عناصر المادة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
لا يزال الحديث موصولًا عن أحكام الوصية، بعدما تكلمنا في الحلقة السابقة عن جملة من أحكامها؛ فنقول:
حكم كتابة الوصية والإشهاد عليها
يُستحب للإنسان كتابة وصيته؛ لقول النبي : ما حق امرئٍ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده [1].
ويُستحب الإشهاد عليها؛ قطعًا للنزاع؛ ولأنه أحوط وأحفظ، قال أنس : “كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان ابن فلان، أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:7]، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى به إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]” [2]، أخرجه سعيد بن منصور عن أنس بسند صحيح.
حكم الإضرار في الوصية
ومن أحكام الوصية: أن الوصية إذا كانت وصية ضرارٍ كانت حرامًا، وكان للورثة إبطالها، فإذا قصد الموصي المضارّة بالوارث ومضايقته فإن ذلك يحرم عليه ويأثم به؛ لقول الله لما ذكر ميراث الزوجين والإخوة لأم قال سبحانه: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ [النساء:12]، ولقول الله : فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:182].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: “الإضرار في الوصية من الكبائر”.
وقال ابن القيم رحمه الله: “إذا كانت الوصية وصية ضرارٍ كانت حرامًا، وكان للورثة إبطالها، وحَرُمَ على الموصى له أخذ ذلك بدون رضا الورثة، وقد أكّد ذلك بقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229]..
قال: والضرار نوعان: جنفٌ، وإثم؛ فإنه قد يقصد الضرار وهو الإثم، وقد يُضار من غير قصد وهو الجنف، فمن أوصى بزيادة على الثلث فهو مضار قصد أو لم يقصد، فللوارث ردُّ هذه الوصية، وإن أوصى بالثلث فما دون ولم يُعلم أنه قصد الضرار وجب إمضاؤها، فإن علم الموصى له أن الموصي إنما أوصى ضرارًا لم يحل له الأخذ، ولو اعترف الموصي أنه إنما أوصى ضرارًا لم تجز إعانته على إمضاء هذه الوصية، فقد جوّز إبطال وصية الجنف والإثم، وأن يصلح الوصي أو غيره بين الورثة والموصى له، فقال تعالى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182]”.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: “قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي: الجنف الخطأ، وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها؛ وذلك بأن زاد وارثًا بواسطة أو وسيلة، كما إذا أوصى ببيعه الشيء الفلاني محاباة، أو أوصى لابن ابنته ليزيدها، أو نحو ذلك من الوسائل، إما مخطئًا غير عامد بل بطبعه وقوّة شفقته من غير تبصّر، أو متعمدًا آثمًا في ذلك، فللوصي والحالة هذه أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي، ويعدل عن الذي أوصى به الميّت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به، جمعًا بين مقصود الموصي والطريق الشرعي، وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء”.
حكم الوصية لأولاد الولد المتوفى
وبعد أن تكلمنا في هذه الحلقة وفي الحلقة السابقة عن أحكام الوصية، من حيث الوجوب، والاستحباب، والجواز، والكراهة، والتحريم، بقي أن نشير إلى أن بعض القوانين الوضعية توجب الوصية لأولاد الولد المتوفى في حياة أبيه سواء أوصى بها الجد أو لم يوصي بها.
وهذه الوصية باطلة في الفقه الإسلامي؛ إذ أن أولاد الولد المتوفى محجوبون بوجود أعمامهم -إخوة والدهم المتوفى-، وحينئذ فلا يرثون شيئًا من جدهم، نعم لو أوصى لهم جدهم بما لا يزيد عن الثلث فلا بأس بذلك باعتبارهم أقارب غير وارثين، ولكن ليس ذلك على سبيل الإيجاب، أما القول بأنه تجب الوصية لأولاد الولد المتوفى في حياة أبيه، سواء أوصى بها الجد أو لم يوصِ بها، فقولٌ باطلٌ مخالفٌ لأحكام الشريعة الإسلامية.
حكم الرجوع في الوصية
ومن أحكام الوصية: أنه يجوز للموصي الرجوع فيها ونقضها، أو الرجوع في بعضها؛ لقول عمر : يغيّر ما شاء في وصيته. وهذا متفقٌ عليه بين أهل العلم، فإذا قال: رجعت في وصيتي، أو أبطلتها… ونحو ذلك بطلت الوصية؛ لأنها عطيةٌ تنجز بالموت فجاز له الرجوع عنها قبل تنجيزها.
ومن أحكام الوصية: أنها لا تنفذ إلا بعد قضاء الديون التي على الميت، فيُخرج الواجب في تركة الميت من الديون والواجبات الشرعية، كالزكاة والحج والنذور والكفارات أولاً، وإن لم يوصِ هو بذلك؛ لقول عليّ : “قضى رسول الله بالدين قبل الوصية” [3]، رواه الترمذي وغيره.
فيُبدأ بالدين، ثم الوصية، ثم الإرث.. بالإجماع، وإنما قُدِّم ذكر الوصية على الدين في الآية الكريمة في قول الله : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، وفي الآية الأخرى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12] وإن كان قضاء الدين مقدّمًا على تنفيذ الوصية بالإجماع، إنما كان ذلك للاهتمام بها والحث على إخراجها؛ فإن الوصية لما أشبهت الميراث في كونها بلا عوض كان في إخراجها مشقةٌ على الوارث، فقُدِّمت في الذكر في الآية تنبيهًا على العناية والاهتمام بها، وجيء بكلمة “أو” التي تفيد التسوية لبيان أنهما يستويان في الاهتمام، وإن كان الدين مقدمًا عليها، وهذا يدل على أهمية أمر الوصية، وأهمية تنفيذها من قِبل الورثة.
اللهم ارزقنا الفقه في الدين، ووفقنا للعمل بما يرضيك، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.