عناصر المادة
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
تحدثنا في الحلقة السابقة عن شروط وفروض الوضوء، ووعدنا بأن نتكلم في هذه الحلقة عن سننه؛ وذلك أن للوضوء شروطًا، وفروضًا، وسننًا، وقد تكلمنا عن الشروط والفروض، ونستكمل الكلام عن السنن في هذه الحلقة، ثم ننتقل بعدها للحديث عن الصفة الكاملة للوضوء، فنقول:
سنن الوضوء
إن سنن الوضوء هي مستحباته، وهي:
- أولًا: السواك، وقد سبق الكلام عنه في حلقة سابقة، وسبق أن قلنا: إنّ محل السواك في الوضوء يكون عند المضمضة.
- ومنها: غسل الكفَّين ثلاثًا في أول الوضوء قبل غسل الوجه؛ لورود الأحاديث الصحيحة به؛ ولأن اليدين آلة لنقل الماء إلى الأعضاء، وفي غسلهما احتياطٌ لجميع الوضوء.
وننبِّه هنا أيها الإخوة: إلى أنّ غسل الكفين في أول الوضوء لا يُغني عن غسلهما مع الذراعين والمرفقين بعد غسل الوجه، فإنّ من الناس من يغسل الذراعين والمرفقين، ولا يغسل الكفين؛ اكتفاءً بغسلهما في أول الوضوء، وهذا لا يصح وضوؤه؛ لأنه قد ترك قدرًا كبيرًا من أعضاء الوضوء لـم يغسله، وإذا كان النبي أمر رجلًا بأن يعيد الوضوء والصلاة؛ لأجل ترك قدر الدرهم لـم يصبه الماء، فكيف بترك الكفين؟!
وأما غسله للكفين في أول الوضوء، فإنه مستحبٌ وليس بواجب، ولا يجزئ بكل حال عن غسلهما بعد غسل الوجه مع الذراعين والمرفقين. - المضمضة والاستنشاق: ومن سنن الوضوء أيضًا: البداءة بالمضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه؛ لورود البداءة بـهما في الأحاديث؛ والسنة: المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا للصائم، فإنه لا يُسن له المبالغة في المضمضة والاستنشاق؛ لقول النبي في حديث لقيط بن صبرة: وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا [1]، ومعنى المبالغة في المضمضة: إدارة الماء في جميع فمه، وفي الاستنشاق: جذب الماء إلى أقصى أنفه.
- تخليل اللحية الكثيفة: ومن سنن الوضوء أيضًا: تخليل اللحية الكثيفة بالماء، حتى يبلغ داخلها؛ وسبق أن قلنا: إنّ اللحية إن كانت خفيفةً بحيث يرى مِن ورائها لون البشرة، فإنه يجب غسلها، وأما إذا كانت كثيفةً بحيث لا يرى من ورائها لون البشرة، فيجب غسل ظاهرها، ويستحب تخليل باطنها بالماء.
- ويستحب كذلك: تخليل أصابع اليدين والرجلين.
- ومن سنن الوضوء أيضًا: التيامن، وهو البداءة باليمنى من اليدين والرجلين قبل اليسرى، وهذا مستحبٌ وليس بواجب، فلو أنه بدأ باليد اليسرى قبل اليمنى، أو الرجل اليسرى قبل الرجل اليمنى، فإن وضوءه صحيح، وقد حُكي الإجماع على هذا [2]، ولكن السنة هي أن يبدأ باليمنى من اليدين والرجلين قبل اليسرى.
- ومن سنن الوضوء أيضًا: الزيادة على الغسلة الواحدة إلى ثلاث غسلات، في غسل الوجه واليدين والرجلين، ولا تشرع الزيادة على ثلاث، بل قد ورد النهي عن ذلك، وأنّ من فعل هذا فقد أساء وتعدَّى وظلم.
صفة الوضوء
أيها الإخوة المستمعون، وبعدما عرفنا سنن الوضوء، وقبل ذلك عرفنا فروضه وشروطه، ننتقل بعد ذلك لبيان الصفة الكاملة للوضوء، فنقول:
صفة الوضوء، هي:
- أن ينوي.
- ثم يُسمّي قائلًا: باسم الله.
- ثم يغسل كفَّيه ثلاثًا.
- ثم يتمضمض ويستنشق ثلاث مرات، والسنة أن يصل المضمضة بالاستنشاق، ولا يفصل بينهما، قال ابن القيم رحمه الله: “كان يصل بين المضمضة والاستنشاق، فيأخذ نصف الغَرْفَة لفمه، ونصفها لأنفه…، كما جاء في الصحيحين من حديث عبدالله بن زيد : “أنّ رسول الله تمضمض واستنشق من كفٍّ واحدة، فعل ذلك ثلاثًا” [3] وفي لفظٍ: “تـمضمض واستنثر بثلاث غرفات”[4]؛ فهذا أصح ما روي في المضمضة والاستنشاق. قال رحمه الله: ولـم يجئ الفصل بين المضمضة والاستنشاق في حديثٍ صحيحٍ البتَّة” [5].
- ثم يغسل وجهه ثلاث مرات، وحد الوجه طولًا: من منابت شعر الرأس المعتاد عند غالب الناس، إلى ما انحدر من اللحيين والذقن، وإنـما قلنا: المعتاد عند غالب الناس، احترازًا من الأصلع الذي ينحسر شعره عن مُقدِّم رأسه، فإنه يغسل إلى حد منابت الشعر عند غالب الناس، ولا يغسل إلى منابت شعر الرأس عنده؛ لأنه لو فعل هذا لكان قد غسل جزءً من الرأس، وحد الوجه عرضًا: من الأذن إلى الأذن، وشعر اللحية هو من الوجه فيجب غسله، ولكن كما قلنا في أول الحلقة: إن كانت اللحية خفيفةً وجب غسل باطنها وظاهرها، وإن كانت كثيفةً، أي: ساترةً للجلد، وجب غسل ظاهرها، ويستحب تخليل باطنها، وقد أخرج أبو داود في سننه عن أنس : “أنّ رسول الله كان إذا توضأ أخذ كفًّا من ماء، فأدخله تحت حَنَكِه فخلَّل به لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي ، وهو حديث لا يقل عن درجة الحسن بـمجموع طرقه [6].
- ثم يغسل يديه مع المرفقين ثلاث مرات، وحد اليد: من رؤوس الأصابع مع الأظافر إلى أول العضد، أي: أن المرفقين يغسلان مع اليدين.
- ثم يـمسح جميع رأسه مع الأذنين، ولا بد من مسح جميع الرأس، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “اتفق الأئمة كلهم على أن السنة مسح جميع الرأس، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة والحسنة عن النبي ، فإن الذين نقلوا وضوءه لـم ينقل أحدٌ منهم أنه اقتصر على مسح بعض رأسه”، ثم قال رحمه الله: “ولهذا ذهب طائفةٌ من العلماء إلى جواز مسح بعض الرأس، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقولٌ في مذهب مالك وأحمد، وذهب آخرون إلى وجوب مسح جميعه، وهو المشهور من مذهب مالك وأحمد، وهذا القول هو الصحيح، فإنّ القرآن ليس فيه ما يدل على جواز مسح بعض الرأس” [7].
والسنة مسح الأذنين مع الرأس، من غير أخذ ماءٍ جديدٍ للأذنين، قال ابن القيم رحمه الله: “كان يـمسح أذنيه مع رأسه، وكان يـمسح ظاهرهما وباطنهما، ولـم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماءً جديدًا” [8].
وأما صفة مسح الرأس: فأن يضع يديه مبلولتين بالماء على مُقَدَّم رأسه، ويُـمرهما إلى قَفَاه، ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه؛ لِمَا جاء في الصحيحين عن عبد الله بن زيد ، في صفة وضوء النبي ، قال: “فمسح رأسه بيديه فأقبل بـهما وأدبر” [9] وفي لفظٍ: “بدأ بـمقدم رأسه حتى ذهب بـهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه” [10].
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “فإن كان ذا شعرٍ يخاف أن ينتفش برد يديه لـم يردهما، نص عليه الإمام أحمد؛ لِمَا جاء في (سنن أبي داود) عن الرُّبَيِّع بنت مُعوِّذ: “أنّ النبي توضأ عندها، فمسح الرأس كله، من فَرْقِ الشعر كل ناحيةٍ لمصبِّ الشعر، لا يُحرِّك الشعر عن هيئته” وهو حديث حسن [11]، قال الموفق: “وكيف مسح بعد استيعاب قدر الواجب أجزأه، ولا يحتاج إلى ماءٍ جديد في رد يديه على رأسه” [12].
ولكن إذا كان الشعر طويلًا كالمسترسل من شعر المرأة، فإن الواجب هو الشعر النابت على الرأس فقط، دون ما زاد على ذلك، قال الموفق رحمه الله: “لا يجب مسح ما نزل عن الرأس من الشعر…؛ لأن الرأس ما ترأَّسَ وعلا” [13]. - ويجب مسح الأذنين مع الرأس؛ لقول النبي : الأذنان من الرأس [14]، رواه ابن ماجه، وهو حديثٌ صحيح، والمستحب في مسح الأذنين: أن يُدخل أصبعيه السبَّاحتين في صماخي أذنيه، ويـمسح ظاهرهما بإبـهاميه، وقد جاء في بعض ألفاظ حديث الرُّبَيِّع السابق عند أبي داود: “فأدخل أصبعيه في جحري أذنيه” [15]، قال الموفق رحمه الله: “ولا يجب مسح ما استتر بالغضاريف؛ لأن الرأس الذي هو الأصل لا يجب مسح ما استتر منه بالشعر، فالأذن أولى” [16].
أيها الإخوة المستمعون، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أبو داود: 142، والترمذي: 788، وابن ماجه: 407، والنسائي: 87، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. |
---|---|
^2 | الشرح الكبير على متن المقنع: 1/ 119. |
^3 | رواه البخاري: 192، ومسلم: 235. |
^4 | رواه البخاري: 192. |
^5 | زاد المعاد: 1/ 185. |
^6 | رواه أبو داود: 145. |
^7 | الفتاوى الكبرى: 1/ 276. |
^8 | زاد المعاد: 1/ 187. |
^9 | رواه البخاري: 185، ومسلم: 235. |
^10 | رواه البخاري: 185. |
^11 | رواه أبو داود: 128. |
^12 | الشرح الكبير على متن المقنع: 1/ 135. |
^13, ^16 | الشرح الكبير على متن المقنع: 1/ 137. |
^14 | رواه ابن ماجه: 443. |
^15 | رواه ابن ماجه: 441. |