف الخفين والجوربين والجرموق

و(الخُفَّان): تثنية (خُفٍّ)، وهو ما يُلبس على الرِّجلين من جلدٍ رقيقٍ، بحيث يكون ساترًا للقدمين والكعبين.

و(الجَوْرَبَان): ما يُلبس على الرجلين على هيئة الخف من غير الجلد، وهو ما يُسمى عند العامَّة الآن بـ(الشُّرَّاب).

فظهر بـهذا: أن الفرْق بين الخف والجورب: هو أن الخف يكون من الجلد، والجورب يكون من غير الجلد.

وأما (الجُرْمُوق): فهو ما يُلبَس فوق الخفِّ وقايةً له من الماء ونحوه، ويسمى: المُوق.

قال البهوتي رحمه الله: الجرموق، ويُسمى: الموق، هو خفٌّ قصيرٌ [1].

أدلة مشروعية المسح على الخفين

وقد جاءت النصوص متضافرةً في الدلالة على مشروعية المسح على الخفين، حتى إنها قد بلغت حد التواتر؛ ويدل لذلك من القرآن: قول الله ​​​​​​​: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمروٍ وحمزة: وَأَرْجُلِكُمْ بكسر اللام، واستدل بها كثيرٌ من العلماء على مشروعية المسح على الخفين.

قال القرطبي رحمه الله: “قيل: إن الخفض في الرجلين، إنما جاء مُقيِّدًا لمسحهما، لكن إذا كان عليهما خُفَّان، وتلقَّينا هذا القيد من رسول الله ؛ إذ لـم يصح عنه أنه مسح رجليه، إلا وعليهما خُفَّان، فبيَّـن بفعله الحال التي تُغسل فيها الرجل، والحال التي تُـمسح فيها، وهذا حسنٌ” انتهى كلامه رحمه الله [2].

ومن السنة: قد وردت أحاديث كثيرةٌ من قول النبي وفعله، تدل على مشروعية المسح على الخفين، وقد سبق أن أشرنا إلى أنها قد بلغت حد التواتر، وفي هذا يقول الناظم:

مـما تواتر حديثُ من كَذَب ومن بنى لله بيتًا واحتسب
ورؤيةٌ شفاعةٌ والحوض ومسح خفين وهذي بعض

قال الإمام أحمد رحمه الله: “ليس في قلبي من المسح شيءٌ، فيه أربعون حديثًا عن النبي [3]. أي: ليس في قلبي أدنى شكٍّ بالجواز.

وقال الحسن: “حدثني سبعون من أصحاب النبي : أنه عليه الصلاة والسلام، مسح على الخفين” [4].

ويُشرع المسح على الجوربين؛ قياسًا على الخفين، وقد جاء في حديث المغيرة: “أن رسول الله توضأ ومسح على الجوربين والنعلين” [5]، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وفي سنده مقالٌ.

لكن جاء في حديث ثوبان  قال: “بعث رسول الله سريةً، فأصابهم البرد، فلـمَّا قدموا على النبي ، شكَوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يـمسحوا على العصائب والتساخين” [6]، أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم، بسندٍ صحيحٍ.

و(العصائب) هي: العمائم، و(التساخين) هي: كل ما يُسخّن به القدم، من خفٍّ وجوربٍ، وغيرهما.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “يجوز المسح على الجوربين، ففي السنة أنّ النبي مسح على جوربيه ونعليه، وهذا الحديث إذا لـم يثبت، فالقياس يقتضي ذلك، فإنّ الفرق بين الجوربين والخفين، إنـما كون هذا من صوف، وهذا من جلد، ومعلومٌ أن مثل هذا الفرق غير مؤثرٍ في الشريعة، فلا فرق بين أن يكون جلدًا، أو قطنًا، أو كتَّانًا، أو صوفًا” [7].

أيهما أفضل المسح أم الغسل؟

أيها الإخوة المستمعون:

وأيهما أفضل؛ غسل الرجلين، أو المسح عليهما إذا كان عليهما خُفَّان، أو جوربان؟

قال بعض الفقهاء: الغسل أفضل، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية.

وقال آخرون: بل المسح أفضل، وهو من مفردات مذهب الحنابلة.

وفصَّل بعض العلماء فقالوا: الأفضل في حق كل واحدٍ بحَسَبه؛ فمن كان عليه الخف، كان الأفضل في حقه المسح، ومن كان لا خفَّ عليه، فالأفضل في حقه الغسل، وألا يلبس من أجل أن يـمسح.

وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى.

وهذا القول الأخير: هو القول الأظهر في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.

قال ابن القيم رحمه الله: “لـم يكن يتكلَّف ضد حاله التي عليها قدماه، بل إن كانتا في الخفِّ مسح عليهما، ولـم ينزعهما، وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين، ولـم يلبس الخف ليمسح عليه، قال: وهذا أعدل الأقوال في هذه المسألة، قاله شيخنا” [8]، يريد شيخ الإسلام ابن تيمية.

مدة المسح على الخفين

ومدة المسح على الخفين: يومٌ وليلةٌ للمقيم، وثلاثة أيامٍ بلياليهنَّ للمسافر.

ويدل لذلك ما جاء في “صحيح مسلم” عن عليٍّ  قال: “جعل رسول الله ثلاثة أيامٍ ولياليهنَّ للمسافر، ويومًا وليلةً للمقيم” [9].

بداية المسح

ولكن من أين تبدأ مدة المسح؟

اختلف الفقهاء في ذلك:

فقال بعضهم: تبدأ من أول حَدَثٍ بعد لبس الخف، وهذا هو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.

وقال آخرون: تبدأ من أول مسحٍ بعد الحدث، وهذا القول هو روايةٌ عن أحمد، وهو الأظهر والأقرب، وهو الذي عليه أكثر المـحققين من أهل العلم، وذلك؛ لأن الأحاديث الواردة في المسح على الخفين، إنـما جاءت بلفظ المسح؛ كما في حديث خزيمة بن ثابتٍ : أن النبي  قال: يـمسح المسافر على الخفين ثلاث ليالٍ، والمقيم يومًا وليلةً [10]، أخرجه الترمذي وغيره، وهو صحيحٌ بشواهده.

فهذا الحديث، وما جاء في معناه، إنـما أتى بلفظ المسح، لا بلفظ الحدث، بل جميع أحاديث المسح على الخفين ليس للحَدَث ذكرٌ في شيءٍ منها.

ثم إن النبي رخَّص للمقيم أن يمسح يومًا وليلةً، ولو قلنا: إن ابتداء المدة من الحدث، لكان المسح أقل من يومٍ وليلةٍ، فيكون خلاف الحديث.

والحاصل: أن القول الراجح في هذه المسألة: أن مدة المسح على الخفين تبتدئ من أول مسحٍ بعد الحدث، وقد وقَّتها النبي للمقيم يومًا وليلةً، أي: أربعًا وعشرين ساعةً، وللمسافر ثلاثة أيامٍ بلياليهنَّ، أي: ثنتين وسبعين ساعةً.

وأما قول بعض العامة: إن المدة بالنسبة للمقيم خمس صلوات، فهذا غير صحيحٍ؛ لأن الإنسان قد يصلي بهما في المدة أكثر من ذلك، كما لو لبس الخفين لصلاة الظهر، وبقي على طهارته إلى أن صلى العشاء؛ فهذه المدة من الظهر إلى العصر لا تحسب عليه، فإذا مسح لصلاة الفجر، ابتدأت المدة إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني، فهنا قد صلى بالخفين أكثر من خمس صلوات.

ومثالٌ آخر: توضأ رجلٌ لصلاة العصر، ولبِسَ الجوربين، وبقي على طهارته إلى صلاة العشاء ثم وقع منه الحدث، ولـم يتوضأ إلا عند صلاة الفجر؛ فمعنى ذلك: أنّ مدة المسح تبتدئ من صلاة الفجر، فيَحسِب منها يومًا وليلةً، أي: أربعًا وعشرين ساعةً، أي: أنه يـمسح على الجوربين: الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء.

لكن لو أنه في المثال السابق لـمَّا توضأ لصلاة العصر، بقي على طهارته إلى صلاة العشاء، ثم أحدث بعدها، ثم توضأ قبل أن ينام -فإن السنة ألا ينام المسلم إلا متوضئًا- فإنَّ المدة تبتدئ من تلك اللحظة التي توضأ فيها، فيَحسِب من تلك الساعة أربعًا وعشرين ساعةً، يومًا وليلةً.

والحاصل أيها الإخوة: أن المدة تبتدئ من أول مرةٍ يـمسح فيها على الجوربين، بعدما أحدث وهو لابسٌ لهما.

أيها الإخوة: نستكمل الحديث عن بقية أحكام المسح على الخفين في الحلقة القادمة إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 كشاف القناع: 1/ 111.
^2 الجامع لأحكام القرآن: 6/ 93.
^3, ^4 المغني لابن قدامة: 1/ 206.
^5 أبو داود: 159، والترمذي: 99، وابن ماجه: 559، وأحمد: 18206، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
^6 أبو داود: 146، وأحمد: 22383، والحاكم: 602.
^7 مجموع الفتاوى: 21/ 214.
^8 زاد المعاد: 1/ 192.
^9 مسلم: 276.
^10 الترمذي: 96، وأحمد: 21851، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
zh