عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
بعض المعاني من نعمة المطر
فمع هذه الأجواء الماطرة، أُذكّرُ ببعض المعاني، ومن أبرز هذه المعاني: أنَّ ما يُنزله الله على العباد من هذا الغيث والمطر أنَّه من آيات الله تعالى العظيمة، الدالة على قدرته، وقد نوّه الله تعالى بذلك في عدة آياتٍ من كتابه الكريم، فقال سبحانه: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:48-50]، ويقول : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [النور:43-44]، فبيَّن الله سبحانه أنَّ إنزال هذا المطر أنه من آياته العظيمة الدَّالة على قدرته وعلى عظمته جلَّ وعلا.
فتأمَّلوا أيُّها الإخوة كيف أن الله أرسل الرياح، فتثير السحاب، فيبسط الله تعالى السحاب في السماء كيف يشاء، وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا قِطعًا متراكمة بعضها فوق بعض، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ، وذلك أنَّ هذه السُحب تتراكم حتى يكون بعضها كالجبال، ويكون فيها البرَد، ويصيب الله بهذا المطر برحمته من شاء من عباده، ويصيب به عذابًا من شاء من عباده: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ، وأما مطر الرحمةِ والخيرِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ، فيظهرُ أثرُ المطر على نفوس الناس؛ فيفرحون ويستبشرون بنزول الأمطار، ينبغي أن يتْبعَ ذلك تفكُّرٌ في عظمة الله ، هل يستطيع أحدٌ من البشر أن يفعل مثل هذا؟ هل يستطيع أحدٌ من المخلوقات أن يفعل مثل هذا؟
فتأمَّلوا أيُّها الإخوة عظيمَ قُدرة الله ، جاء في الصحيحين عن أنس أنَّ النبي : “كان يخطبُ يوم الجمعة على المِنبر، فأتاه رجل فقال: “يا رسول الله، هلكتِ الأموال، وانقطعت السُّبُل؛ فادعُ الله أن يُغيثَنا”، فرفع النبي يديه، وقال: اللهم أغِثنا اللهم أغِثنا يقول أنس : “فوالله ما في السماء من سحاب ولا قزعة” يعني ولا قطعة سحاب “فنشأتْ سحابة مثل التُّرس، فما إن نزل رسول الله من على المنبر، إلّا والمطر يتحادر من لحيته” وبقي هذا المطر ينزل، استمر إلى الجمعة الأخرى وهو ينزل مطرًا غزيرًا، حتى جاء ذلك الرجل أو غيره والنبي يخطب الجمعة، فقال: “يا رسول الله، هلكتِ الأموال، وانقطعت السُّبُل، فادعُ الله أن يُمْسكها عنَّا”، فرفع النبي يديه، وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظِّراب وبطون الأودية، ومنابت الشجر [1]، فجعل لا يُشير إلى جهة إلّا تقطع السحاب بقدرة العزيز الحكيم،.
فانظروا إلى عظيم قدرة الله سبحانه، السماء صحو، ولما دعا النبي قال: اللهم أغِثنا نشأت هذه السحابة فمُطِر الناس أسبوعًا كاملًا، لم يروا الشمس، والمطر ينزل متواصلًا؛ هذا يدلُّ على عظيم قدرة الله سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
من الأحكام المتعلقة بنزول المطر
حكم نسبة المطر لغير الله تعالى
أيها الإخوة: ومن الأحكام المتعلقة بنزول المطر: أنه إذا نزل المطر، فلا يجوز نسبته لغير الله تعالى، بل إن نسبته لغير الله تعالى كفر أصغر، وهو الذي يسميه العلماء: “كفر النعمة”، فقد جاء في الصحيحين حديث زيد بن خالد : “قال: صلَّى بنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية، فلما انصرف وسلَّم، قال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: قال ربكم: أصبح اليوم من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأمَّا من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب، وأما من قال: مُطرنا بفضلِ الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب [2]، وهذا وقع من بعض الصحابة ورسول الله بين أظهرهم والوحي يتنزَّل، ومع ذلك حصل مثل هذا، والمراد بالكفر في هذا الحديث كفر النعمة؛ فلا يجوز نسبة المطر إذا نزل لغير الله تعالى، بعض الناس إذا نزل المطر يقول: نزل بسبب المنخفض الجوي، أو بسبب النوء الفلاني أو نحو ذلك، هذا لا يجوز، بل هذا كفر أصغر هو “كفر النعمة”، فلنحذر من هذه الكلمات التي يطلقها بعض الناس، وأما التحليل والتوقعات قبل نزول الأمطار هذا لا بأس به، قبل نزول المطر لا يعدو أن يكون تفسيرًا لسنن الله في الكون، فيقول: إن الفرصة مُهيئة لنزول الأمطار، من خلال مثلًا رؤية السُّحب مقبلة عبر الأقمار الصناعية، أو من خلال معرفة اتجاه الرياح أو الرطوبة أو نحو ذلك مما يعرفه أهل الاختصاص، قبل نزول المطر لا يعدو أن يكون تفسيرًا لسنن الله في الكون، وأما بعد نزول المطر فلا يجوز نسبة ذلك لغير الله تعالى.
السُّنة عند نزول المطر
والسنة أن يقول المسلم بعد نزول المطر: “مُطرنا بفضل الله ورحمته، اللهم اجعله صيّبًا نافعًا”، ويسأل الله تعالى البركة في هذا المطر، فإن العبرة بالبركة؛ كما جاء في صحيح مسلم “أن النبي قال: ليس السَّنَة أن لا تُمْطَروا، ولكنَّ السَّنَة أن تمطروا، ثم تمطروا، ولا تُنْبِت الأرض شيئًا [3]، ومعنى السَّنَة: يعني الجدب والقحط، يعني يقول ليس الجدب والقحط ألا تُمطروا، ولكن الجدب والقحط حقيقةً أنها تحصل أمطار لكن تُنزع البركة منها، فلا تنبت الأرض شيئًا: ليس السَّنَة أن لا تُمْطَروا، ولكنَّ السَّنَة يعني الجدب والقحط حقيقةً أن تمطروا، ثم تمطروا، ولا تُنْبِت الأرض شيئًا،
فالسُّنة إذن إذا نزل المطر أن ينسب المسلم ذلك لله تعالى، فيقول: “مُطرنا بفضل الله ورحمته، اللهم اجعله صيّبًا نافعًا”.
وكان النبي إذا نزل المطر حسر الثوب عن رأسه، وجعل يصيب المطر بدنه ورأسه، ويقول: إنَّ هذا حديث عهد بربِّه [4] كما جاء في صحيح مسلم، وهذه هي السُّنة، ومعنى قوله: حديث عهد بربِّه يعني بتكوين الله تعالى وخلقه له كما قال أهل العلم.
جمع الصلوات
أيُّها الإخوة: ومن الأحكام المتعلقة بنزول الأمطار: أنه إذا لحق الناس حرجًا بترك الجمع؛ جاز الجمع بين المغرب والعشاء، وبين الظهر والعصر على القول الراجح أيضًا، ولكن أشيرُ بهذه المناسبة إلى أن الجمع إنما يجوز عند وجود الحرج والمشقة بترك الجمع، أما إذا كان لا يلحق الناس الحرج ولا المشقة بترك الجمع، فلا يجوز الجمع؛ لأن الأصل أن الصلاة تُصلى في وقتها، وهذا الأصل أصل صحيح مُحكم، إلا إذا لحق الناس حرج بترك الجمع، ومن علامة الحرج بترك الجمع أن يكون له تأثير على دنيا الناس، فيكون له تأثير على حركة السير في الشوارع، وتُغلق بعض المحلات التجارية، ويلزم بعض الناس أو كثير من الناس بيوتهم؛ بسبب هذا المطر، فمعنى ذلك: أن هذا المطر يصحب الناس لو أنهم صلّوا كل صلاةٍ في وقتها يلحق الناس معه حرجٌ ومشقة؛ فيجوز لهم الجمع حينئذٍ، أما إذا كان نزول هذا المطر لم يؤثر على دنيا الناس، فمعنى ذلك: أنَّ المشقة غير موجودة؛ فلا يجوزُ الجمع حينئذٍ، وشرط الوقت هو آكدُ شروط الصلاة، فقد تسقط كثيرٌ من الشروط والأركان والواجبات مراعاة لشرط الوقت؛ ولهذا لا يُعدل عن هذا الأصل إلا بشيء واضح، إلا بمشقة ظاهرة، وحرج كبير.
أسأل الله تعالى أن يبارك لنا فيما أنزل علينا من الغيث والمطر، وأن يجعله صيّبًا نافعًا، وأن ينفع به البلاد والعبد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.