الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(159) حكم التداوي بالمحرم- ما فيه نسبة قليلة من المحرمات
|categories

(159) حكم التداوي بالمحرم- ما فيه نسبة قليلة من المحرمات

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

حكم التداوي بالمحرَّم

تكلمنا في الحلقة السابقة عن حكم التداوي بالمحرَّم، وذكرنا أنه لا يجوز التداوي بالمحرّم مطلقًا، ونقلنا بعض ما ورد في ذلك من النصوص، ومن كلام أهل العلم، وفي آخر الحلقة طرحنا تساؤلًا عما إذا كان القدر المحرّم مستهلكًا، بحيث لم يبق له أثرٌ من لون أو طعم أو رائحة، فما الحكم في ذلك؟ ووعدنا بالإجابة عن هذا السؤال في هذه الحلقة؛ فأقول وبالله التوفيق:

حكم التداوي بما فيه نسبة قليلة من المحرمات

إذا كان القدر المحرم من الكحول أو غيره مستهلكًا بحيث لم يبق له أثر من لون أو طعم أو ريح فإن هذا الاستهلاك يُذهب عنه حكم الحرمة، فهو كالنجاسة إذا وقعت في الماء الكثير ولم يبق لها أثرٌ من لون أو طعم أو رائحة، فإن الماء طهورٌ يجوز التطهُّر به في الوضوء والغسل، وليس لتلك النجاسة أيُّ أثرٍ مطلقًا باتفاق العلماء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إن الله حرم الخبائث التي هي الدم والميتة ولحم الخنزير ونحو ذلك، فإذا وقعت هذه في الماء أو غيره واستهلكت ولم يبق هناك دم ولا ميتة ولا لحم خنزير أصلًا، كما أن الخمر إذا استهلكت في المائع لم يكن الشارب له شاربًا للخمر”.

أيها الإخوة المستمعون: استهلاك المادة المحرّمة في الكثير المباح هو في الحقيقة ضربٌ من الاستحالة؛ حيث إن المادة المحرّمة المستهلكة لم يبق لها أيُّ أثرٍ من طعم أو لون أو رائحة، فقد زال اسمها لانعدام أوصافها الظاهرة وخواصّها، وبهذا يرتفع الحرج بتناول بعض الأدوية المشتملة على نسبة ضئيلة جدًا من الكحول كبعض أدوية الكحّة ونحوها؛ فإنها تشتمل على نسبة ضئيلة جدًا من الكحول، ومثل ذلك أيضًا بعض أنواع عصائر الفاكهة المختلفة، وكذلك اللبن الرائب -الزبادي- والعجين المختمر ونحو ذلك، فإن هذه كلها تحتوي على نسبٍ ضئيلة جدًا من الكحول؛ وهذه النسبة مستهلكة في هذه الأشياء، حيث لا يبقى للكحول أيُّ أثرٍ من لون أو طعم أو رائحة، ولهذا فلا حرج في تناولها مطلقًا.

كيف نوفِّق بين هذا وبين قول النبي : ما أسكر كثيره فقليله حرام

فإن قال قائل: كيف نوفِّق بين هذا وبين قول النبي : ما أسكر كثيره فقليله حرام [1]، وهو حديثٌ صحيحٌ رواه أبو داود، والترمذي، وأحمد؟

فالجواب: أن المقصود بهذا الحديث أن الشراب المُسْكِر الذي لو أكثر منه الإنسان لسكر فإن القليل منه حرامٌ مطلقًا، بينما في هذه المسألة نسبة الكحول مستهلكة وليس لها أيُّ أثرٍ من طعم أو لون أو رائحة، ولو أكثر الإنسان من تناول هذا الشيء الذي نسبة الكحول فيه ضئيلة ومستهلكة لما سكِر، فلا يتناوله إذن هذا الحديث.

أيها الإخوة المستمعون: وأعرض فيما يأتي لقرار مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي حول هذا الموضوع، وقد جاء في القرار:

“إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة وبعد النظر في الأبحاث المقدمة عن الأدوية المشتملة على الكحول والمخدرات والمداولات التي جرت حولها، وبناءً على ما اشتملت عليه الشريعة من رفع الحرج، ودفع المشقة، ودفع الضرر بقدره، وأن الضرورات تبيح المحظورات، وارتكاب أخف الضررين بدرء أعلاهما، قرر ما يلي:

  • أولًا: لا يجوز استعمال الخمرة الصرفة دواءً بحالٍ من الأحوال؛ لقول رسول الله : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم [2]، ولقوله: إن الله أنزل الداء وجعل لكل داءٍ دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام [3]، وقال لطارق بن سويد رضي الله عنه لما سأله عن الخمر يُجعل في الدواء؟ قال: إن ذلك ليس بشفاء، ولكنه داء [4].
  • ثانيًا: يجوز استعمال الأدوية المشتملة على الكحول بنسبٍ مستهلكة تقتضيها الصناعة الدوائية التي لا بديل عنها، بشرط أن يصفها طبيبٌ عدل، كما يجوز استعمال الكحول مطهرًا خارجيًّا للجروح وقاتلًا للجراثيم، وفي الكريمات والدهون الخارجية”.

حكم استخلاص بعض الأدوية من مواد نجسة أو محرّمة

وفي معنى هذه المسألة مسألة استخلاص بعض الأدوية من مواد نجسة أو محرّمة، وتستحيل إلى مواد ومركّبات جديدة مختلفة في خواصّها وصفاتها، فلا بأس بتناول هذا الدواء خاصة عند عدم وجود البديل الخالي من هذا كله؛ لأنه بهذه الاستحالة تُصبح المادة المحرّمة كالمستهلكة.

وقد صدر في هذا قرارٌ من “المجمع الفقهي الإسلامي” في “رابطة العالم الإسلامي”، وجاء في هذا القرار:

“إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة قد نظر في موضوع حكم استعمال الدواء المشتمل على شيءٍ من نجس العين كالخنزير وله بديل أقل منه فائدة كالهيبارين الجديد للوزن الجزيئي المنخفض، وقُدِّمت فيه بحوث وكان مما اشتملت عليه هذه البحوث يُراد بالهيبارين مادة تنتجها خلايا معينة في الجسم وتستخلص عادة من أكباد ورئات وأمعاء الحيوانات، ومنها البقر والخنزير.

  • أما الهيبارين ذو الوزن الجزيئي المنخفض فيهيأ من الهيبارين العادي بالطرق الكيميائية المختلفة، وهما يستخدمان في علاج أمراضٍ مختلفة، كأمراض القلب والذبحة الصدرية وإزالة الخثرات الدموية، وغيرها.
  • ثانيًا: أن عملية استخلاص الهيبارين للوزن الجزيئي المنخفض من الهيبارين العادي تتم بطرقٍ كيميائية ينتج عنها مركبات جديدة مختلفة في خواصها وصفاتها الفيزيائية والكيميائية عن الهيبارينات العادية، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بالاستحالة.
  • ثالثًا: أن استحالة النجاسة إلى مادة أخرى مختلفة عنها في صفاتها وخواصها، كتحول الزيت إلى صابون ونحو ذلك أو استهلاك المادة بالتصنيع وتغيُّر الصفات والذات تُعدُّ وسيلة مقبولة في الفقه الإسلامي للحكم بالطهارة وإباحة الانتفاع بها شرعًا.

وبعد المناقشات المستفيضة، وما تقرر عند أهل العلم، وما تقتضيه القواعد الشرعية من رفع الحرج ودفع المشقة ودفع الضرر بقدره، أن الضرورات تبيح المحظورات وارتكاب أخف الضررين لدرء أعلاهما؛ قرر المجلس ما يأتي:

  • أولًا: يباح التداوي بالهيبارين الجديد ذي الوزن الجزيئي المنخفض عند عدم وجود البديل المباح الذي يُغني عنه في العلاج، أو إذا كان البديل يطيل أمد العلاج.
  • ثانيًا: عدم التوسُّع في استعماله إلا بالقدر الذي يُحتاج إليه، فإذا وجد البديل الطاهر يقينًا يُصار إليه؛ عملًا بالأصل، ومراعاة للخلاف”.

ولا يرد على هذا ما ذكرناه في الحلقة السابقة، من أنه لا يجوز التداوي بالمحرم مطلقًا؛ فإن المقصود في هذه المسألة أن الدواء وإن استُخلِص في الأصل من مادة محرمة إلا أنه قد استحال بالصناعة الكيميائية إلى مادة جديدة مختلفة في خواصّها وفي صفاتها، بحيث لم يبق للمادة المحرّمة أيُّ أثرٍ من لونٍ أو طعم أو رائحة، وبهذا فإنها تكون مادة مباحة ويكون هذا الدواء دواءً مباحًا ولا بأس به.

هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، وأسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، والسداد في القول والعمل.

وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أبو داود: 3681، والترمذي: 1865، وابن ماجه: 3393، وأحمد: 14703، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
^2 صحيح البخاري: 7/ 110.
^3 رواه الطبراني في الكبير: 649.
^4 رواه ابن ماجه: 3500، وأحمد: 22502.
مواد ذات صلة