logo
الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(23) أحكام الجُنُب والغسل من الجنابة

(23) أحكام الجُنُب والغسل من الجنابة

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

كان آخر ما تكلمنا عنه في الحلقة السابقة: أحكام الجنب، ووعدنا باستكمال الحديث عنها في هذه الحلقة، فنقول:

حكم قراءة القرآن للجنب

من أحكام الجنب: أنه تحرم عليه قراءة القرآن حتى يغتسل.

ويدل لذلك حديث علي رضي الله تعالى عنه قال: “كان النبي يقرئنا القرآن ما لَـم يكن جنبًا” [1]، وفي روايةٍ عنه قال: “كان لا يحجزه من القرآن شيءٌ، ليس الجنابة” [2].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “رواه أصحاب السنن، وصححه الترمذي، وابن حبان، وضعَّف بعضهم أحد رواته، والحق أنَّـه من قبيل الحسن، يصلح للحجة” [3].

وبـهذا يتبيّن أن الجنب مـمنوعٌ من قراءة القرآن، فضلًا عن مسِّ المصحف، ولكنه ليس مـمنوعًا من ذكر الله تعالى والدعاء، وإنـما يختص المنع بقراءة القرآن، فله أن يُسمِّي، ويحمد الله تعالى، ويأتي بجميع أنواع الذكر، ما عدا قراءة القرآن.

وقال العلماء: لا بأس أن يتكلم المـحدث بـما وافق القرآن إن لَـم يقصد القرآن، بل على وجه الذكر، كأن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين.

ويدل لذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله يذكر الله تعالى على كل أحيانه” [4].

وبناءً على ذلك: إذا أراد الجنب تأخير غسل الجنابة إلى ما بعد قيامه من النوم، فالسنة له أن يتوضأ، وإذا أراد أن يأتي بأوراد الذكر التي تُقال عند النوم، فإنه يقتصر على الأدعية والأذكار من غير قرآن، فلا يقرأ آية الكرسي، وسورة الإخلاص، والمعوِّذتين؛ لكونه جُنُبًا، ولكن يأتي بالأوراد من الأدعية والتسبيح ونحوه. 

هل يجزئ غسل الجنابة عن الوضوء؟

ومن أحكام الجنب: أنه إذا نوى باغتساله الوضوء والغسل، أجزأ عنهما جميعًا، ولا يلزمه أن يتوضأ بعد الغسل؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43].

ووجه الدلالة: أنّ الله تعالى جعل الغسل غايةً للمنع من الصلاة، فإذا اغتسل لَـم يُـمنع منها.

ويدل لذلك أيضًا: ما أخرجه أصحاب السنن بسندٍ حسنٍ عن عائشة رضي الله عنها: “أنّ النبي كان لا يتوضأ بعد الغسل” وفي روايةٍ لابن ماجه: “كان لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة” [5]، قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: “هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وهذا قول غير واحدٍ من أهل العلم، من أصحاب النبي والتابعين: ألا يتوضأ بعد الغسل” [6]؛ ولأنـهما عبادتان من جنسٍ واحدٍ، فدخلت الصغرى في الكبرى.

وقال أبو عمر ابن عبدالبر رحمه الله: “المغتسل من الجنابة إذا لَـم يتوضأ، وعمَّ جميع بدنه؛ فقد أدى ما عليه، لأن الله تعالى إنـما افترض على الجنب الغسل من الجنابة دون الوضوء، بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، قال: وهذا إجماعٌ لا خلاف فيه بين العلماء، إلا أنَّـهم أجمعوا على استحباب الوضوء قبل الغسل، تأسيًا برسول الله [7].

وحكاية الإجماع التي حكاها ابن عبدالبر رحمه الله على هذه المسألة محل نظر، فإن بعض الفقهاء قال: لا يجزئ الغسل عن الوضوء حتى يتوضأ قبل الغسل أو بعده، هو راويةٌ عن أحمد، وأحد قولي الشافعي؛ لأن النبي  لـم يُنقل عنه أنه اغتسل ولـم يتوضأ قبل الغسل.

والأقرب -والله تعالى أعلم- في هذه المسألة: أنّ غسل الجنابة يجزئ عن الوضوء مطلقًا، فلا يلزم المغتسل غسل الجنابة أن يتوضأ بعده، ولكن هذا مشروطٌ: بألا يـمسَّ ذكره بعد الغسل، فإن مسَّ ذكره بعد الغسل لزمه الوضوء؛ ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما: “إذا لـم تـمسَّ فرجك بعد أن تقضي غسلك، فأي وضوءٍ أسبغ من الغسل؟!” [8]

ويُشترط شرطٌ آخر: وهو أن ينوي الوضوء مع الغسل، أما إذا اغتسل ولـم ينو الوضوء، فإن هذا الغسل لا يجزئه عن الوضوء، في قول كثيرٍ من الفقهاء.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “فصلٌ: وإن لـم ينوِ الوضوء لـم يجزه إلا عن الغسل؛ لقوله عليه السلام: وإنـما لكل امرئٍ ما نوى [9][10].

والحاصل: أن غسل الجنابة يجزئ عن الوضوء، بشرط: أن ينوي الطهارتين جميعًا، أي: أن ينوي الوضوء مع الغسل، وألا يـمسَّ ذكره بعد الغسل.

هل يجزئ غسل الجمعة عن الوضوء؟

وأما إذا كان الغسل مستحبًا كغسل الجمعة، فإنه لا يجزئ عن الوضوء، بل لا بد معه من الوضوء في أظهر قولي العلماء.

وقد سُئل سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله عن إجزاء غسل الجمعة عن الوضوء، فقال: “إذا كان الغسل مستحبًّا كغسل الجمعة، أو للتبـرُّد، فإنه لا يكفيه عن الوضوء، بل لا بد من الوضوء قبله أو بعده، لقول النبي : لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ، متفقٌ على صحته [11]، ولقوله : لا تقبل صلاةٌ بغير طهور أخرجه مسلمٌ في صحيحه [12]، ولا يُعتبر الغسل المستحب أو المباح تطهُّرًا من الحدث الأصغر، إلا أن يؤديه كما شرعه الله في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6].

قال رحمه الله: أما إذا كان الغسل عن جنابةٍ أو حيضٍ أو نفاسٍ، ونوى المغتسل الطهارتين دخلت الصغرى في الكبرى؛ لقول النبي : إنـما الأعمال بالنيات، وإنـما لكل امرئٍ ما نوى متفقٌ على صحته [13] [14].

ومن أحكام الجنب: أن تأخير غسل الجنابة إلى ما بعد طلوع فجر رمضان لا يُؤثر على صحة الصيام، فيجوز للجنب تأخير الغسل إلى ما بعد طلوع فجر رمضان.

ويدل لذلك: ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: “أنّ النبي كان يصبح جنبًا من جماعٍ، ثم يغتسل ويصوم” [15].

ما يخرج من آثار المني بعد الاغتسال

ومن أحكام الجنب أيضًا: أنّ ما يخرج منه من آثار المنـيِّ بعد الاغتسال من غير شهوة، لا يوجب إعادة الغسل، فإن من الناس من إذا اغتسل خرج منه منـيٌ بدون شهوة، أو شبيهًا به، فهذا لا يوجب إعادة الغسل، وهكذا بالنسبة للمرأة: إذا خرج منها إفرازات بدون شهوة، فإنـها لا تُوجب إعادة الغسل، ولو كانت منيًّا، وإنـما يكون حكم هذا الخارج حكم البول، أي: أنه يُوجب الاستنجاء منه والوضوء.

حكم الاغتسال بفضل المرأة

ومن أحكام الجنب أيضًا: أنه يجوز له أن يغتسل بفضل المرأة على الصحيح من قولي الفقهاء. 

ويدل لذلك: ما جاء في (صحيح مسلم) عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “أنّ النبي كان يغتسل بفضل ميمونة” [16].

وأما حديث نـهي النبي أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعًا، فقد أخرجه أبو داود والنسائي، وضعَّفه بعض العلماء، وصححه آخرون [17]، وعلى تقدير صحته، يحمل النهي الوارد في هذا الحديث على كراهة التنزيه؛ جمعًا بين الأدلة. 

ومـما يدل لذلك: ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كنتُ أغتسل أنا والنبي من إناءٍ واحد، كلانا جُنُب، فيبادرني حتى أقول: دع لي، دع لي” [18]، وهذا الحديث يدل على جواز اغتسال الزوجين في مكانٍ واحد، والله تعالى أعلم.

ونلتقي بكم على خير في الحلقة القادمة إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أحمد: 627.
^2 رواه أبو داود: 229، والترمذي: 146، والنسائي: 265، وابن ماجه: 594، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
^3 فتح الباري: 1/ 408.
^4 رواه مسلم: 373.
^5 رواه أبو داود: 250، والترمذي: 107، وابن ماجه: 579، والنسائي: 252، وأحمد: 24389.
^6 الترمذي: 1/ 180.
^7 الاستذكار: 1/ 260.
^8 مصنف عبدالرزاق: 1039.
^9 رواه البخاري: 1، ومسلم 1907.
^10 الشرح الكبير على متن المقنع: 1/ 225.
^11 رواه البخاري: 6954، ومسلم: 225.
^12 رواه مسلم: 224.
^13 سبق تخريجه.
^14 مجموع فتاوى ابن باز: 10/ 175-176.
^15 رواه البخاري: 1931، ومسلم: 1109.
^16 رواه مسلم: 323.
^17 رواه أبو داود: 81، والنسائي: 238، وأحمد: 23132.
^18 رواه البخاري: 299، ومسلم: 321.
مواد ذات صلة
zh