عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة، كنا قد تكلمنا في حلقاتٍ سابقةٍ عن أحكام الطهارة من الحدث الأصغر، ونواقضها، وننتقل بعد ذلك للحديث عن أحكام الطهارة من الحدث الأكبر، جنابةً كانت، أو حيضًا، أو نفاسًا، وهذه الطهارة تسمى بالغُسْل.
تعريف الغسل
والغُسْل بضم الغين: الاغتسال، أي: استعمال الماء في جميع بدنه على وجهٍ مخصوص، والغَسْل بفتح الغين: الماء، أو الفعل، والغِسْل بكسر الغين: ما يغسل به الرأس.
وقد ذكر السهيلي وغيره أن الغسل من الجنابة كان معمولًا به في الجاهلية، ومن بقايا دين إبراهيم، كما بقي فيهم الحج والنكاح [1]؛ ولهذا عرفوا معنى قول الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، ولـم يحتاجوا إلى تفسيره.
موجبات الغسل
ويُوجِب الغُسْلَ أمورٌ، إذا حصل واحدٌ منها وجب على المسلم الاغتسال:
أحدها: خروج المنِـيِّ من مخرجه من الذكر أو الأنثى
ولا يَـخلُ: إما أن يخرج في حال اليقظة، أو في حال النوم؛ فإن خرج في حال اليقظة؛ اشتُرط وجود اللذَّة بخروجه، فإن خرج بدون لذَّةٍ لَـم يوجب الغسل، كالذي يخرج بسبب مرضٍ أو غيره.
أما إن خرج المني في حال النوم، وهو ما يُسمى: بالاحتلام، وجب الغُسل مطلقًا، حتى لو لَـم يشعر باللذَّة، أو لو لَـم يتذكر خروج المني منه، فإن النائم لفقد إدراكه قد لا يشعر باللذَّة، وقد يشعر بـها، وينسى بعد استيقاظه، فكان المعوَّل عليه وجود أثر المني، فإذا وجد النائم أثر المني وجب عليه الغسل، ولو لَـم يتذكر احتلامًا.
أما إن تذكر احتلامًا ولـم يجد أثرًا للمني لَـم يجب عليه الغسل؛ ويدل لهذا ما جاء في الصحيحين عن أم سُلَيم رضي الله عنها: أنَّـها سألت رسول الله فقالت: “يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسلٍ إذا هي احتلمت؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم، إذا رأت الماء [2]، فعلَّق النبي وجوب الاغتسال على رؤية الماء.
قال ابن المنذر رحمه الله: “أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ من احتلم ولـم ير بللًا؛ فلا غسل عليه” [3].
أما إن انتبه من النوم فوجد بللًا لا يعلم هل هو منيٌ أو غيره؟ فهل يجب عليه الغسل؟
اختلف العلماء في هذه المسألة، وقد توقف فيها الإمام أحمد رحمه الله، ومن الفقهاء من قال: لا غسل عليه، حتى يتيقَّنَ أنه مني، أو يذكر احتلامًا.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “هذا هو القياس، والأولى الاغتسال لموافقة الخبر، وعملًا بالاحتياط” [4].
ويريد بالخبر حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: “سُئل رسول الله عن الرجل يجد البَلَلَ، ولا يذكر احتلامًا، قال: يغتسل وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولا يجد البَلَل؟ قال: لا غسل عليه، أخرجه الترمذي وأبو داود [5].
وأما إن أحس بانتقال المنـي ولـم يخرج، فهل يجب عليه الغسل؟
اختلف العلماء في هذه المسألة:
فالمشهور من مذهب الحنابلة: أنه يجب الغسل بـهذا الانتقال؛ لأن الجنابة هي تباعد الماء عن محله، وقد وجد؛ فيجب بـها الغسل.
وذهب أكثر العلماء إلى أنه لا غسل عليه في هذه الحال؛ وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة والله تعالى أعلم.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “هذا هو الصحيح إن شاء الله؛ لأن النبي علق الاغتسال على رؤية الماء، بقوله: إذا رأت الماء، وقوله: إذا فضخت الماء فاغتسل فلا يثبت الحكم بدونه، وما ذكروه من الاشتقاق مـمنوعٌ؛ لأنه يجوز أن يُسمى: جنبًا؛ لمـجانبته الماء، ولا يحصل إلا بخروجه” [6].
الغسل من الجنابة من محاسن الشريعة
أيها الإخوة: إيجاب الغسل بخروج المنـي دون غيره، هو من محاسن هذه الشريعة.
قال ابن القيم رحمه الله: “إيجاب الشارع الغسل من المنـي دون البول، من أعظم محاسن الشريعة، وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة، فإن المنـي يخرج من جميع البدن؛ ولهذا أسماه الله تعالى: سُلالة؛ لأنه يسيل من جميع البدن، وأما البول فهو فضلة الطعام والشراب المستحيلة في المعدة والمثانة، فتأثر البدن بخروج المنـي، أعظم من تأثره بخروج البول؛ وأيضًا فإن الاغتسال من خروج المنـي هو أنفع شيء للبدن والقلب والروح، والغسل يخلف على البدن ما تحلل منه بخروج المنـي، وهذا أمرٌ يُعرَف بالحس، وأيضًا فإن الجنابة توجب ثُقْلًا وكسلًا، والغسل يُحدِث نشاطًا وخفة، وبالجملة: فهذا أمرٌ يدركه كل ذي حسٍّ سليمٍ وفطرةٍ صحيحة” [7].
الثاني: إيلاج الذكر في الفرج، ولو لَـم يحصل إنزال
لِمَا في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنّ رسول الله قال: إذا جلس بين شُعبِها الأربع، ثم جَهَدَها، فقد وجب الغسل زاد مسلم: وإن لَـم يُنزِل [8].
وقد كانوا في أول الأمر لا يؤمرون بالاغتسال إلا بالإنزال فقط، وورد في هذا حديث: إنـما الماء من الماء [9] ثم نُسخ ذلك بإيجاب الغسل بـمجرَّد التقاء الختانين، وإن لَـم يحصل إنزال.
وقد أخرج مسلمٌ في صحيحه عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه، قال: “اختلف في ذلك رهطٌ من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق، أو من الماء، قال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل، فقال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت، فاستأذنت على عائشة، فأُذِن لي، فقلت لها: يا أم المؤمنين، إني أريد أن أسألك عن شيءٍ، وإني أستحييك، فقالت: لا تستح أن تسألني عما كنت سائلًا عنه أمك التي ولدتك، فإنـما أنا أمك، قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله : إذا جلس بين شُعبِها الأربع، ومسَّ الختان الختان؛ فقد وجب الغسل [10].
والجِمَاع من غير إنزالٍ يسمى: الإكسال، وقد رخِّص في ترك الاغتسال منه ثم نُسخ ذلك، فأُمِر بالاغتسال منه، ولكن يُشترط لوجوب الاغتسال الإيلاج، فلو مسَّ الختان الختان من غير إيلاجٍ، لَـم يجب الغسل بإجماع العلماء؛ ويجب الغسل بالإيلاج على الرجل والمرأة جميعًا.
الثالث: إسلام الكافر
من موجبات الغسل عند طائفةٍ من العلماء: إسلام الكافر، فإذا أسلم الكافر وجب عليه الغسل، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فمنهم من يرى أنّ هذا الغسل واجب، ومنهم من يرى أنه مستحب، وليس بواجب.
واستدل القائلون بالوجوب: “بأن النبي أمر قيس بن عاصم لـمَّا أسلم بالاغتسال [11]، وأمر ثُـمَامَة بن أُثَال لـمَّا أسلم بالاغتسال [12].
وفي قصة إسلام أُسَيد بن الحضير لـمَّا سأل مصعب بن عُمير: “كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قال: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق” [13].
واستدل القائلون بأنه مستحبٌ: بأنه لَـم يُنقَل أن النبي كان يأمر كل من أسلم بالاغتسال، وقد أسلم بشرٌ كثيرٌ في عهده عليه الصلاة والسلام، ولو كان يأمر بالغسل كل من أسلم؛ لنُقِل ذلك نقلًا متواترًا أو ظاهرًا، وإنـما أمر به بعض من أسلم، فيحمل هذا الأمر على الاستحباب.
وهذا القول هو القول الراجح -والله تعالى أعلم- في هذه المسألة.
أيها الإخوة، نستكمل الحديث عن بقية موجبات الغسل في الحقة القادمة، إن شاء الله تعالى، فإلى ذلك الحين أستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | الروض الأنف: 5/ 271. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 282، ومسلم: 313. |
^3 | الأوسط لابن المنذر: 2/ 276. |
^4 | الشرح الكبير على متن المقنع: 1/ 199. |
^5 | رواه أبو داود: 236، والترمذي: 113، وأحمد: 26195. |
^6 | الشرح الكبير على متن المقنع: 1/ 200. |
^7 | إعلام الموقعين عن رب العالمين: 2/ 44. |
^8 | رواه البخاري: 291، ومسلم: 348. |
^9 | رواه مسلم: 343. |
^10 | رواه مسلم: 349. |
^11 | رواه الترمذي: 605، والنسائي في السنن الكبرى: 191، وأحمد: 20611، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. |
^12 | رواه ابن حبان: 1238، وابن خزيمة: 253. |
^13 | سيرة ابن هشام: 1/ 436. |