الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(17) الذكر بعد الوضوء ومسائل أخرى
|categories

(17) الذكر بعد الوضوء ومسائل أخرى

مشاهدة من الموقع

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

تكلمنا في الحلقة السابقة عن الصفة الكاملة للوضوء، وكان آخر ما تكلمنا عنه مسح الرأس، نقول بعد ذلك:

إكمال صفة الوضوء

ثم بعد أن يـمسح رأسه وأذنيه، يغسل رجليه مع الكعبين ثلاث مرات، والكعبان: هما العظمان الناتئان في أسفل الساق، ومن كان مقطوع اليد أو الرجل، فإنه يغسل ما بقي من الذراع أو الرجل، فإن قُطِع من مفصل المرفق، غسل رأس العضد، وإن قُطِع من الكعب غسل طرف الساق؛ لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

فإن لَـم يبق شيءٌ من المرفق سقط عنه غسل اليد، وإن لَـم يبق شيءٌ من الكعب سقط عنه غسل الرجل.

الذكر الوارد بعد الفراغ من الوضوء

ثم بعد الفراغ من الوضوء يُسن له أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين لحديث عمر : أنّ النبي قال: ما منكم من أحدٍ يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء رواه مسلمٌ بـهذا اللفظ. [1]، ورواه الترمذي وزاد: اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين [2]، وهذه الزيادة سندها صحيح، ولها شاهدٌ من حديث ثوبان .

ولهذا الحديث طريقٌ أخرى، أخرجها أحمد وأبو داود، وفيها: “ثم رفع نظره إلى السماء” [3]، وهذه الزيادة منكرةٌ عند المـحدثين؛ ولهذا: فإنه لـم يصح في رفع النظر إلى السماء بعد الوضوء شيءٌ. 

ومـما يُستحب أن يقال كذلك بعد الوضوء: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك لحديث أبي سعيد : أن النبي قال: من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كُتب في رَقٍّ، ثم طُبِع بطابع، فلا يكسر إلى يوم القيامة [4]، أخرجه الحاكم، وهو حديثٌ حسنٌ، أو صحيحٌ بشواهده، وهذه هي كفارة المـجلس، وتقال أيضًا بعد الفراغ من الوضوء لهذا الحديث.

حكم تنشيف المتوضئ لأعضائه بعد الوضوء

ويجوز للمتوضئ تنشيف أعضائه بعد الوضوء؛ لعدم ورود الدليل المانع من ذلك، وأما ما جاء في (صحيح البخاري) عن ميمونة رضي الله عنها: “أنَّـها أتت النبي بعد اغتساله بـمنديلٍ فلم يأخذه، وجعل ينفض الماء بيده” [5]، فهذه قضية عينٍ تحتمل عدة أمور:

فيحتمل أن يكون رد المنديل لسببٍ فيه؛ كعدم نظافته مثلًا، أو أنه يخشى أن الماء يبله، وبلله بالماء غير مناسب، أو غير ذلك من الاحتمالات، بل نقول: إنّ إتيانـها له بالمنديل دليلٌ على أن من عادته  أنه كان ينشِّف أعضاءه.

مسائل متعلقة بالوضوء

أيها الإخوة، وبعد أن تكلمنا عن صفة الوضوء، نُنبِّه على بعض المسائل المتعلقة بالوضوء؛ ومنها:

  • أولًا: أن الاستنجاء ليس من الوضوء، وإنـما محله بعد قضاء الحاجة، فإذا كان الإنسان يريد أن يتوضأ، وهو لا يريد قضاء الحاجة من بولٍ أو غائط، فلا داعي حينئذٍ للاستنجاء، وإنـما يبدأ بعد التسمية بغسل الكفَّين، ثم المضمضة والاستنشاق، ويكمل بقية وضوئه.
    وبعض العوام يظن أن الاستنجاء جزءٌ من الوضوء، فإذا أراد أن يتوضأ لا بد أن يستنجي، ولو كان قد استنجى سابقًا بعد قضاء الحاجة، بل تجد أنه يقوم من النوم، وهو لا يريد قضاء الحاجة، وإنـما يريد الوضوء، فيستنجي ثم يتوضأ، وهذا فهمٌ غير صحيح، فالاستنجاء لا داعي لتكراره من غير وجود السبب الموجب له.
  • ومنها: أن بعض الناس يفهم من حثِّ الشارع على إسباغ الوضوء، أنّ المراد كثرة صب الماء، فيسرف في ماء الوضوء، وهذا الفهم أيضًا غير صحيح، بل المراد بإسباغ الوضوء، تعميم الوضوء بجريان الماء عليه كله، وأما كثرة صب الماء فهذا إسراف، والإسراف منهيٌ عنه.
    وقد جاء في (سنن أبي داود) و(مسند الإمام أحمد) بسندٍ صحيح، عن عبدالله بن مُغفَّل : أنّ النبي قال: سيكون في هذه الأمة قومٌ يعتدون في الطهور والدعاء [6].
    ويستدل بعضهم بحديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنّ النبي مرَّ بسعدٍ وهو يتوضأ، فقال: ما هذا السَّرَف؟! قال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: نعم، وإن كنت على نَـهرٍ جارٍ [7]، ولكن هذا الحديث ضعيفٌ من جهة الإسناد، فقد أخرجه ابن ماجه، وفيه راويان ضعيفان؛ ولهذا جزم الحافظ ابن حجر في (التلخيص) [8]، والبوصيري في (الزوائد) [9] بضعف إسناده، وإنـما أوردنا هذا الحديث للتنبيه على ضعفه، خاصةً وأنه مشهورٌ، ويتردد على ألسنة بعض الناس، ويغني عنه الحديث الصحيح السابق: سيكون في هذه الأمة قومٌ يعتدون في الطهور والدعاء [10]، فإن الإسراف في صب الماء للوضوء من الاعتداء.
    ثم إن هدي النبي أنه كان يقتصد في ماء الوضوء والغسل كذلك، فقد كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، كما جاء في الصحيحين عن أنسٍ ، قال: “كان النبي يغتسل بالصاع إلى خمسة أمدادٍ، ويتوضأ بالمد” [11]، والمد كما قال صاحب القاموس: “هو ملئ كفِّي الإنسان المعتدل الخِلْقة إذا مدهما” [12].
    فكان النبي يتوضأ بـهذا القدر من الماء فقط، ويغتسل بالصاع، أي: بـهذا القدر، أربع مراتٍ أو خمس مرات، “قال الإمام أحمد رحمه الله: “كان يقال: من قلَّة فقه الرجل، ولَعُه بالماء” [13].
  • ومن الاعتداء في الوضوء: أن يزيد في غسل الأعضاء على ثلاث مرات، ففي (سنن النسائي) وابن ماجه بسندٍ حسن عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: “جاء أعرابي إلى النبي يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا، فقد أساء وتعدَّى وظلم [14].
    قال الإمام أحمد رحمه الله: “لا يزيد على الثلاث إلا رجلٌ مبتلى” [15]، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله، بعدما ساق حديث عبدالله بن مغفَّل السابق: سيكون في هذه الأمة قومٌ يعتدون في الطهور والدعاء قال: “إذا قرنت هذا الحديث بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190]، وعلمتَ أنّ الله يحب عبادته، أنتج لك من هذا أن وضوء الموسوس ليس بعبادةٍ يقبلها الله تعالى، وإن أسقطت الفرض عنه، فلا تفتح له أبواب الجنة الثمانية، لا تفتح لوضوئه يدخل من أيها شاء” [16].
  • وغسل الأعضاء في الوضوء هو الأفضل، وهو الأكمل، ولكن لا تشرع الزيادة على ثلاث مرات، ولا بأس أن يغسل الأعضاء مرةً مرة، أو مرتين مرتين، وقد عقد البخاري في صحيحه ثلاثة أبواب:
    الباب الأول: باب الوضوء مرةً مرة، ثم ساق بسنده حديث ابن عباس رضي الله عنهما: “أن النبي توضأ مرةً مرة” [17].
    الباب الثاني: باب الوضوء مرتين مرتين، ثم ساق بسنده حديث عبدالله بن زيد : “أنّ النبي توضأ مرتين مرتين” [18].
    الباب الثالث: باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، ثم ساق بسنده حديث عثمان : “أنّ النبي توضأ ثلاثًا ثلاثًا” [19].
  • ولا بأس أن يغسل بعض الأعضاء ثلاثًا، وبعضها مرتين، أو مرةً واحدة، فقد جاء في الصحيحين عن عبدالله بن زيد  في صفة وضوء النبي : “أنه غسل يديه ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين” [20].

أيها الإخوة، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحقة القادمة، إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 234.
^2 رواه الترمذي: 55.
^3 رواه أبو داود: 170، وأحمد: 121.
^4 رواه النسائي: 9829، والحاكم في المستدرك: 2072، والطبراني في المعجم الأوسط: 1455.
^5 رواه البخاري: 259.
^6, ^10 رواه أبو داود: 96، وأحمد: 1584.
^7 رواه ابن ماجه: 425.
^8 التلخيص الحبير: 1/ 387.
^9 مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه: 1/ 62.
^11 رواه البخاري: 201، ومسلم: 325.
^12 القاموس المحيط: ص: 318.
^13 إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: 1/ 141.
^14 رواه أبو داود: 135، والنسائي: 89، وابن ماجه: 422.
^15 المغني: 1/ 161.
^16 إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: 1/ 142.
^17 رواه البخاري: 157.
^18 رواه البخاري: 158.
^19 رواه البخاري: 159.
^20 رواه البخاري: 186، ومسلم: 235.
مواد ذات صلة