الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(162) أحكام الجنائز- حكم تمني الموت والإعلام بموت الإنسان
|categories

(162) أحكام الجنائز- حكم تمني الموت والإعلام بموت الإنسان

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

لا يزال الحديث موصولًا عن أحكام الجنائز، فأقول وبالله التوفيق:

حكم تمني الموت

قد ورد النهي عن تمنّي الموت لضرٍّ نزل بالإنسان؛ كما جاء في الصحيحين عن أنس  قال: قال رسول الله : لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ نزل به، فإن كان لا بد متمنيًا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيرًا لي [1].

والحكمة من النهي عن تمني الموت هي أن الموت تنقطع به الأعمال، ففي الحياة استمرار الأجر والثواب بزيادة الأعمال، وفي الحياة فرصةٌ للتوبة وللتدارك وللإنابة إلى الله تعالى.

وقد جاءت الإشارة إلى ذلك في حديث أبي هريرة في رواية مسلم، فقد جاء بلفظ: لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتيه؛ إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لن يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا [2]، وفي رواية البخاري: لا يتمنى أحدكم الموت؛ إما محسنًا فلعله يزداد، وإما مسيئًا فلعله يستعتب [3]، ولأن في تمني الموت قبل حلوله نوع اعتراضٍ ومراغمة للقدر المحتوم، وإن كان تمني الموت لا يؤثر في زيادة الأجل أو نقصانه.

متى يشرع تمني الموت؟

والنهي عن تمني الموت قد جاء مقيدًا في هذا الحديث بـضرٍّ نزل به، والمراد بالضر هنا الضر الدنيوي كالمرض والفاقة ومحنة العدو، ونحو ذلك من مشاق الدنيا، ويدل لذلك رواية النسائي وابن حبان: لا يتمنى أحدكم الموت لضرٍ نزل به في الدنيا.

ويُفهم من ذلك أن تمني الموت لضرٍ أخروي كأن يخشى فتنة في دينه أنه لا يدخل في هذا النهي، بل قد يكون مستحبًا؛ كما في قول مريم عليها السلام: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23]؛ قال بعض المفسرين: إنها تمنت الموت خوفًا من كُفْر من كفر وشقاوة من شقي بسببها.

وكما جاء في حديث معاذ في اختصام الملأ الأعلى، وفيه: وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون [4]، وقد أخرج مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب أنه قال: “اللهم قد ضعفت قوتي، وكبرت سني، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيِّعٍ ولا مقصِّر. فما جاوز شهرًا حتى قُبِض”.

قال الحافظ العراقي رحمه الله: “والظاهر أن عمر إنما دعا بذلك لخوف فتنة في الدين، فإنه خائفٌ لضعف قوته وانتشار رعيته وكثرتهم أن يقع منه تضييعٌ لأمورهم أو تقصيرٌ في القيام بحقوقهم، فلما خشي هذه الفتنة دعا بذلك”.

وكذلك إذا كان تمني الموت من باب تمني الشهادة في سبيل الله؛ فإن هذا لا بأس به بل هو مستحب، ويدل لذلك ما جاء في صحيح مسلم عن سهل بن حنيف أنَّ النبي قال: من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه [5]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنَّ النبي قال: والذي نفسي بيده لوددت أن أُقتل في سبيل الله، ثم أُحيا ثم أُقتل، ثم أُحيا ثم أُقتل، ثم أُحيا ثم أُقتل [6].

والنهي عن تمني الموت في هذا الحديث مقيّدٌ بكون هذا التمني قبل حلول الموت، أما إذا حلّ الموت بالمسلم فإنه لا يُمنع من تمنيه الموت رضًا بلقاء الله ​​​​​​​.

ويدل لذلك مفهوم حديث أبي هريرة السابق: لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدعو به من قبل أن يأتيه، فمفهومه: أنه إذا حلّ الموت بالإنسان لم يُمنع من تمني الموت، ويدل لذلك ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: “سمعت رسول الله وهو مستندٌ إليَّ يقول: اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى[7]، ولهذا عقّب البخاري في صحيحه بهذا الحديث على حديث أنس رضي الله عنه في النهي عن تمني الموت إشارة منه إلى أن النهي عن تمني الموت مختصٌ بالحال التي قبل نزول الموت.

ويدل لذلك أيضًا ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: “أن رسول الله قال: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا نبي الله أكراهية الموت؟ فكلنا يكره الموت، فقال عليه الصلاة والسلام: ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بُشِّر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بُشِّر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله فكره الله لقاءه[8]، فدل هذا الحديث على أن محبة لقاء الله ​​​​​​​ عند حلول الموت ليس من تمني الموت المنهي عنه.

حكم الإعلام بموت الإنسان

ولا بأس بإعلام الناس بموت الإنسان لأجل شهود جنازته، والصلاة عليه، ودفنه، والدعاء له، ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : “أنَّ النبي نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، خرج إلى المصلى، فصلى بهم، وكبّر أربعًا” [9]، ومعنى النعي في الأصل هو الإخبار بموت الميّت.

وقد جاء في حديث حذيفة : “أنَّ النبي كان ينهى عن النعي” [10]، رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه؛ بسند حسن، لكن قال العلماء: إن النعي المنهي عنه هو ما يُشبه ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من الصياح على أبواب البيوت والأسواق، قال ابن عون: “كانوا إذا توفي الرجل فيهم ركب رجلٍ دابة ثم صاح في الناس أنعى فلانًا”.

وقال الأصمعي: “كانت العرب إذا مات فيهم ميّتٌ له قدر ركب راكبٌ فرسًا وجعل يسير في الناس ويقول: نعاء فلان ابن فلان”.

أقسام النعي

والحاصل: أن النعي على قسمين:

  • قسمٌ محرّم، وهو ما كان على طريقة أهل الجاهلية من الصياح بذلك في الناس مع تعداد محاسن الميّت.
  • وقسمٌ جائزٌ، وهو ما يُقصد منه مجرّد الإخبار بوفاة الميّت لأجل شهود جنازته وتعزية أهله، ونحو ذلك.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “محض الإعلام بوفاة الميّت لا يُكره؛ فإن زاد على ذلك فلا”.

ومن ذلك النعي الذي يُكتب في الصحف، فإن كان المقصود به مجرد الإعلام بوفاة الميت من أجل شهود جنازته وتعزية أهله والدعاء له؛ فلا بأس بذلك، أما إن قُصِد به غير ذلك فقد يدخل في النعي المحرّم، والله تعالى أعلم.

استحباب قضاء دين الميت وتنفيذ وصيته

ويُستحب الإسراع في قضاء دين الميّت وتنفيذ وصيته؛ ولذلك لما ذكر الله تعالى قسمة المواريث قال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع : “أنَّ النبي أُتي بجنازة ليصلي عليها، فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أُتي بجنازة أُخرى، فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: نعم ديناران، فقال: صلوا على صاحبكم، فلما أراد أن ينصرف، قال أبو قتادة : الديناران عليَّ يا رسول الله، فصلى عليه” [11].

قال الفقهاء: وينبغي أن يسارع لسداد دين الميت وتنفيذ وصيته قبل دفنه.

وإنك لتعجب عندما تسمع هذا الكلام وتقارنه بما يفعله بعض الورثة من تأخير قضاء الديون وتنفيذ وصية ميتهم، وربما تبقى بعض الديون لم تقض، وبعض الوصايا لم تنفّذ بعد وفاة الميّت بسنين، وهذا لا شك أنه خطأٌ كبير من الورثة، إذا كان الميّت قد خلّف تركة تفي لسداد دينه وتنفيذ وصيته.

وأعجب من هذا أن بعض الورثة يقتسمون تركة الميّت قبل سداد دينه وقبل تنفيذ وصيته، وهذا لا يحل لهم إذ أنّ الله تعالى لما ذكر قسمة المواريث جعل ذلك بعد سداد ديونه وبعد تنفيذ وصيته، فقال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، وقد أخرج الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم؛ عن أبي هريرة أنَّ النبي قال: نفس المؤمن معلّقةٌ بدينه حتى يُقضى عنه [12].

وإن من الإحسان لهذا الميّت المبادرة والإسراع بقضاء ديونه وتنفيذ وصيته، وإن من الإساءة له تأخير قضاء ديونه وتنفيذ وصيته.

أسأل الله تعالى أن يجعلنا من المسارعين للخيرات، المبادرين إلى الطاعات، وأن يوفّقنا إلى الإحسان في القول والعمل.

وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 2680.
^2 رواه مسلم: 2682، من حديث أبي هريرة .
^3 رواه البخاري: 7235، من حديث أبي هريرة .
^4 رواه الترمذي: 3235، وأحمد: 22109، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
^5 رواه مسلم: 1909.
^6 رواه البخاري: 2797، ومسلم: 1876.
^7 رواه البخاري: 4176.
^8 رواه البخاري: 6507، ومسلم: 2683، 2684.
^9 رواه البخاري: 1245، ومسلم: 951.
^10 رواه الترمذي: 986، وابن ماجه: 1476، وأحمد: 23455، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
^11 رواه البخاري: 2295.
^12 رواه الترمذي: 1079، وابن ماجه: 2413،  وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
مواد ذات صلة