logo
الرئيسية/محاضرات/عظمة القرآن الكريم

عظمة القرآن الكريم

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحابته أجمعين.

نرحب بكم في هذا اللقاء الثالث مع فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، ونشكر حقيقةً له تلبية الدعوة والحضور إلى ندوة الشيخ: عبدالله بن عبدالعزيز بن عَقيلٍ رحمه الله تعالى.

اللقاء الأول كان بعنوان: “يحبهم ويحبونه”، اللقاء الثاني كان بعنوان: “نوازل الصيام”، أما اليوم فهو الحديث عن “عظمة القرآن الكريم”.

ثلاث موضوعات: موضوعٌ في العقيدة، وموضوعٌ في الفقه وهو “نوازل الصيام”، وموضوعٌ في القرآن وعلومه، وهو حديث هذه الليلة.

والشيخ الأستاذ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان كان عضوًا في “هيئة كبار العلماء”، وأستاذًا في “جامعة الإمام”، قسم الدراسات العليا، وأيضًا هو رئيس “الجمعية الفقهية السعودية”، فنشكر حقيقةً له تلبية الدعوة والحضور إلى ندوة الشيخ عبدالله العقيل.

هذا اللقاء يُبَثُّ مباشرةً عبر صفحة ندوة الشيخ عبدالله العقيل في (تويتر)، وكذلك يُبث عبر صفحة الشيخ سعد الخثلان في (تويتر)، وكذلك قام أخونا مشكورًا بوضع مساحة (تويتر) في حسابه، وسنزوِّدكم بروابط هذا البث، ونأمل من الإخوة الذين لديهم حسابات في (تويتر) عمل إعادةٍ، أو (ريتويت) الذهاب إلى ندوة الشيخ عبدالله العقيل في (تويتر) وعمل إعادة أيضًا، هذا اللقاء يُبث عبر موقع الشيخ عبدالله العقيل رحمه الله تعالى.

أترك الآن المجال للشيخ، فليتفضل مشكورًا، مع ترحيبنا بــ”إذاعة القرآن الكريم”، التي جاءت مشكورةً لتسجيل هذا اللقاء وبثه في محاضرة الأسبوع، وهذه من الأعمال المتعدِّية، فنحمد الله على ذلك، ونشكر لجميع الإخوة المساهمين في مثل هذا اللقاء.

أترك الآن المجال للشيخ، بين أيديكم أوراقٌ، من لديه سؤالٌ أو مداخلةٌ؛ فليُرسلها إلى مدير الجلسة.

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأحمد الله ​​​​​​​ على أن يسر هذا اللقاء في هذه الندوة المباركة، التي أسسها شيخنا عبدالله بن عقيلٍ رحمه الله تعالى وأوصى بها، أوصى بأن تستمر بعد وفاته، فأسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته ومغفرته، وأشكر أبناءه البررة على تنفيذ وصيته واستمرار هذه الندوة المباركة.

عظمة القرآن الكريم

أيها الإخوة في الله، الحديث في هذا اللقاء عن عظمة القرآن الكريم، وعظمة الكلام تكون بعظمة قائله؛ ولذلك عندما يُنقل كلامٌ عن عظيمٍ؛ تجد أن الناس يُعظِّمونه، فكيف إذا كان الكلام كلام رب العالمين الذي هو أعظم من كل شيءٍ، وأكبر من كل شيءٍ، الذي بهرت عظمته وقدرته العقول؟!

وانظروا إلى بديع صنعه وعجيب آياته وعظمته في ملكوت السماوات والأرض، فإذا كانت هذه عظمته وقدرته فيما نراه من بديع صنعته وعجائب آياته؛ فكيف ستكون عظمته في كلامه العظيم الذي جعله سبحانه آيةً لنبيه محمد الذي اختصه بالعظمة، ونوَّه بعظمته في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن الكريم؟!

هذا القرآن العظيم يقول عنه ربنا : لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21]، سبحان الله! لو أن الله ​​​​​​​ أنزل هذا القرآن على جبلٍ، وكان هذا الجبل يعرف البيان، ويعرف معاني القرآن؛ لتأثر تأثرًا عظيمًا، لدرجة أنه يتصدع ويتشقق من خشية الله، لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.

هذا القرآن الكريم هو عُمدة المِلَّة، وهو ينبوع الحكمة، وهو آية الرسالة، وهو نور البصائر والأبصار، فيه نبأ ما قبلنا، وحكم ما بيننا، وخبر ما بعدنا، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبارٍ؛ قَصَمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره؛ أضلَّه الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخلَق على كثرة الرَّد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به؛ صدق، ومن عمل به؛ أُجِر، ومن حكم به؛ عدل، ومن دعا إليه؛ هُدي إلى صراطٍ مستقيمٍ.

هذا القرآن العظيم يقول عنه الوليد بن المغيرة، الذي ذكر الله تعالى شأنه في سورة المدثر: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ۝وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ۝ وَبَنِينَ شُهُودًا [المدثر:13]، هذا الرجل من العرب، الذين هم أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء، لما قيل له: ماذا تقول في القرآن؟ قال: سمعت كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوةً، وإن عليه لَطَلاوةً، وإن أعلاه لمُثمِرٌ، وإن أسفله لمُغدِقٌ، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، لما قال هذا الكلام؛ قالوا: صبأ الوليد، ولئن صبأ؛ لتصبأن قريشٌ كلها، فقالوا للوليد: قل فيه، قال: ماذا أقول؟ لم أجد شيئًا، لا هو بالشعر، ولا هو بكلام كاهنٍ، ولا كلام مجنونٍ، ماذا أقول فيه؟! قالوا: لا بد أن تقول فيه شيئًا، فذكر الله تعالى شأنه: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ۝ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ۝ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ۝ ثُمَّ نَظَرَ ۝ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ۝ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ [المدثر:18-23]، جعل يُفكِّر ماذا يقول؟ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر:24]، ما وجد شيئًا إلا أن قال: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر:24]، توعَّده الله : سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ.. إلى آخر الآيات[26-30].

فانظروا إلى وصفه لهذا القرآن العظيم بهذا الوصف وهو من أعداء النبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك وصفه بهذا الوصف البديع!

القرآن معجزة الرسول  الخالدة

هذا القرآن -أيها الإخوة- جعله الله تعالى آيةَ نبيِّه محمدٍ ، فإن من حكمة الله: أنه إذا أرسل الرسول؛ أن يُعطي هذا الرسول آيةً؛ حتى يعرف الناس أنه رسولٌ من عند الله، فيعطيه الله تعالى من خوارق العادات ومن الآيات ما على مثله يؤمن البشر، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته: ما من نبيٍّ إلا أُعطي من الآيات ما مِثْلُه آمَنَ عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليًّ، فأرجو أن أكون أكثر تابعًا يوم القيامة [1]؛ فمثلًا: جعل الله تعالى آية موسى : العصا، ويُدخِل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوءٍ، وكان السحر في وقت موسى  قد بلغ أشُدَّه، وهذا من حكمة الله ، أن الآية التي يُعطيها للنبي تكون من جنس ما برع فيه قومه، وآية عيسى عليه الصلاة والسلام أن يُبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله، وكان قومه قد برعوا في الطب، وبلغوا فيه مبلغًا عظيمًا، وآية صالحٍ : الناقة، وهكذا كلُّ نبيٍ له آيةٌ، فما هي آية نبينا محمدٍ ؟ آيته: هو هذا القرآن، وهذا من حكمة الله ؛ لأنه آخر الأنبياء والرسل؛ حتى تبقى هذه الآية تراها الأجيال، جميع الأمة يرونها؛ ولهذا قال: فأرجو أن أكون أكثر تابعًا يوم القيامة، فهذا القرآن إذنْ هو آية نبينا محمدٍ .

ومعجزات الأنبياء لم يُشاهدها إلا من حضرها، لكن معجزة نبينا محمدٍ -وهي هذا القرآن- جعلها الله تعالى مستمرةً إلى قيام الساعة.

هذا القرآن العظيم له تأثيرٌ عجيبٌ على النفوس، فالقرآن العظيم أبهر الناس بإعجازه وبعظمته، وقد تحدى الله به الجن والإنس؛ تحدى الجن والإنس على أن يأتوا بمثله فعجزوا: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، ثم تحداهم الله على أن يأتوا بعشر سورٍ فعجزوا، مع اعتنائهم بمعارضته وهم أفصح الناس: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [هود:13]، ثم تحداهم على أن يأتوا بسورةٍ من مثله فعجزوا: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23].

إنه المعجزة الباقية، والشفاء لما في الصدور، نورٌ لا يخبو ضياؤه، وبحرٌ لا يُدرَك غوره، كل كلمةٍ منه لها عجبٌ، فيه قصصٌ باهرةٌ، وحِكمٌ زاهرةٌ، ومواعظ زاجرةٌ، وأدلةٌ ظاهرةٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:16].

تأثير القرآن في الإنس والجن

هذا القرآن جمع بين الجزالة والسلاسة، والقوة والعذوبة، لمَّا سمع القرآنَ نفرٌ من الجن؛ تعجبوا منه؛ في عظمته، وفي بلاغته، وفي بيانه، وفي عظيم تأثيره! ونقل الله لنا كلامهم في سورةٍ في القرآن، في سورة الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ۝يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:1-2].

فتأمل قول الجن: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، وصفوا القرآن بأنه “عَجَبٌ”، عجبٌ غيرُ مألوفٍ، يثير الدهشة في القلوب، وهذه صفة القرآن، عند من يتلقاه بحسٍّ واعٍ، ومشاعر مرهفةٍ، عجبٌ، ذو سلطانٍ، وذو جاذبيةٍ غلَّابةٍ، يُحرِّك القلوب، ويلمس المشاعر، فهو قرآنٌ عَجَبٌ.

والصفة الثانية: يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ، هذه الصفة البارزة كذلك في القرآن: أنه يهدي إلى الرُّشد، والتي أحسَّها النفر من الجن حين وجدوا حقيقتها في قلوبهم؛ ولذلك أعلنوا إسلامهم مباشرةً، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ۝ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا [الجن:2-3]، نقل الله لنا كلامهم؛ بسبب تأثُّرهم بسماع القرآن، سبحان الله! انظر كيف أثر القرآن في الجن إلى هذه الدرجة التي نقلها لنا ربنا حتى وصفوا القرآن بالعجب، وأنه يهدي إلى الرشد!

ولما سمع القرآنَ فصحاء العرب -وهم أرباب البلاغة والبيان- أقروا بعظمته وتأثيره، مع قوة الداعي لمعارضته، لكنهم لم يعارضوه، لم يعترضوا على القرآن في بيانه أو في بلاغته أو في أسلوبه، كان الكافر المعاند من العرب يسمع القرآن فيتحول في لحظةٍ من كافرٍ معاندٍ إلى صحابيٍّ جليلٍ يُضحِّي بالغالي والنفيس من أجل القرآن، ونأخذ أمثلة:

هذا عمر بن الخطاب، عمر بن الخطاب كان في الجاهلية خصمًا عنيدًا، وعدوًّا لدودًا للإسلام وللنبي ، وقد أُعطي بسطةً في الجسم، وكان الناس يخافون من بطشه، فما الذي غيره؟ وما الذي حوَّله؟ وما الذي كان سببًا في إسلامه؟ إنه القرآن، لما ذهب إلى بيت أخته وزوجها، وقرءوا عليه أول سورة طه: طه ۝ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ۝ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ۝ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى ۝ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ۝ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ ۝ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ۝ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ [طه:1-8]، لما سمع هذه الآيات؛ إذ به يتأثر تأثرًا عظيمًا، وإذ بعينيه تذرفان من الدمع، وإذ به يريد أن يُسلم، وذهب للنبي وأعلن إسلامه [2]، سبحان الله! انظر إلى قوة تأثير القرآن على النفوس، استَمَع لهذه الآيات -وهو من العرب الأقحاح الذين يفهمون معاني القرآن- فتأثر به تأثرًا عجيبًا، لدرجة أنه أعلن إسلامه، وفرح المسلمون بإسلامه فرحًا عظيمًا، وأصبح عمر  أحد عظماء التاريخ، وهو أفضل الأمة بعد نبيها  وبعد أبي بكر الصديق ، فالسبب في إسلامه هو قوة تأثير القرآن.

وهذا جُبير بن مُطعِمٍ  ذهب للنبي وهو مشركٌ، قال: “فسمعته يقرأ في صلاة المغرب بالطور، فلما بلغ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ۝ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ [الطور:35-36]، قال: كاد قلبي أن يطير” [3]، سبحان الله! “كاد قلبي أن يطير” من شدة التأثر، كاد قلبه أن ينخلع وأن يطير من شدة التأثر، وأعلن إسلامه مباشرةً؛ لأن هذه الآية آيةٌ عظيمةٌ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، يعني: أنت لم تُخلق من عدمٍ، ولم تَخلق نفسك؛ إذنْ لا بد من خالقٍ لك، تنظر يمينًا وشمالًا تجد بَشَرًا مثلك لم يخلقوا أنفسهم، فكيف يخلقون غيرهم؟! تجد جماداتٍ لا عقل لها، فكيف يَهَبُ العقلَ مَن لا عقل له؟! إذنْ لا بد من خالقٍ، ولا بد أن يُخبِر هذا الخالق عن نفسه، وهو الله جل وعلا، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ۝ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ، فتأثَّر بها إلى هذه الدرجة، قال: “كاد قلبي أن يطير!”، وأسلم !

وهذا النجاشي، مَلِك الحبشة أصْحَمة، لما ذهب له الصحابة وهاجروا إليه، واختار النبي هذا البلد؛ لأنه قد اشتهر عدل هذا الرجل، وأنه لا يُظلم عنده أحدٌ، فجلس واستمع للصحابة ، فقرأ عليه جعفرٌ الطيار أول سورة مريم، فإذا به يتأثر تأثرًا عظيمًا ويقول: إن هذا الذي تقرأ والذي أنزل على عيسى يخرجان من مشكاةٍ واحدةٍ، ثم أسلم، لكنه كتم إسلامه؛ حتى يبقى في المُلك، وبقي ملكًا على الحبشة وهو مسلمٌ، فلما مات؛ دعا النبي الصحابة وقال: إنه قد مات اليوم رجلٌ صالحٌ، وصلَّى عليه صلاة الغائب؛ لأن الصلاة على الميت فرض كفايةٍ، وهو قد مات ولم يُصلِّ عليه أحدٌ؛ لأنه كان كاتمًا لإسلامه، فصلى عليه النبي صلاة الغائب، وكبَّر بالصحابة عليه أربعًا [4].

بينما كَتب عليه الصلاة والسلام إلى كسرى، فمزق كتاب النبي ، فدعا عليه النبي بأن يُمزِّق الله ملكه، فمزَّق الله ملكه [5]، وكتب إلى هرقل ملك الروم، وكان رجلًا عاقلًا، قال: ادْعُ لي مَن كان هاهنا من العرب، فدعوا له أبا سفيان ، وكان إذ ذاك موجودًا بأرض الشام، فسأله عشرة أسئلةٍ، قال أبو سفيان: فوالله لولا أن يأثر الناس علي كذبًا؛ لكذبت، يعني: لا يريد أن تتشوه سمعته بالكذب؛ ولذلك صَدَق في الإجابة عن هذه الأسئلة العشرة، فقال هرقل: لئن كان ما تقول حقًّا؛ ليملكن صاحبكم موضع قدمي هاتين [6]، وأراد أن يُسلِم لكنه آثر الدنيا على الآخرة، عرف الحق، وعرف أنه نبيٌّ، وآثر الدنيا على الآخرة ولم يُسلِم، بينما وفَّق الله النجاشي وأسلم، وكتم إسلامه، وبقي في الملك مسلمًا.

والشاهد من هذا: أن النجاشي كان سببَ إسلامه تأثرُه بالقرآن لمَّا قرأ عليه جعفرٌ أول سورة مريم، تأثر تأثرًا عظيمًا، وأسلم وكتم إسلامه.

وإن تعجب؛ فاعجب من صناديد قريشٍ؛ من أبي جهلٍ، وأبي سفيان، والأخنس بن شَريقٍ! كانوا يتسللون إلى بيت النبي ، ذكر ابن إسحاق في “السيرة”، ونقل هذه القصة بعض المفسرين: أن أبا سفيان وأبا جهلٍ والأخنس بن شريقٍ خرجوا ليلةً ليستمعوا من رسول الله وهو يُصلِّي بالليل، هم في قرارة أنفسهم معجبون بالقرآن، فخرجوا يستمعون، فأخذ كل واحدٍ منهم مجلسًا يستمع فيه، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر؛ جمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم؛ لأوقعتم في نفسه شيئًا، ثم انصرفوا، فلما كانت الليلة الثانية؛ ظن كل واحدٍ منهم أن صاحبه لن يأتي، وإذا بالثلاثة كلهم يأتون، ثم تجمعهم الطريق، فيتلاومون مرةً أخرى، ثم يتعاهدون على ألا يأتوا، فلما كانت الليلة الثالثة؛ كل واحد منهم ظن أن صاحبه لن يأتي، فأتوا واستمعوا لقراءة النبي ، فجمعهم الطريق، وتلاوموا، وتعاهدوا على ألا يأتوا، ثم لما أصبحوا؛ ذهب الأخنس بن شريقٍ إلى أبي جهلٍ، وقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت؟ قال: ماذا سمعت؟! تنازعنا وبنو عبد منافٍ الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهانٍ؛ قالوا: منا نبيٌّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟! والله لا نؤمن به ولا نصدقه أبدًا [7].

فهم عرفوا أنه حقٌّ، وأنه من عند الله، وأن هذا رسول الله ، لكن حملهم على الكفر الاستكبار والحسد والبغي، فانظر إلى حرصهم على الاستماع لتلاوة النبي ، وتعجبهم من هذا القرآن العظيم!

نزول القرآن في ليلة القدر

هذا القرآن العظيم -أيها الإخوة- لعظمته عظَّم الله الزمن الذي نزل فيه، وهو ليلة القدر، فجعلها ليلةً عظيمةً شريفةً: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3]، وعظم الله تعالى شأن هذه الليلة لعظمة القرآن فقال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ۝ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۝ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ۝ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:2-5]، فعظَّم الله وقت نزول القرآن، حتى إنه عظم شهر رمضان لأجل ذلك: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].

فانظر إلى عظيم شأن القرآن، عظَّم الله تعالى الوقت الذي نزل فيه!

ومعنى نزول القرآن، للعلماء قولان:

  • القول الأول: أنه نزل جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وهذا قد رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما.
  • والقول الثاني: أن المراد بنزول القرآن: ابتداء نزوله، وهذا هو الأظهر والله أعلم، أن المراد بنزول القرآن: ابتداء نزوله؛ لأن القرآن نزل منجَّمًا على نبينا محمدٍ في ثلاث وعشرين سنةً، فالمقصود بنزول القرآن: ابتداء نزوله؛ لأن بعض الآيات نزلت مقرونةً بأسبابٍ؛ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]، ونحو ذلك، فهذا مما يترجح به القول الثاني، وهو أن المقصود بنزول القرآن: ابتداء نزوله، فعظَّم الله هذا الوقت، وجعل هذه الليلة خيرًا من ألف شهرٍ، وهذا كله من بركة وعظمة القرآن.

أوجه إعجاز القرآن الكريم

القرآن العظيم -أيها الإخوة- معجِزٌ، ووجوه إعجازه كثيرةٌ، ولا يتسع المقام للحديث عنها، وقد صنَّف العلماء كتبًا في إعجاز القرآن، ومن أحسن الكتب المصنفة في هذا: كتاب الحافظ السيوطي “معترك الأقران في إعجاز القرآن”، تكلم فيه كلامًا حسنًا، وأذكر من ذلك:

  • أولًا: أن القرآن احتوى على علومٍ ومعارف لم يجمعها كتابٌ من الكتب، ولا أحاط بعلمها أحدٌ؛ كما قال الله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، قال بعض السلف: جميع ما في الكتب السماوية من العلوم أودعه الله تعالى في القرآن، فحوى هذا القرآن من العلوم والمعارف ما لم يجمعه كتابٌ غيره.
  • الوجه الثاني من وجوه الإعجاز: حفظ الله تعالى له؛ كما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فلم يَقْدِر أحدٌ على التجاسر عليه، سبحان الله! نحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري، مضى على نزول القرآن أكثر من ألف وأربعمئة سنةٍ، لم يتغير فيه حرفٌ واحدٌ، نقرؤه غضًّا طريًًا كما نزل كما كان النبي يقرؤه، وكما كان الصحابة يقرءونه، مع أن الأُمَّة اعتراها في بعض الأزمنة ضعفٌ شديدٌ، وكانت الغلبة للأعداء في كثيرٍ من الأماكن في العالم الإسلامي، وكانوا حريصين على إطفاء نور الله ، ومع ذلك لم يتغير حرفٌ واحدٌ من القرآن؛ لأن الله ​​​​​​​ لمَّا قال: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]؛ انتهى الأمر، لا بد أن يتحقق هذا الحفظ، لا بد، بينما الكتب السماوية الأخرى لم يتكفَّل الله بحفظها، فقال عن أهل الكتاب: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ [المائدة:44]، فلم يحفظوها، ودخلها التحريف، فهذا الحفظ العجيب الذي نراه الآن هذا من آيات الله ، الأُمَّة غزاها التتار، وغزاها الصليبيون، واعتراها مراحل ضعفٍ شديدٍ، ومع ذلك لم يتغير هذا القرآن، ولم يدخله التحريف، نقرؤه كما نزل محفوظًا بحفظ الله ، وسيبقى محفوظًا إلى قيام الساعة، فهذا من آيات الله.
  • أيضًا من وجوه الإعجاز: بلاغة ألفاظه، والْتئام كلماته، وفصاحة القرآن وبلاغته الخارقة عادةَ العربِ الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن، سبحان الله! تجد جميع أنواع البلاغة في هذا القرآن، ومَن له عنايةٌ بالبلاغة يعرف هذا؛ ولهذا يقول الحافظ السيوطي رحمه الله: “كتاب الله لو نُزعت منه لفظةٌ، ثم أُدير لسان العرب على لفظةٍ أحسن منها؛ لم يُوجد”، لو نُزعت لفظةٌ من القرآن، وبَحثت في جميع قواميس اللغة العربية في الدنيا؛ لا تجد لفظةً أحسن منها، سبحان الله! قال السيوطي: “ونحن تتبين لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهها في مواضع؛ لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذٍ في سلامة الذوق وجودة القريحة”، فانظر إلى بلاغة القرآن وفصاحته، لا يمكن أن تجد كلمةً تحل محل كلمةٍ في القرآن أحسن منها أو أبلغ منها أبدًا، هذا محالٌ، لكن هذا إنما يعرفه مَن له عنايةٌ بالبلاغة والبيان.
  • أيضًا من وجوه عظمة القرآن وإعجازه: مناسبة آياته وسوره وارتباط بعضها ببعض، حتى تكون كالكلمة الواحدة، متَّسِقة المعاني، منتظمة المباني، وقد صنف بعض العلماء في ذلك مصنفات، ومن أشهر هذه المصنفات: “نظم الدرر في تناسب الآيات والسور” للبَقَاعي، وأيضًا “البرهان” للزركشي، وأيضًا السيوطي قيل: إنه أيضًا صنَّف في هذا كتابًا [8].
  • أيضًا من وجوه عظمة القرآن وإعجازه: أن قارئه وسامعه لا يَمل منه، فلا تزيده تلاوته إلا حلاوةً، ولا ترديده إلا محبةً، ولا يزال غضًّا طريًّا، بينما غيره من الكلام ولو بلغ في الحسن مبلغه، يُمل مع التكرار والترديد، سبحان الله! نحن نقرأ القرآن ونكرر تلاوة القرآن، لكن لا نمل منه، بينما الكتب الأخرى عندما تقرأ كتابًا مرةً أو مرتين أو ثلاثًا؛ تَمل وتسأم، لكن القرآن لا يُمل منه، بل تلاوته لا تزيده إلا حلاوةً.
  • أيضًا من عظمة القرآن ووجوه الإعجاز فيه: ما ذكره ربنا بقوله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر:22]، يسَّره الله تعالى للناس، حتى تجد أن الصبيان يحفظونه، أو يحفظون أجزاءً منه، بينما سائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم، علماء أهل الكتاب لا يحفظون التوراة ولا الإنجيل، حتى علماؤهم الأحبار والرهبان لا يحفظون التوراة والإنجيل؛ ولذلك تجد أنهم دائمًا يقرءون منها قراءةً، قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا [آل عمران:93]، لا يحفظونها، لكن القرآن يحفظه المسلمون، يحفظه حتى الصبيان، بل أعجب من هذا: أن العجم ومن لا يُحسن العربية يحفظه ويقرؤه كما يقرؤه العربي، وهذا أمرٌ مشاهدٌ، وأذكر مرةً أني دخلت مقرأةً قرآنيةً في إحدى البلدان، وكان جميع من فيها من العجم، وإذا بي أسمع تلاوةً طريَّةً، تلاوةً يقرؤها هؤلاء كما يقرؤها العرب، بل ربما تلاوة بعضهم تفوق تلاوة بعض العرب، بصوتٍ حسنٍ شجيٍّ، فتعجبت من حسن التلاوة، ومن الإتقان، ومن عدم وجود العُجمة أو اللُّكنة! وبعد انتهاء التلاوة تحدثت معهم، وإذا بهم لا يُحسنون العربية، ولا كلمةً واحدةً! فتعجبت من إتقانهم للقرآن بهذه الفصاحة وعدم اللكنة وعدم العُجمة! يقرءونه كما يقرؤه العربي! بينما غير القرآن لا يعرفون منه كلمةً واحدةً باللغة العربية! آيةٌ من آيات الله! وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].
  • أيضًا من وجوه عظمة القرآن وإعجازه: اشتماله على جميع أنواع البراهين والأدلة العقلية والسمعية، عندما تتأمل في البراهين التي يذكرها القرآن؛ تجد العجب العجاب، متنوعةً؛ براهين سمعيةً، براهين عقليةً، يخاطب العقل، يُخاطب الفطرة، كلام رب العالمين، خذ مثلًا الآيات في سورة النمل: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل:60]، والآيات التي بعدها؛ تجد العجب، كيف حوى هذا القرآن هذه البراهين والأدلة بهذا التنوع العجيب؟! ولهذا كان تأثيره عظيمًا على النفوس.
  • أيضًا من وجوه العظمة والإعجاز: إخباره عن أمورٍ مستقبليةٍ وقعت كما أخبر، ومن ذلك قول الله : الم ۝ غُلِبَتِ الرُّومُ ۝ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ۝ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ [الروم:1-4]، فأخبر الله تعالى في القرآن بأن الروم ستغلب فارسًا في بضع سنين، لما نزلت هذه الآية؛ قام أبو بكر الصديق يقرؤها على كفار قريشٍ، فسخروا وقالوا: يزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارسًا؟! ألا تُراهننا إن كنت صادقًا؟ وأبو بكرٍ على يقينٍ بأن ما قاله الله حقٌّ، فقال: أراهنكم على أن الروم ستغلب فارسًا في ست سنين، فذهب للنبي وأخبره، فقال: هلَّا احتطتَ؟؛ لأن البُضع من ثلاثٍ إلى تسعٍ، فكان ينبغي أن يكون الرهان على تسع سنين، فمضت ست سنين، ولم تغلب الروم فارسًا، فأخذوا من أبي بكرٍ الرهان، لكن أبا بكرٍ  كان على يقينٍ بأن ما قاله الله حقٌّ، وقال: ألا تُراهنونني على أن الروم ستغلب فارسًا في ثلاث سنين؟ فطمعوا أن يأخذوا رهانًا آخر؛ فراهنوه، فلما كانت السنة السابعة؛ غلبت الروم فارسًا، فأخذ أبو بكرٍ منهم رهانه، وهذه القصة ذكرها الترمذي بسندٍ لا بأس به [9]، فما قاله الله ​​​​​​​ وما أخبر به حقٌّ، ولما أخبر الله تعالى عن أبي لهبٍ أنه سَيَصۡلَىٰ نَارٗا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، يعني: سيموت على الكفر، فمات على الكفر.

فمن وجوه العظمة في القرآن: إخباره عن أمورٍ مستقبليةٍ وقعت، لما قال ربنا ​​​​​​​: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، ونحن نرى في وقتنا الحاضر أن الله خلق من وسائل المواصلات ما لا يعلم الناس وقت نزول الآية؛ من هذه السيارات والطائرات والقطارات والسفن، وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.

والحديث -أيها الإخوة- عن عظمة القرآن وإعجازه يطول، وصنَّف العلماء في هذا مصنفاتٍ.

واجبنا تجاه القرآن العظيم

وننتقل -أيها الإخوة- لمحورٍ مهمٍّ، وهو: ما واجبنا تجاه هذا القرآن العظيم؟ ما واجبنا تجاهه؟

علينا أولًا: أن نُعظِّم هذا القرآن حقَّ تعظيمه، وأن نُعظِّمه بتعظيم الله ، والله تعالى يرفع قدر من عظَّم كتابه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إن الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا ويضع به آخرين [10]، النفر من الجن لما عظَّموا القرآن؛ عظَّم الله شأنهم، ونقل كلامهم في سورةٍ كاملةٍ من القرآن.

ومن ذلك أيضًا: أن نعمل بهذا القرآن، والنبي كان خُلقه القرآن [11]، وكان الصحابة إذا قرءوا عشر آياتٍ؛ لم يتجاوزوها حتى يتعلَّموها وما فيها من العلم والعمل، فتعلَّموا القرآن والعلم والعمل جميعًا.

ومن ذلك أيضًا: أن نتلو القرآن حق تلاوته، فإن تلاوة القرآن عملٌ صالحٌ عظيمٌ، وقد أثنى الله على الذين يتلون كتابه فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ۝ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29-30]، فذكر الله تعالى مِن أول صفاتهم: أنهم يتلون كتاب الله، وقال جل وعلا: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61]، مع أن تلاوة القرآن داخلةٌ في الشأن، لكن الله أفردها بالذكر؛ لعظيم شأنها، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ.

ويقول النبي : من قرأ حرفًا من كتاب الله؛ فله به حسنةٌ، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرفٌ، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ [12]، وقد ورد عدد حروف القرآن عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وإذا ضربت هذا العدد في عشرة؛ يكون من ختم القرآن يحصل على أكثر من ثلاثة ملايين حسنةٍ، وهذا فضل الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء.

ولهذا ينبغي -أيها الإخوة- أن نكثر من تلاوة القرآن ومن تدبره، وإذا نظرنا إلى واقع الناس في تلاوة القرآن؛ نجد أن أحوالهم متفاوتةٌ تفاوتًا كبيرًا؛ فمن الناس من لا يكاد يقرأ القرآن في غير الصلوات إلا نادرًا، وهذا ربما يَصدق عليه قول الله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، ومن الناس من لا يقرؤه إلا في رمضان، ومنهم من يجعل تلاوة القرآن على الهامش؛ إن وجد وقت فراغٍ، أو أتى المسجد مبكرًا؛ قرأ القرآن، وإلا ربما تمضي عليه مددٌ طويلةٌ لم يقرأ فيها شيئًا من كتاب الله ، فهذا يعتبر تقصيرًا في الارتباط بكتاب الله .

لكن نجد -في المقابل- في مجتمعنا أناسًا وفقهم الله للارتباط بكتابه الكريم، فرتَّبوا من أوقاتهم نصيبًا من الوقت للتلاوة، وجعلوا تلاوة القرآن جزءًا أساسيًّا من وقتهم، وهذا هو المطلوب من المسلم: أن تجعل لك وردًا من التلاوة، وهذا كان النبي يفعله والصحابة يفعلونه، كان عليه الصلاة والسلام له وردٌ، كانوا يسمونه حزبًا، ولهذا جاء في “صحيح مسلمٍ” عن عمر قال: سمعت النبي يقول: من نام عن حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر؛ كُتب كأنما قرأه من الليل [13].

من نام عن حزبه، يعني: ورده، وهذا الورد أن تجعل لك مثلًا جزءًا من القرآن تقرؤه كل يومٍ، أو جزئين أو ثلاثةً أو أربعةً أو أكثر، تحافظ عليه، وإذا عَرَض لك عارضٌ؛ تقضيه قضاءً، فيُكتب لك كأنما قرأته في وقته، هذا هو المأثور عن السلف، وهو المأثور عن الصحابة .

فينبغي على كل واحدٍ منا -أيها الإخوة- أن يجعل له وردًا من تلاوة القرآن الكريم، حتى الحافظ، بعض الحفاظ يقتصر على المراجعة، ويُفوِّت على نفسه أجر التلاوة وأجر التدبر أيضًا، ينبغي أن تجعل مع المراجعة وقتًا للتلاوة، وكثيرٌ من أهل العلم يقول: إن الأفضل أن تقرأ من المصحف؛ لأن هذا مما يُعين على التدبر، ولأن النظر إلى المصحف عبادةٌ.

ومن نعم الله علينا في هذا الزمان: وجود المصاحف في الجوالات، هذه نعمةٌ من الله ، يكون معك المصحف في أي مكانٍ وفي أي زمانٍ، ما عليك إلا أن تفتح المصحف من الهاتف الجوال وتقرأ، ثم أيضًا فيه خدمات ضبط الموقف، فيه أيضًا -إن أردت تفسير الآية- معنى الآية، فهذه من نعم الله تعالى علينا.

والمصحف الذي في الهاتف الجوال لا تجب الطهارة عند مسِّه، أولًا؛ لأنه لا يأخذ حكم المصحف الورقي، فهو ذبذباتٌ وشاشاتٌ كهربائيةٌ، لكن على افتراض أننا سلمنا بقول من قال من أهل العلم: إنه يأخذ حكم المصحف الورقي؛ فيوجد في كل هاتفٍ جوالٍ شاشتان: داخليةٌ وخارجيةٌ، فالشاشة الخارجية بمثابة الحائل، ويجوز مس المصحف على غير طهارةٍ من وراء حائلٍ، فهذه أيضًا ميزةٌ أخرى للمصحف في الهاتف الجوال، أنك تستطيع أن تقرأه وأنت على غير طهارةٍ، أن تقرأ من المصحف في الهاتف الجوال وأنت على غير طهارةٍ؛ بناءً على القول الراجح، وهو أنه لا تُشترط الطهارة عند مس المصحف الموجود في الهاتف الجوال.

فأقول أيها الإخوة: ينبغي أن يجعل كل واحدٍ منا وردًا من تلاوة القرآن، يحافظ عليه كل يومٍ، لا ينقص عنه، وقد يزيد عليه.

وأختم -أيها الإخوة- بأن أُشير إلى مسألةٍ مهمةٍ: وهي أن تلاوة القرآن بتدبُّرٍ من أعظم أسباب الثبات، بل من أعظم أسباب زيادة الإيمان؛ كما قال ربنا سبحانه: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، إذا كانوا إذا تُليت عليهم آياته؛ زادتهم إيمانًا؛ فكيف إذا تَلَوْا الآيات؟!

فالذي يقرأ القرآن بتدبُّرٍ، هذا يُعطيه زادًا روحيًّا، هذا من أعظم أسباب الثبات؛ لأنك تتنقل بين ما يذكره ربنا في هذا القرآن من ذكر قصص السابقين، ومن ذكر أحوال يوم القيامة واليوم الآخر، ووصف الجنة ووصف النار، وما يذكره ربنا في كتابه الكريم، فهذا مع التدبر مما يزيد الإيمان لدى المسلم؛ ولهذا نجد أن من أسرار تميز جيل الصحابة : ارتباطهم بالقرآن الكريم، أعظم سببٍ لتميُّز جيل الصحابة : هو ارتباطهم بالقرآن، فالنبي كان في خطبه وفي مواعظه يعظ بالقرآن، قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45]، يعظ بالقرآن فقط، وذات مرةٍ أَتَى في طريقٍ فوجد فيه أخلاطًا من المسلمين والمشركين، ووجد معهم عبدالله بن أُبَيٍّ، رأس النفاق، فنزل عليه الصلاة والسلام عن حماره، وقرأ آياتٍ من كتاب الله فقط، فقال عبدالله بن أُبَيٍّ: يا هذا، ما أحسن ما تقول! ولكن اجلس في مسجدك، فمن أرادك يأتيك، قال عليه الصلاة والسلام: لا، أُبلِّغ رسالة ربي [14]، فكان عليه الصلاة والسلام يعظ الناس بالقرآن؛ ولهذا إذا وجدت خطيب الجمعة، ووجدت الداعية، ووجدت طالب العلم يستشهد كثيرًا بالقرآن وبالأحاديث النبوية؛ فهذا دليلٌ على رسوخه في العلم، ودليلٌ على قوته العلمية، فالخطبة المتميزة هي الغنية بالنصوص من الكتاب والسنة.

أسأل الله تعالى أن ينفعنا وأن يرفعنا بهذا القرآن العظيم، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء همومنا وأحزاننا وغمومنا، اللهم شفعه فينا، اللهم شفعه فينا يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفقنا لما تحب وترضى من الأقوال والأعمال.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 7274، ومسلم: 152.
^2 ينظر: سيرة ابن إسحاق (ص 181-184)، والطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 248-249)، ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 219-220).
^3 رواه البخاري: 4854.
^4 رواه البخاري: 1245.
^5 رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى: 1/ 223.
^6 رواه البخاري: 7، ومسلم: 1773.
^7 السير والمغازي (ص 189، 190).
^8 هو كتاب: الإتقان في علوم القرآن.
^9 رواه الترمذي: 3193، والنسائي: 11389، وأحمد: 2495.
^10 رواه مسلم: 817.
^11 رواه أحمد: 24601.
^12 رواه الترمذي: 2910، والبيهقي: 1983.
^13 رواه مسلم: 747.
^14 رواه البخاري: 4566، ومسلم: 1798.
مواد ذات صلة
zh