الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
معنى الخشوع في الصلاة وفضله
الخشوع في الصلاة -أيها الإخوة- جاء في بعض الآثار أنه أول ما يرفع من هذه الأمة، حتى لا تكاد ترى خاشعًا [1].
فكم من الصلوات التي نصليها ولا نخشع فيها! نصلي لله تعالى في اليوم والليلة خمس صلوات، فكم الصلوات التي نخشع فيها خشوعًا كاملًا، أو مقارب للكمال.
الخشوع في الصلاة -أيها الإخوة- معناه في الأصل: اللين والخضوع والذل، ومنه قول الله تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5] وأصل الخشوع في القلب، وإن كان الخشوع يشمل جميع الجوارح؛ ولهذا جاء في حديث علي الذي أخرجه مسلم في صحيحه أن النبي كان يقول في ركوعه: اللهم لك ركعت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي [2]؛ لكن القلب إذا خشع خشعت جميع الجوارح، كما قال النبي : ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب [3] فينبغي أن نعنى بتحقيق الخشوع في القلب، فإنه إذا تحقق خشعت بقية الجوارح.
الخشوع في الصلاة -أيها الإخوة- له مكانة عالية ومنزلة رفيعة، بل إن بعض أهل العلم، يقول: إن الخشوع إذا كان كاملًا في الصلاة، فإن هذه الصلاة تكفر جميع الذنوب حتى الكبائر، واستدلوا بقول النبي : أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فكذلك الصلوات الخمس، يكفر الله بهن الخطايا [4]، أخرجه مسلم في صحيحه.
وجاء في حديث عمرو بن عبسة في صحيح مسلم: أن النبي لما ذكر الوضوء، قال بعد ذلك: فإن هو قام لله تعالى، وكبر وحمد الله تعالى، وأثنى عليه ومجّده، وفرغ قلبه لله تأمل قوله: وفرغ قلبه لله يعني: في الصلاة فصلى ركعتين رجع من ذنوبه، وليس عليه خطيئة كيوم ولدته أمه [5]، وهذا في صحيح مسلم.
فهذا يدل على عظيم مكانة الخشوع في الصلاة؛ ولذلك فإن الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي التي يخشع فيها صاحبها، وأما الصلاة التي لا يخشع صاحبها فيها، فإنها لا تكاد تنهاه عن الفحشاء والمنكر؛ لهذا تجد من يصلي مع المسلمين لكنه يقع في الفحشاء والمنكر؛ لأنه لا يخشع في صلاته، تلك الصلاة الخاشعة هي التي تزيد مستوى الإيمان، بحيث تشعر أنك بعد سلامك من هذه الصلاة أن الإيمان قد ازداد عندك، مستوى الإيمان قد ارتفع، قد ازداد، وأن حالك بعد الصلاة خير من حالك قبل الصلاة، وتحس بعد السلام براحة وطمأنينة وسكون، فقد استفدت من هذه الصلاة، وأثرت فيك، وارتفع بها مستوى إيمانك، هذه هي الصلاة الخاشعة.
ويقول حسان بن عطية رحمه الله: إن الرجلين ليصليان الصلاة الواحدة، وما بينهما في الفضل، كما بين السماء والأرض؛ وذلك أن أحدهما خاشع في صلاته، مقبل على ربه، وأما الآخر فهو غافل لاهٍ قلبه في وادٍ، وجسمه في وادٍ آخر.
أسباب تحقيق الخشوع في الصلاة
وأما أسباب تحقيق الخشوع في الصلاة، فأبرز هذه الأسباب:
- الاهتمام: أن يُوجد منك الاهتمام، بأن تخشع في صلاتك، احرص على أنك تهتم بتحقيق الخشوع في الصلاة، أفلا يستحي المسلم من ربه أنه يناجي ربه خمس مرات في اليوم والليلة، ويصلي هذه الصلوات ولا خشع ولا في صلاة واحدة.
فينبغي أن نرفع مستوى الاهتمام بتحقيق الخشوع في الصلاة، وأن نستحضر بأن الخشوع في الصلاة، يرفع صاحبه عند الله تعالى درجات؛ ولهذا فإن الشيطان الرجيم الذي هو عدو بني آدم يعلم ذلك، فما أن يُكبّر المصلي إلا ويقبل عليه بخيله ورجله؛ لعلمه بأن الصلاة الخاشعة ترفع صاحبها درجات عند الله ، فثوابها جزيل، وأجرها عظيم، فينبغي إذًا الاهتمام بتحقيق الخشوع في الصلاة. - ومن الأسباب أيضًا ما جاء في صحيح مسلم عن عثمان بن أبي العاص قال: أتيت النبي ، فقلت: يا رسول الله، إن الشيطان قد لبس علي صلاتي، حتى لا أدري ما أقول، يعني: وصل إلى هذه المرحلة أن الشيطان أتى ووسوس له، ولبّس عليه، حتى لا يدري ما يقول، فقال النبي : ذلك شيطان، يقال له: خنزب، فإذا وجدت ذلك فاتفل عن يسارك ثلاثًا، وتعوذ بالله منه قال عثمان : ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني [6].
هذا علاج عظيم أرشد إليه المصطفى ، يغفل عنه كثير من الناس، متى ما وجدت الوساوس في الصلاة، تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى وإن كنت قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا، أو في أي موضع من صلاتك، فهذه الاستعاذة لا تضر؛ لأنها ليست من جنس كلام الآدميين، وإنما هي من جنس ذكر الله ، فهي التجاء إلى الله سبحانه، واعتصام بالله بأن يعيذك من الشيطان الرجيم، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200] فأنت تقول: يا ربي، أعذني من هذا الشيطان الذي يريد أن يُلبّس علي صلاتي، حتى لا أخشع فيها، هذا علاج عظيم يغفل عنه كثير من الناس، إذا وجدت أن الوساوس هجمت عليك في الصلاة، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وستجد أن الوساوس تنقشع عنك مباشرة، وتذهب عنك تلقائيًّا، لكن ربما يعود الشيطان الرجيم مرة ثانية، فإذا عاد فتعوذ بالله منه، وهكذا. - أيضًا من الأسباب التي تعين على تحقيق الخشوع في الصلاة أن يتدبر المصلي معاني ما يقول عندما يُكبّر، يقول: الله أكبر، يتأمل هذه الكلمة العظيمة، أن الله أكبر من كل شيء، ويستحضر عظيم مقام المناجاة، أن المصلي يناجي ربه، أنت تناجي ربك ؛ ولهذا الله تعالى يخاطب المصلي إذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال العبد: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله: مجدني عبدي، وإذا قال العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين، وإذا قال العبد: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ… قال الله: سألني عبدي، ولعبدي ما سأل [7] فاستحضر هذا المقام العظيم.
فينبغي -أيها الإخوة- أن نحرص على تحقيق الخشوع في الصلاة، وأن نستحضر أن الصلاة الخاشعة قد ورد فيها الأجر العظيم، والثواب الجزيل، وهي التي ترفع صاحبها عند الله تعالى درجات، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2].
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من هؤلاء المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون، ويستعملنا جميعًا في طاعته، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى من الأقوال والأعمال.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.