logo
الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(20) نواقض الوضوء- حكم تغسيل الميت وطهارة دائم الحدث

(20) نواقض الوضوء- حكم تغسيل الميت وطهارة دائم الحدث

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد:

لا يزال الحديث موصولًا عن نواقض الوضوء، فنقول:

هل تغسيل الميت ناقض للوضوء؟

مـمَّا اختلف في كونه ناقضًا للوضوء: تغسيل الميت؛ فمن العلماء من اعتبره ناقضًا للوضوء، كما هو الصحيح من مذهب الحنابلة، وهو من مفردات المذهب.

وذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو روايةٌ عند الحنابلة، إلى أن تغسيل الميت لا ينقض الوضوء.

وقد استدل الحنابلة لقولهم بأن تغسيل الميت ينقض الوضوء بحديث أبي هريرة : أنّ النبي قال: من غَسَّل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ [1]، أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان . 

وقد ذكر له الإمام ابن القيم أحد عشر طريقًا عن أبي هريرة، ثم قال: “وهذه الطرق تدل على أن الحديث محفوظ” [2].

وقد صححه ابن القطَّان، وابن حزم [3]، وقال الحافظ ابن حجر: “أسوأ أحواله أن يكون حسنًا” [4]، وقد روي عن ابن عمر وأبي هريرة وابن عباسٍ : أنَّـهم أمروا غاسل الميت بالوضوء؛ ولأن غاسل الميت يـمسُّ فرجه، ومس الفرج من نواقض الوضوء.

وأما جمهور العلماء فقالوا: غسل الميت لا ينقض الوضوء؛ لأن النقض يحتاج إلى دليلٍ شرعيٍّ يرتفع به الوضوء الثابت بالدليل الشرعي، وأما ما روي في ذلك فمحمولٌ على الاستحباب، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله بعدما نقل قول الجمهور: “وهو قول أكثر العلماء…، وهو الصحيح إن شاء الله؛ لأنه لَـم يرد فيه نصٌّ صحيح، ولا هو في معنى المنصوص؛ ولأنه غسل آدميٍّ أشبه غسل الحيِّ” [5].

والأقرب في هذه المسألة -والله تعالى أعلم- هو ما ذهب إليه أكثر العلماء من أن تغسيل الميت لا ينقض الوضوء، وقد اختاره جمعٌ من المـحققين من أهل العلم، كالموفق ابن قدامة، وقد سبق نقل كلامه، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع [6].

وأما ما استدل به القائلون بأن تغسيل الميت ينقض الوضوء، من حديث أبي هريرة : أنّ النبي قال: من غَسَّل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ [7] فعلى تقدير ثبوته لا دلالة فيه على انتقاض الوضوء بتغسيل الميت، وإنـما هو أمر إرشادٍ لمن غَسَّل ميتًا بالاغتسال على سبيل الاستحباب.

ويدل لهذا: حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أنّ النبي قال: ليس عليكم في غُسْلِ ميِّتِكم غُسْلٌ إذا غسلتموه، فإن ميِّتَكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم [8]، أخرجه البيهقي والحاكم، وقال: “صحيحٌ على شرط البخاري”، ووافقه الذهبي.

وحسنه الحافظ ابن حجرٍ رحمة الله تعالى على الجميع [9].

ويدل لهذا أيضًا: أنّ الصحابة قد فهموا من النبي  هذا الفهم، ففي سنن الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “كنا نُغسِّل الميِّت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل” [10].

ويؤيد هذا أيضًا: أنّ الأمر في هذا الحديث إنـما هو بالاغتسال وليس بالوضوء، حتى يُقَال: إن تغسيل الميت ينقض الوضوء، وأصحاب القول الأول لا يقولون بوجوب الاغتسال من تغسيل الميت.

ويؤيد هذا أيضًا: أن تتمة الحديث: ومن حمله فليتوضأ ولـم يقل أحدٌ من العلماء بأن حمل الميِّت ينقض الوضوء، فدل هذا على أن الأمر في هذا الحديث إنـما هو للإرشاد فقط، ولا دلالة فيه على انتقاض الوضوء بتغسيل الميت.

والحاصل: أنّ الراجح في هذه المسألة أنّ تغسيل الميِّت لا ينتقض به الوضوء، ولكن يُستحب لمن غَسَّل ميتًا أن يغتسل، والله تعالى أعلم.

حكم وضوء دائم الحدث

أيها الإخوة، وبعد أن تكلمنا في هذه الحلقة والحلقات السابقة عن نواقض الوضوء، ننتقل للكلام عمن ينتقض وضوؤه بصفةٍ مستمرة، وهو من يُعبر عنه الفقهاء بمن حدثه دائم، كالمستحاضة، ومن لا يـمكنه حفظ طهارته باستمرار الحدث، كمن به سلس بولٍ، أو تخرج منه الريح، أو المذي بصفةٍ مستمرة أو شبه مستمرة.

فالحكم في هؤلاء جميعًا: أنّ عليهم أولًا الاجتهاد في التحرُّز من خروج الحدث ما أمكن؛ وذلك بأن تتحفظ المستحاضة، والمبتلى بسلس البول أو المذي، يعصب على رأس ذكره خرقةً ونحوها، ويحترس حسب ما أمكنه.

ويجب على كل واحدٍ من هؤلاء أن يتوضأ لوقت كل صلاة، ألّا يخرج منه شيء، فإن لَـم يخرج منه شيءٌ بقي على وضوئه الأول، أما إن خرج منه شيءٌ، أو لَـم يدر: هل خرج منه شيءٌ أو لَـم يخرج؟ فإنه يتوضأ لوقت كل صلاة؛ لقول النبي لفاطمة بنت أبي حُبيش، وكانت تُستَحاض فلا تطهر: توضئي لكل صلاة [11].

وفي حكم هؤلاء: من استُئصِل منه مخرج الغائط، أو ما يُسمّى بالقولون، أو بعضه؛ لمرضٍ ونحوه، فأصبح التبرز عنده عن طريق فتحةٍ في البطن ونحو ذلك، فحكمه حكم صاحب السلس، أي: أن عليه أن يجتهد في تنظيف هذه الفتحة، وأن يتوضأ لوقت كل صلاة، والله تعالى أعلم.

ومـما يذكره الفقهاء في هذا الباب قاعدةً عظيمة، وهي: “أن اليقين لا يزول بالشك”. 

فمن تيقَّن الطهارة وشك في الحدث، بنى على اليقين وهو الطهارة، واطَّرَح الشك وهو الحدث، ومن توضأ لصلاةٍ، ثم عندما أراد أن يصلي أو في أثناء الصلاة شكَّ: هل انتقض وضوؤه أم لا؟ فالأصل عدم النقض، فيبني على اليقين وهو الطهارة؛ ويدل لهذا حديث عبد الله بن زيدٍ : “أنّ النبي شُكِي إليه الرجل يُـخيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال : لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا، متفقٌ عليه [12].

وفي (صحيح مسلمٍ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه: أخرج منه شيءٌ، أم لا؟ فلا يخرجنَّ من المسجد حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا [13].

وقوله عليه الصلاة والسلام: حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا المعنى: حتى يَتيقَّن أنه خرج منه شيء، إما بسماع صوتٍ، أو شمِّ رائحةٍ، أو بغير ذلك.

قال العلماء: إذا تيقَّنَ الطهارة فلا يلتفت للشك، حتى ولو غلب على ظنه أنه خرج منه شيء، فما دام أنه لَـم يصل إلى درجة اليقين في أنه خرج منه شيء، فلا يقطع صلاته.

ويدل لهذا: أنّ النبي قال: إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه: أخرج منه شيءٌ أم لا؟ فهذا الشك ناشئٌ عن قرينة، وهي ما وجد في بطنه من القرقرة والانتفاخ ونحو ذلك؛ ولهذا قال: فأشكل عليه، ومع ذلك أمر النبي بعدم الالتفات لهذا كله، ما لَـم يتيقن خروج الحدث، بسماع صوتٍ، أو شمِّ رائحةٍ، أو بغير ذلك.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “إذا شكَّ تعارض عنده الأمران، فيجب سقوطهما، كالبيِّنتَين إذا تعارضتا، ويرجع إلى اليقين، ولا فرق بين أن يغلب على ظنِّه أحدهما، أو يتساوى الأمران” [14].

وقال النووي رحمه الله: “لا فرق في الشك بين أن يستوي الاحتمالان في وقوع الحدث وعدمه، أو يترجح أحدهما، أو يغلب على ظنِّه، فلا وضوء عليه بكل حال” [15].

أيها الإخوة، هذا هو ما اتسع له هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أبو داود: 3161، والترمذي: 993، وابن ماجه: 1463، وابن حبان: 1161، وأحمد: 9862، وقال الترمذي: حديث حسن.
^2 حاشيته على سنن أبي داود: 8/ 305.
^3 المحلى: 1/ 250، 2/ 23-25.
^4 التلخيص الحبير: 1/ 371.
^5 الشرح الكبير على متن المقنع: 1/ 189.
^6 مجموع الفتاوى: 20/ 526.
^7 سبق تخريجه.
^8 رواه الحاكم في المستدرك: 1426، والبيهقي في السنن الكبرى: 1461.
^9 التلخيص الحبير: 1/ 372.
^10 رواه الدارقطني: 4.
^11 رواه البخاري: 228، ومسلم: 333.
^12 رواه البخاري: 137، ومسلم: 361.
^13 رواه  مسلم: 362.
^14 المغني: 1/ 226.
^15 شرح النووي على مسلم: 4/ 50.
مواد ذات صلة
zh