إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
بعد أن تكلمنا في الحلقات السابقة عن أبرز المسائل التي ذكرها الفقهاء في كتب الفقه مما يتعلق بالمعاملات، ننتقل بعد ذلك لدراسة بعض العقود والمسائل المعاصرة المتعلقة بالمعاملات، ونسأل الله تعالى التوفيق والإعانة والسداد.
نبتدئ هذه الحلقة بالكلام عن بيع التقسيط، والذي تكثر التساؤلات عن كثيرٍ من أحكامه، فنقول:
التقسيط المباشر صورته وحكمه
إن بيع التقسيط له صور، ومن أبرز صوره: التقسيط المباشر.
وصورته: أن يبيع رجلٌ بضاعة أو سلعة من السلع إلى أجلٍ أو بأقساطٍ معلومة، ويزيد في قيمة البضاعة مقابل الأجل، فهذه هي صورة التقسيط المباشر ونوضحها بالمثال:
سيارة قيمتها نقدًا أربعون ألف ريال، أراد رجلٌ أن يشتريها بالتقسيط لمدة سنة بخمسين ألفًا، يسدد منها كل شهرٍ قسطًا، فما حكم هذا البيع؟
الجواب: لا بأس به عند أكثر أهل العلم، بل إنه قد حُكي الإجماع على جوازه، كما حكى ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.
الأدلة على جواز بيع التقسيط
ومما يدل للجواز قول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، ولم يشترط الله سبحانه أن تكون المداينة بسعر الوقت الحاضر.
ويدل لذلك أيضًا ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “قدِم رسول الله المدينة والناس يسلفون في الثمر السنة والسنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء فليسلف في كيلٍ معلوم، ووزنٍ معلوم، إلى أجلٍ معلوم [1]، ولم يشترط النبي أن يكون ذلك بسعر الوقت الحاضر.
ومما يدل لذلك أيضًا ما جاء في الصحيحين في قصة بريرة رضي الله عنها، حيث اشترت نفسها من ساداتها بتسع أواقٍ في كل عام أوقية [2]، وهذا نوعٌ من بيع التقسيط ولم يُنكر ذلك النبي بل أقرّه.
ومما يدل لذلك أيضًا حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: “أن النبي أمره أن يجهّز جيشًا فنفدت الإبل، فأمره أن يشتري البعير بالبعيرين، والبعيرين بالثلاثة إلى إبل الصدقة” [3].
ويدل لذلك أيضًا ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: “أن النبي اشترى طعامًا من يهودي إلى أجل، فرهنه درعه” [4]، والأدلة في جواز هذه الصورة كثيرة.
ومن جهة المعنى: فإن أمور التجارة لا تستقيم إلا على ذلك، فإن سعر السلعة إذا بيعت نقدًا يختلف عن سعرها إذا بيعت بثمنٍ مؤجَّل، وفي إباحة زيادة قيمة السلعة مقابل الأجل مصلحةٌ لكلٍ من البائع والمشتري، أما البائع فإنه ينتفع بالربح، وأما المشتري فإنه ينتفع بالإمهال والتيسير.
ثم إنه ليس كل أحدٍ يستطيع أن يشتري حوائجه نقدًا، فلو مُنعت الزيادة في المداينة لكان في ذلك حرجٌ كبير على كثير من الناس، لا سيما وأن الأصل في باب المعاملات هو الحل والإباحة، والشريعة الإسلامية الكاملة قد جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.
حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء
هذه هي صورة التقسيط المباشر، وظاهرٌ منها أنها تكون بين طرفين فقط، ولكن ما الحكم فيما إذا طلب شخصٌ من آخر، أو من مؤسسة، أو من مصرفٍ أن يشتروا له سلعة معيّنة، ثم يشتريها منهم بالتقسيط؟ نقول: هذه المسألة يسميها بعض المعاصرين “بيع المرابحة للآمر بالشراء”.
وقبل أن أتكلم عن حكمها أضرب مثلًا لتتجلى به صورة المسألة: رجلٌ يريد سيارة معينة وليس عنده نقدٌ يشتري به هذه السيارة، فذهب إلى بنك أو مؤسسة فطلب منهم أن يشتروا له تلك السيارة، ثم يشتريها هو منهم بالتقسيط، فما حكم هذا العمل؟
نقول: لا يخلو الأمر من حالين:
- الحال الأولى: أن يتعاقد ذلك الرجل مع تلك المؤسسة أو المصرف على أن يقوم المصرف أو المؤسسة بشراء تلك السلعة المعينة وتسليمها له، كأن يتعاقد معهم على شراء السيارة، ويوقّع على العقد قبل أن تمتلك المؤسسة أو المصرف تلك السيارة، فهذا محرّمٌ ولا يجوز؛ لأن ذلك المصرف أو تلك المؤسسة قد باع ما لا يملك، وقد نهى النبي عن ذلك وقال: لا تبع ما ليس عندك [5]، ثم إنه حيلةٌ على الإقراض بفائدة، فكأن هذه المؤسسة أو المصرف قد أقرضت هذا الرجل قيمة هذه السلعة مع فائدة معينة، وقد جعلت هذا البيع الصوري حيلة على ذلك القرض المحرّم.
وقد أشار بعض العلماء المتقدمين إلى ذلك، فقد قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “إذا طلب رجلٌ من آخر سلعة يبيعها منه نسيئة وهو يعلم أنها ليست عنده ويقول له: اشترها من مالكها هذا بعشرة وهي عليّ باثني عشر إلى أجل كذا، فهذا لا يجوز؛ لأن معناه أنه تحيّل في بيع دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، بينهما سلعةٌ محلِّلة”.
وأقول: إن هذا مع الأسف هو واقع بعض البنوك اليوم، حيث يجرون عقود بيع التقسيط على سِلَعٍ لم يتملّكوها بعد.
- الحال الثانية: ألا يحصل تعاقدٌ سابقٌ بين ذلك الرجل وبين تلك المؤسسة أو المصرف، على إتمام عملية الشراء، وإنما يحصل مجرّد وعدٍ من تلك المؤسسة أو المصرف بأنه إذا اشترى تلك البضاعة فسوف يبيعها لذلك الرجل، ووعدٌ من ذلك الرجل بأنه سوف يشتري تلك البضاعة، فهو وعدٌ من الطرفين، فهذا يجوز بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون الاتفاق المبدئي بينهما مجرّد وعدٍ بالبيع ووعدٌ بالشراء، وهذ الوعد غير ملزمٍ لكلٍ منهما، فلكل من المؤسسة أو المصرف، ولذلك الرجل الخيار في إتمام ذلك البيع أو الإعراض عنه؛ ويترتب على ذلك أيضًا أن تلك السلعة أو البضاعة لو تلِفَت قبل تسلُّم ذلك الرجل لها فهي من ضمان المؤسسة أو المصرف؛ إذ أنه لم يجْر عقد التبايع أصلًا، ومن المعلوم أن هناك فرقٌ بين العقد وبين الوعد، فالعقد ارتباطٌ منجّز، وأما الوعد فهو مجرّد إبداء الرغبة في الشيء.
الشرط الثاني: ألا يقع العقد بينهما إلا بعد تملُّك تلك المؤسسة أو المصرف للسلعة أو البضاعة وقبضها واستقرارها في ملكه، فإذا تحقق هذان الشرطان فلا مانع من جواز هذه العملية -والله تعالى أعلم-.
أقول: يجوز ذلك بشرطين:
- الشرط الأول: أن يكون الاتفاق المبدئي بينهما مجرد وعد بالبيع ووعد بالشراء، ولا يكون عقدًا؛ لأنه لو كان عقدًا لكان من باب بيع ما لا يملك.
- الشرط الثاني: أن يقوم ذلك المصرف أو تلك المؤسسة بتملّك تلك البضاعة التي قد وعِد بشرائها، فيقوم بتملّكها وقبضها واستقرارها في ملكه، ثم بيعها على ذلك الذي قد وعدهم بشرائها، فإذا تحقق هذان الشرطان فلا مانع من ذلك والله تعالى أعلم.
وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة مؤتمره الخامس -قرّر ذلك-، وجاء في القرار:
“المواعدة وهي التي تصدر من الطرفين تجوز في بيع المرابحة؛ بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإن لم يكن هناك خيارٌ فإنها لا تجوز؛ لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تُشبه البيع نفسه؛ حيث يُشترط حينئذ أن يكون البائع مالكًا للمبيع؛ حتى لا تكون هناك مخالفةٌ لنهي النبي عن بيع الإنسان ما ليس عنده”.
ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خير في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.