عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين:
نتحدث في هذه الحلقة عن الوضوء وفضله، ثم ننتقل بعد ذلك للحديث عن أحكامه: شروطه، وفروضه، وسننه، ولعل ذلك يكون في الحلقة القادمة إن شاء الله، لكننا في هذه الحلقة نبدأ بتعريف الوضوء، ثم نذكر بعض النصوص الواردة في فضله، فنقول:
تعريف الوضوء
- الوضوء في اللغة: مشتقٌ من الوضاءة، وهي النظافة والحسن؛ والوُضوء بضم الواو: الفعل، والوَضوء بفتح الواو: الماء الذي يُتوضأ به.
- والوضوء شرعًا: هو التعبُّد لله تعالى بغسل الأعضاء الأربعة على صفةٍ مخصوصة.
والوضوء كان موجودًا عند الأمم السابقة، ويدل لذلك ما جاء في الصحيح في قصة سارَّة زوج إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مع الملك الذي أعطاها هاجر، فإنه لـمَّا همَّ بالدنُوِّ منها؛ قامت تتوضأ وتصلي [1].
وفي قصة جُرَيْج الراهب: أنه قام فتوضأ وصلى، ثم كلم الغلام [2].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “الظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة، هو الغُرَّة والتحجيل لا أصل الوضوء، وقد صُرح بذلك في رواية مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا، قال: “سيما ليست لأحدٍ غيركم” [3]” [4].
فضل الوضوء
وقد وردت عدة نصوصٍ في السنة المطهرة مبيِّنة فضل الوضوء؛ وذلك من عدة وجوه:
أولًا: أنه شطر الإيـمان
كما جاء ذلك في حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله : الطهور شطر الإيـمان [5]، قال الحافظ ابن رجبٍ رحمه الله: “فسَّر بعضهم الطهور هاهنا بترك الذنوب، كما في قوله تعالى: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف:82]، وقوله: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، قال: والإيـمان فعلٌ وترك، فنصفه فعل المأمورات، ونصفه ترك المـحظورات، وهو تطهير النفس بترك المعاصي.
قال: وهذا القول محتملٌ لولا أن رواية: الوضوء شطر الإيـمان ترده، وكذلك رواية إسباغ الوضوء، وأيضًا ففيه نظرٌ من جهة المعنى، فإن كثيرًا من الأعمال تُطّهر النفس من الذنوب، كالصلاة، فكيف لا تدخل في اسم الطهور؟! ومتى دخلت الأعمال أو بعضها في اسم الطهور، لـم يتحقق كون ترك الذنوب شطر الإيـمان.
قال: والصحيح الذي عليه الأكثرون: أنّ المراد بالطهور في هذا الحديث هو التطهير بالماء من الأحداث؛ ولهذا بدأ مسلمٌ بتخريجه في أبواب الوضوء، وعلى هذا فاختلف الناس في معنى كون الطهور بالماء شطر الإيـمان” [6].
ثم ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله عدة أقوالٍ في المسألة، ومال إلى أن المراد بالإيـمان في هذا الحديث الصلاة، كما في قوله سبحانه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، فإذا كان المراد بالإيـمان الصلاة، فالصلاة لا تُقْبل إلا بطهور، فصار الطهور شطر الإيـمان بـهذا الاعتبار” [7].
ومـمَّا يُؤيد هذا المعنى: أنه قد ذكر فضل الصلاة والصدقة: الصلاة نورٌ، والصدقة برهان [8] فذِكْر الوضوء وفضله في أول الحديث مناسبٌ لِمَا ذُكر بعده من فضل الصلاة والصدقة.
ثانيًا: أن الوضوء يكفِّر صغائر الذنوب
فعن عثمان : أنّ رسول الله قال: لا يتوضأ رجلٌ مسلمٌ، فيحسن الوضوء، فيصلي صلاةً، إلا غفر الله له ما بينه وبين الصلاة التي تليها [9].
وجاء في روايةٍ أخرى عند مسلم: ما من امرئٍ مسلمٍ تحضره صلاةٌ مكتوبةٌ، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لِمَا قبلها من الذنوب، ما لـم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله. [10].
وفي حديث عمرو بن عبسة في “صحيح مسلم” أنه قال: “قلتُ: يا نبـي الله، فالوضوء حدثني عنه، فقال : ما منكم رجلٌ يُقرِّب وضوءه، فيتمضمض ويستنشق فينتثر، إلا خَرَّت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خَرَّت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خَرَّت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه، إلا خَرَّت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين، إلا خَرَّت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى، فحمد الله، وأثنى عليه ومـجَّدَه بالذي هو له أهلٌ، وفرَّغ قلبه لله؛ إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه [11].
فحدَّث عمرو بن عبسة بـهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله ، فقال أبو أمامة: “يا عمرو، انظر ما تقول في مقامٍ واحد يُعطى هذا الرجل؟ فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت سنِّـي، ورَقَّ عظمي، واقترب أجلي، وما بحي حاجةٌ أن أكذب على الله، ولا على رسول الله، لو لَـم أسمعه من رسول الله ، إلا مرةً أو مرتين أو ثلاثًا، حتى عدَّ سبع مراتٍ، ما حدثت به أبدًا، ولكني سمعته أكثر من ذلك”.
وحمل جمهور العلماء التكفير المذكور في هذا الحديث على تكفير الصغائر دون الكبائر؛ لحديث عثمان السابق، وجاء فيه: ما لَـم يؤتِ كبيرةً [12].
ثالثًا: أنه سبب في بلوغ الحلية
جاء في (صحيح مسلم) عن أبي هريرة : أنّ رسول الله قال: تبلغ الحِلْيَة من المؤمن حيث يبلغ الوضوء [13].
قال الحافظ المنذري رحمه الله: “الحلية: هي ما يُـحلَّى به أهل الجنة من الأساور ونحوها” [14].
رابعًا: أنه سبب لرفعة درجات العبد
كما جاء في حديث أبي هريرة : أنّ رسول الله قال: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط [15].
ومعنى إسباغ الوضوء، أي: إتـمامه وإكماله، وقوله: على المكاره، المكاره: جمع مكره، بـمعنى: المشقَّة والألـم، والمعنى: إتـمام الوضوء في الحال التي يكره فيها استعمال الماء، كالتوضؤ بالماء البارد في الشتاء، وليس عنده ما يسخن به الماء، ونحو ذلك.
خامسًا: أنه سبب للغرة والتحجيل يوم القيامة
ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : أنّ النبي قال: إن أمتي يدعون يوم القيامة غُرًّا مُـحجَّلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غُرَّته فليفعل [16].
وقوله: غُرًّا: جمع أغَرْ، أي: ذو غُرَّة، قال أهل اللغة: “والغرة: هي بياضٌ في جبهة الفرس، والتحجيل: بياضٌ في يديها ورجليها، فسمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة: غرَّةً وتحجيلًا، تشببيهًا بغرَّة الفرس، فالمؤمنون من هذه الأمة يأتون يوم القيامة، وقد كسا النور وجوههم وأيديهم وأرجلهم، أي: مواضع الوضوء منهم.
ولـمَّا قيل للنبي : كيف تعرف من لَـم يأت بعد من أمتك؟ قال: أرأيت لو أن خيلًا غرٌّ مُحجَّلة بين ظهري خيلٍ دُهْمٍ بُـهْمٍ -أي: سود- ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنـهم يأتون غرًّا مُحجَّلين من الوضوء [17].
وقوله: فمن استطاع منكم أن يطيل غرَّته فليفعل هذه الزيادة مُدْرَجةٌ في الحديث من كلام أبي هريرة، وليست من كلام النبي ، وقد نبَّه على هذا الحفَّاظ، قالوا: ويدل على هذا أنه قد جاء في “مسند أحمد” أن نُعَيم المـُجْمِر راوي الحديث، قال: “لا أدري قوله: من استطاع منكم أن يطيل غُرَّته فليفعل من كلام النبي ، أو شيءٌ قاله أبو هريرة من عنده؟”.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “هذه اللفظة لا تكون من كلام النبي ؛ فإن الغُرَّة لا تكون إلا في الوجه، وإطالته غير مـمكنة” [18].
وقال ابن القيم في “النونِيَّة” [19]:
وإطالة الغُرَّات ليس بـممكنٍ | أيضًا وهذا واضح التبيانِ |
فأبو هريرة قال ذا من كيسه | فغدا يُـميِّزه أولو العرفانِ |
ونُعَيمٌ الراوي له قد شكَّ في | رفع الحديث كذا روى الشيباني |
حكم تجديد الوضوء
أيها الإخوة المستمعون: وبعد أن ذكرنا جملةً من الأحاديث الواردة في فضل الوضوء يرد علينا تساؤل: ما حكم تجديد الوضوء؟ أي: أنه يتوضأ وضوءً بعد وضوء من غير حدث، اغتنامًا للفضل الوارد في الوضوء؟
نقول: إن كان قد صلى بـهذا الوضوء صلاة فريضة أو نافلة، فإنه يشرع له تجديد الوضوء، أما إذا كان لَـم يصل به صلاةً قط، فإنه لا يشرع في حقِّه -والحال هذه- تجديد الوضوء.
أيها الإخوة: هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 2217. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 2482. |
^3 | رواه مسلم: 247. |
^4 | فتح الباري : 1/ 236. |
^5, ^8 | رواه مسلم: 223. |
^6 | جامع العلوم والحكم: 2/ 7. |
^7 | جامع العلوم والحكم: 2/ 7-8. |
^9 | رواه مسلم: 227. |
^10 | رواه مسلم: 228. |
^11 | رواه مسلم: 832. |
^12 | رواه مسلم: 228. |
^13 | رواه مسلم: 250. |
^14 | الترغيب والترهيب للمنذري: 1/ 91. |
^15 | رواه مسلم: 251. |
^16 | رواه البخاري: 136، ومسلم: 246. |
^17 | رواه مسلم: 249. |
^18 | مجموع الفتاوى: 1/ 279، بنحوه. |
^19 | متن القصيدة النونية: ص: 331. |