logo
الرئيسية/محاضرات/حجة الوداع أحكام وآداب

حجة الوداع أحكام وآداب

مشاهدة من الموقع

عناية العلماء بحديث جابر في الحج

في الحج نجد أنه عند اختلاف الروايات يُرجِّح كثيرٌ من المُحققين أحاديث جابرٍ على غيرها؛ لأنه عُنِيَ بضبط حَجَّة النبي .

وساق الإمام مسلم رحمه الله في “صحيحه” حديث جابرٍ الطويل [1]، وعُنِيَ العلماء به، وصنَّفوا في شرحه مُصنَّفاتٍ، وممن فعل ذلك: ابن المنذر رحمه الله، فقد صنَّف مصنفًا في شرح هذا الحديث.

قال النووي رحمه الله عن حديث جابرٍ : “هو حديثٌ عظيمٌ مُشتملٌ على جُمَلٍ من الفوائد، ونفائسَ من مُهِمَّات القواعد، وهو من أفراد مسلم، لم يَرْوِه البخاريُّ في صحيحه”.

سبب تأخر حج النبي

مكث النبيُّ تسع سنين لم يَحُجَّ، مع أن الحجَّ فُرِض في السنة التاسعة، لكنه لم يحج في تلك السنة؛ وذلك لأنه أراد أن يكون الحج خالصًا من عقائِدِ وشوائبِ المشركين، فقد كانت للمشركين عقائد؛ كانوا -مثلًا- يقفون بمزدلفة، ولا يقفون بعرفة، وهم من قريش، وكانوا أيضًا يطوفون بالبيت عُراةً إلا إذا أتاهم أحدٌ من الحُمْسِ من قريش وأعطاهم ثوبًا، فقد كان الرجل والمرأة يطوفون عُراةً! وكانت المرأة تقول:

اليوم يَبْدُو بعضه أو كله فما بَدَا منه فلا أُحِلُّه

وأنزل الله ​​​​​​​ في ذلك قوله: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً وهي الطواف بالبيت عُراةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28]، فأرسل النبي أبا بكر الصديق أميرًا على الحج في السنة التاسعة من الهجرة، وبعث معه أبا هريرة ، وأمرهم أن يُنادوا في الناس يومَ الحجِّ الأكبر -وهو يوم النحر-: ألا يَحُجَّ بعد العام مُشركٌ، ولا يطوف بالبيت عُريان [2]، فأبطل النبي  تلك العقائد.

خروج النبي وأصحابه للحج

ثم في السنة العاشرة من الهجرة أذَّن النبيُّ في الناس -يعني: أخبرهم- بأنه سيَحُجُّ في ذلك العام؛ ولهذا يقول جابرٌ :

مكث -النبي – تسع سنين لم يَحُجَّ، ثم أذَّن في الناس في العاشرة: أنَّ رسول الله حاجٌّ، فقَدِمَ المدينة بشرٌ كثيرٌ كلهم يلتمس أن يَأْتَمَّ برسول الله .

كلهم يريد أن يتأسَّى بالنبي في حَجَّته، فهي فرصةٌ عظيمةٌ: أن يَحُجَّ مع النبي ويتأسَّى به ويقتدي؛ ولذلك يُقال: إن عدد الذين حَجُّوا مع النبي مئةُ ألفٍ، مع أن الصحابة -كما ذكر ابن حزمٍ وغيره- مئةُ ألفٍ وأربعة عشر ألفًا، فمعنى ذلك: أن أكثر من ثلثي الصحابة حجَّ مع النبي .

فسار عليه الصلاة والسلام، وكان خروجه من المدينة يوم السبت الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة من السنة العاشرة من الهجرة، فصلى في مسجده عليه الصلاة والسلام صلاة الظهر، وقد تهيَّأ قبل ذلك، ولبس إزارًا ورداءً، وصلى صلاة الظهر أربع ركعاتٍ، وبيَّن للناس شيئًا من أحكام الإحرام.

ولاحظ هنا: أنه عليه الصلاة والسلام صلى في المدينة وهو قد تهيأ واستعدَّ ولَبِسَ لباس السفر، ومع ذلك لم يترخص برُخَص السفر، وإنما صلى أربع ركعاتٍ.

يُستفاد من هذا: أن المسافر ليس له التَّرخص برُخَص السفر حتى -كما يقول الفقهاء- يُفارق عامِرَ بلدته، وأما مُجرَّد الاستعداد فهذا ليس مُبررًا للترخُّص، مجرد أنك تستعد للسفر ليس مُبررًا لأن تترخص برُخَص السفر، فالنبي عليه الصلاة والسلام استعدَّ للسفر ولبس لباس السفر، ومع ذلك صلى أربع ركعاتٍ في المدينة.

ثم سار بعد صلاة الظهر إلى ميقات أهل المدينة؛ وهو ذو الحُلَيفة، وهو قريبٌ من المدينة، والآن أحاط به عُمران المدينة، وصل إليه عمران المدينة، بل وتجاوزه، فوصل قبل صلاة العصر، فنزل في ذي الحُلَيفة بوادي العَقِيق، ويُسمى “أبيار علي”، وصلى صلاة العصر ركعتين؛ لأنه بدأ في السفر، وفارق العُمْران.

ولادة أسماء بنت عُمَيسٍ في الميقات

وفي ذي الحُلَيفة ولدتْ أسماءُ بنت عُميسٍ رضي الله عنها، زوجة أبي بكر الصديق .

وسبحان الله! قدَّر اللهُ تعالى في تلك الحجة أنَّ امرأةً تلد، وإحدى أزواجه -وهي عائشة رضي الله عنها- تحيض، وزوجة أخرى من زوجاته -وهي صفية رضي الله عنها- تحيض؛ وذلك لأجل أن تستفيد الأمة من الأحكام: كيف يتعامل النبي مع هؤلاء النِّسوة؟ فهذا من حكمة الله ​​​​​​​.

زوجات أبي بكر الصديق

أسماء بنت عُمَيْس هذه هي زوجةُ أبي بكرٍ الصديق ، فأبو بكر الصديق تزوَّج أربع زوجاتٍ:

الأولى: أم عبدالله، وأم أسماء؛ قتيلة بنت عبدالعُزَّى، وهذه طلَّقها في الجاهلية، وهي التي وردتْ في قصة أسماء، فقالت: قَدِمَتْ إليَّ أمي وهي مُشركةٌ، راغبةٌ، يعني: أتت بهديةٍ، وتريد أن تُعطيها أسماءُ هديةً مثلها أو أفضل، فسألتْ أسماءُ النبيَّ : أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قال: نعم، صِلِي أُمَّكِ [3] أخرجه البخاري في “صحيحه”.

وزوجته الثانية هي: أم رُومان، وهي أم عبدالرحمن وعائشة، أسلمتْ وتوفيتْ في السنة السادسة من الهجرة.

وزوجته الثالثة هي: أسماء بنت عُميس التي معنا في هذه القصة، وهي من المُهاجرات الأوائل، وكان زوجها هو جعفر بن أبي طالب ، واستُشهد في غزوة مُؤْتَة، ثم بعد أن اعْتَدَّت تزوَّجها أبو بكر الصديق ، فولدتْ له في ذي الحُلَيفة في حجة الوداع: محمد بن أبي بكر الصديق.

ثم إن أبا بكر الصديق أيضًا تزوج حبيبة بنت خارجة بن زيد، وأنجبتْ أم كلثوم بنت أبي بكر بعد وفاته، وهي التي وردتْ في قصة عائشة رضي الله عنها: لما حَضَرَتْ أبا بكر الوفاةُ نادى أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقال لها: “يا بُنيَّة، كنتُ قد وهبتُكِ عشرين وَسَقًا من مالي بالغابة، فلو كُنتِ قد حُزْتِيه لكان لَكِ، وإنما هو اليوم مالُ وارثٍ، وإنما هما أَخَوَاكِ وأُختاك”، قالت عائشة رضي الله عنها: “قلتُ: ليس لي إلا أختٌ واحدةٌ؛ أسماء، فمَن هي الأخت الثانية؟! قال: بنت خارجة، لا أُراها إلا جاريةً” [4]، يعني: زوجتَه بنتَ خارجة بن زيد؛ كانت حاملًا، فقال أبو بكر : إني أرى أن هذا الحمل أنثى، وليس ذكرًا.

كيف عرف أبو بكر أن زوجته حَمَلَتْ بأنثى وليس ذكرًا؟!

يحتمل أنه رأى رؤيا، ويحتمل -وهو الغالب- أنها فِرَاسةٌ من أبي بكر ؛ لأن أبا بكر الصديق كان من أعظم الصحابة فِرَاسةً، فعنده من الذكاء والفهم والفراسة ما جعله يعرف أن زوجته تحمل أنثى؛ ولهذا قال: “لا أُراها إلا جاريةً”، يعني: أنثى، وبالفعل ولدتْ زوجتُه حبيبةُ: أمَّ كلثوم بعد وفاته .

فضل وادي العَقِيق

بقي النبي في ذي الحُلَيفة ذلك اليوم، وصلَّى صلاة العصر، ثم قال: أتاني الليلة آتٍ من ربي، فقال: صَلِّ في هذا الوادي المُبارَك يعني: وادي العَقِيق، وقل: عُمرةٌ في حَجَّةٍ يعني: أنه يَحُجُّ قارنًا [5].

فصَلَّى المغربَ والعشاء والفجر، ثم بعدما صلَّى الفجر رَكِبَ ناقته القصواء، وقد لَبِسَ إزارًا ورداءً، ولم يُحْرِم بعد.

التَّلبية في الحج

يقول جابرٌ :

حتى إذا استَوَتْ … على البَيْداء … فأَهَلَّ بالتوحيد.

ومعنى ذلك: أن إهلال النبي كان بعدما استوى على راحلته، وهذا يدل على أن السُّنَّة في الإهلال أن يكون بعد الاستواء على الراحلة، وليس قبلها، يعني: ليس -مثلًا- في المسجد، أو في البيت، وإنما بعدما تركب الراحلة.

والراحلة في وقتنا الحاضر مثل: السيارة أو الطائرة، فلو كنتَ -مثلًا- ذهبتَ للميقات، واغتسلتَ في مغاسل الميقات، وصليتَ في المسجد، فالأفضل أنك لا تُحرم إلا بعدما تركب السيارة؛ لأن هذا هو هدي النبي .

قال:

فأَهَلَّ بالتوحيد.

سمَّى جابرٌ  تلبيةَ النبيِّ : التوحيد؛ لأن فيها إخلاصًا لله ​​​​​​​ وتوحيدًا.

لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريكَ لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والمُلْك، لا شريكَ لك.

فهي تلبيةٌ عظيمةٌ غلب عليها التوحيد والإخلاص لله ​​​​​​​؛ ولهذا قال جابرٌ : “فأَهَلَّ بالتوحيد”.

وجعل الناس يُلَبُّون ويزيدون، والنبيُّ ساكتٌ، لا يُنكِر عليهم.

ومما ورد في ذلك: أن عمر كان يزيد: “لبيك ذا النَّعْماء والفضل” [6].

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: “لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك لبيك، والرَّغْباء إليك والعمل” [7].

وكان أنسٌ يقول: “لبيك حَجًّا حقًّا، تعبُّدًا ورِقًّا” [8]، وهذا قد رُوي مرفوعًا [9].

فأيُّهما أفضل: الاقتصار على تلبية النبي ، أو الإتيان بهذه الزيادات الواردة عن الصحابة ؟

القول الراجح: أن الأفضل هو الاقتصار على تلبية النبي ؛ لأن هَدْيَه أكملُ الهَدْي، لكن مَن أتى بهذه الزيادات فلا يُنْكَر عليه؛ لأن النبيَّ أقرَّ الصحابةَ عليها.

بعدما أهلَّ النبي سار على ناقته، والناسُ كُثُرٌ على يمينه ويساره، ومن أمامه، ومن خلفه، بشرٌ كثيرٌ، كما قلنا: حجَّ معه قُرابة مئة ألفٍ.

لك أن تتخيل هذا العدد الضخم، وإن كان بعضهم قد أتى إلى النبي من مكة، لكن الأكثر حَجُّوا مع النبي  من المدينة.

أقل مسافةٍ للسفر

مكث في الرحلة من المدينة إلى مكة عشرة أيام، مع أن المسافة أربعمئة كيلو متر، الآن يقطعها المسافرون بالسيارة في أربع ساعاتٍ، فنحمد الله ​​​​​​​ على التيسير، والله تعالى قال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، وقد خلق الله ما لا يعلم الأوائل؛ خلق الله هذه السيارات، والطائرات، ونحوها من المركبات الحديثة.

نستفيد من هذا فائدةً من اللطائف التي قد لا تجدها في كتابٍ، وهي: أن النبيَّ مَكَثَ في الرحلة من المدينة إلى مكة عشرة أيامٍ لمسافة أربعمئة كيلو متر، معنى ذلك: كم كيلو متر يقطع في اليوم لمسافة أربعمئة كيلو متر؟

الجواب: يقطع أربعين كيلو مترًا، وهذا يدلُّ على أن أقلَّ مسافةٍ للسفر هي ثمانون كيلو مترًا؛ لأن الفقهاء قالوا: إن أقلَّ مسافةٍ للسفر هي مسيرةُ يومين، بل جاء هذا في قول النبي : لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤمِن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يومٍ وليلةٍ إلا مع ذي مَحْرمٍ [10]، واليوم والليلة واليومان -يعني: بِسَيْر الإبل المُحَمَّلة- تُعادِل ثمانين كيلو مترًا.

فهذا يدلُّ على أن أقلَّ مسافةٍ للسفر هي ثمانون كيلو مترًا.

هذه الفائدة استنبطتُها من هذا الحديث، فهي فائدةٌ عزيزةٌ، قد لا تجدها في كتابٍ.

الطواف بالكعبة

وصل النبيُّ إلى مكة يوم الأحد في الرابع من ذي الحجة من السنة العاشرة من الهجرة، فلما وصل قصد مباشرةً المسجد الحرام.

استلم الرُّكْن.

الحجر الأسود، وقَبَّله، ثم:

رَمَلَ ثلاثًا.

ثلاثة أشواطٍ.

ومشى أربعًا.

أربعة أشواطٍ، ولكن الناسَ أحاطوا به، عددٌ كبيرٌ، كلهم يريد أن يقترب من النبي ويراه ويُشاهده، ويقتدي به، ويتأسَّى به، فأحاط الناسُ بالنبيِّ ، وفي أثناء الطواف دعا النبيُّ بأن يُؤْتَى ببعيره، فرَكِبَ بعيره وأكمل الطوافَ على بعيره؛ لأنَّ الناس قد غَشَوه.

فطاف سبعة أشواطٍ، وبعد ذلك:

نَفَذَ إلى مقام إبراهيم ، فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].

وهذا يدلُّ على أن قراءتها سُنَّةٌ بعد الفراغ من الطواف، وهذه أيضًا من اللطائف ومن الفوائد التي ربما تخفى على كثيرٍ من الناس، فإذا فَرَغْتَ من الطواف وذهبتَ إلى مقام إبراهيم تقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى.
وصلَّى خلف المقام ركعتين، قرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بـقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون]، وفي الثانية بعد الفاتحة بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص].

ثم رجع إلى الرُّكْن.

الحَجَر الأسود.

فاستلمه.

ثم ذهب إلى المَسْعَى.

وهذه أيضًا سُنَّةٌ: أنه بعد صلاة الركعتين يذهب إلى الحجر ويستلمه.

والآن أكثر الحُجَّاج لا يتيسر لهم استلام الحجر، فيكتفي بالإشارة والتكبير، وعندما يُحاذي الحجر الأسود يقول: “الله أكبر”.

جاء في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي كلما حاذى الحَجَر كَبَّر [11].

على ذلك، فكم عدد التكبيرات؟

الطواف سبعة أشواطٍ، وكلما حاذى الحَجَر الأسود كبَّر.

معنى هذا: أن عدد التكبيرات ثمانٍ، وليست سبعًا؛ لأنه سيُكبِّر في أول الشوط الأول، ثم في نهايته، وفي بداية الشوط الثاني، ثم في نهايته، وفي بداية الشوط الثالث، إلى أن يفرغ من الشوط السابع سوف يُكبِّر؛ لأنه حاذى الحجر الأسود.

هذا هو القول الراجح من قولي العلماء في هذه المسـألة، فقد اختلف فيها العلماء: هل يُشرع التكبير في نهاية الشوط السابع أو لا يُشرع؟

فمَن نظر إلى أن التكبير يُشرع عند بداية كل شوطٍ قال: لا يُشرع التكبير في نهاية الشوط السابع.

ومَن نظر إلى أن التكبير إنما يُشرع لأجل مُحاذاة الحجر رأى أنه يُشرع التكبير عند نهاية الشوط السابع.

والقول الراجح هو القول الثاني؛ لحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: كلما حاذى الحَجَر كَبَّر [12].

وعلى ذلك يكون عدد التكبيرات مع الإشارة سبع مراتٍ.

السعي بين الصفا والمروة

ثم ذهب بعد ذلك إلى المَسْعَى، وكان المَسْعَى خارج المسجد الحرام، وقد اتَّصل الآن بالمسجد الحرام.

فلما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، أبدأ بما بدأ الله به.

وهذه أيضًا من السُّنن: أنك إذا دَنَوْتَ من الصفا تقول: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، أبدأ بما بدأ الله به.

وقد وردتْ في عدة رواياتٍ: أبدأ بما بدأ الله به رواية مسلمٍ، ووردتْ: ابدؤوا بما بدأ الله به [13]، ووردتْ: نبدأ بما بدأ الله به [14].

والأقرب -والله أعلم- هي رواية مسلمٍ، كما في حديث جابرٍ هنا: أبدأ بما بدأ الله به، لكن هل تُكمل الآية: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ أو لا؟

محلُّ خلافٍ بين أهل العلم، والراجح أنها لا تُكمل؛ لأن النبي لو أكملها لنَقَل ذلك جابرٌ والصحابة.

وقد سمعتُ شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله يقول: “الأقرب للسُّنَّة أنك لا تُكْمِلها، وإنما تقول: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، أبدأ بما بدأ الله به“.

قال جابرٌ :

فبدأ بالصفا، فَرَقِيَ عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة.

وهذا يدلُّ على أن السُّنَّة عندما تأتي إلى الصفا أن تستقبل الكعبة.

فوحَّد اللهَ وكبَّره.

تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ.

لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

قال:

ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مراتٍ.

يعني: أتى بهذا الذِّكر ثلاث مراتٍ.

هنا يقول جابرٌ : “ثم دعا بين ذلك”، معنى ذلك: هل الدعاء ثلاث مراتٍ أو مرتين؟

نتأمل الحديث: أتى بهذا الذكر ثلاث مرَّاتٍ:

  • الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.
  • الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
  • لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ.
  • لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

أتى بهذا ثلاث مراتٍ، لكنه دعا بينها، فإذا كان ذلك فمعناه: أن الدعاء يكون مرتين فقط، وليس ثلاث مراتٍ؛ لأنه عندما يأتي بهذا الذكر يدعو، ثم يأتي بهذا الذكر، ثم يدعو، ثم يأتي بهذا الذكر.

وهذا هو القول الراجح: أن الذِّكرَ يُؤتَى به ثلاث مراتٍ، ويكون الدعاء مرتين فقط.

قال جابرٌ :

ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبَّتْ قَدَماه في بطن الوادي سَعَى، حتى إذا صَعِدَتا مَشَى.

بطن الوادي هو: ما بين العَلَمَين الأخضرين، وفي زمن النبي كان واديًا، فكان إذا أتى هذا الوادي أسرع إسراعًا شديدًا.

ويقال: إن هاجر أم إسماعيل عليهما السلام لما عَطِشَ ابنها إسماعيل، ووجدتْ أن جبل الصفا أقرب جبلٍ إليها؛ صَعِدَت الصَّفا وهي مُلتفتةٌ إلى ابنها تُراقبه، فلما نزلتْ في الوادي أسرعتْ؛ لأنها لما نزلتْ في الوادي أصبحتْ لا ترى ابنها.

قيل: إن هذه هي الحكمة، والله أعلم.

وقد دُفن هذا الوادي، وأصبحت علامةُ ذلك علمين أخضرين، الأنوار الخضراء الآن.

العجيب أن العَلَمَين الأخضرين ذُكرا في كلام الفقهاء السابقين، حتى إن الموفَّق ابن قُدامة المتوفى سنة 620هـ قال: “الميلان الأخضران”، يعني: منذ ذلك الزمن كانا عَلَمَين أخضرين.

قال:

حتى إذا أتى المَرْوة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا.

يعني: من الإتيان بالذِّكر والدعاء.

وهذه السنن ينبغي للمُعتمر والحاجِّ ألا يُخِلَّ بها، وأن يحرص عليها.

نسك النبي في الحج

قال:

حتى إذا كان آخر طوافه على المروة.

يعني: في آخر الشوط السابع.

فقال: لو أني اسْتَقْبَلْتُ من أمري ما اسْتَدْبَرْتُ لم أَسُقِ الهَدْي، وجعلتُها عمرةً، فمَن كان منكم ليس معه هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وليجعلها عُمرةً.

حجَّ النبي قارِنًا؛ ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: “لا أشك أن النبي كان قارنًا”، لماذا؟ لماذا كان قارنًا؟

لأنه قد ساق الهدي، ومَن ساق الهدي يجب في حقِّه القِرَان.

دخول العمرة في الحج

أما بقية الصحابة فخيَّرهم النبي في أول الأمر بين ثلاثة أنساكٍ: التَّمتُّع، والإفراد، والقِرَان، وأمر مَن ساق الهَدْي أن يكون قارنًا، لكن مَن لم يَسُقِ الهَدْي خيَّرهم بين هذه الأنساك الثلاثة، فحثَّهم على التمتع، وقال: إنه هو الأفضل. في أول الأمر، ثم لما اقترب من مكة أكَّد لهم ذلك، ثم لما فرغوا من السعي ألزمهم بأن يقلبوا النُّسك إلى تمتُّعٍ.

وكان الصحابة في ذلك الوقت لديهم المعتقد السائد عند أهل الجاهلية، وهو: أن العُمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فاستغرب الصحابة وقالوا: يا رسول الله، كيف نأخذ عمرةً ونتحلَّل كما يفعل غير المُحرم؟! حتى قال بعضهم: كيف يا رسول الله نفعل ذلك ومَذَاكِيرنا تَقْطُر منيًّا؟!

يقصد أنه إذا أتى بعمرةٍ سيتحلَّل التَّحلُّل الكامل، وهذا خلاف ما كانوا يعتقدون.

قال : افعلوا ما آمركم به، قالوا: يا رسول الله، أيُّ الحِلِّ؟ قال: الحِلُّ كله [15].

فقام سُراقة بن مالك بن جُعْشُمٍ فقال: يا رسول الله، أَلِعَامنا هذا أم لأَبَدٍ؟ فشَبَّكَ رسول الله أصابعه واحدةً في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحجِّ مرتين لا، بل لأبد أبدٍ.

فألزمهم النبي بأن يقلبوا النُّسَك -مَن كان مُفردًا ومَن كان قارِنًا- إلى أن يكونوا مُتمتعين.

واختلف العلماء في هذه المسألة اختلافًا كثيرًا، والقول الراجح هو ما اختاره الإمام ابن تيمية رحمه الله، وهو: أن هذا كان واجبًا في حقِّ الصحابة فقط، وأما في حقِّ غيرهم فليس بواجبٍ، وأن غيرهم مُخَيَّرون بين الأنساك الثلاثة، وإنما أوجب النبي  على الصحابة لأجل إبطال المعتقد الجاهلي، وهو: أن العمرة في الحج من أفجر الفجور.

هذا هو القول الراجح الذي اختاره ابن تيمية وجمعٌ من المُحققين من أهل العلم.

ومما يدل لذلك: أن النبي ذكر عيسى ابن مريم ، وأنه يأتي في آخر الزمان، وذكر الأنساك الثلاثة وقال: والذي نفسي بيده، لَيُهِلَّنَّ ابن مريم بِفَجِّ الرَّوحاء حاجًّا، أو مُعتمرًا، أو ليُثَنِّيَنَّهما [16] هذا في “صحيح مسلم”.

وهذا يدلُّ على عدم نسخ الإفراد والقِرَان، وإن كان طائفةٌ من أهل العلم قالوا بأن الإفراد والقِرَان قد نُسِخَا، وأن الحاجَّ يجب عليه التمتع إلا لمَن ساق الهَدْي، وهذا مَرْوِيٌّ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما [17]، وأيضًا اختاره ابن القيم رحمه الله ونصره.

والقول الرَّاجح: أن هذا خاصٌّ بالصحابة، وأن مَن عداهم مُخيَّرٌ بين الأنساك الثلاثة: التمتع، والإفراد، والقِرَان.

هذه خلاصةٌ للخلاف الكثير في المسألة.

قدوم عليٍّ من اليمن

قال:

وقَدِمَ عليٌّ من اليمن بِبُدْن النبي .

وكان قد بعثه النبي  للدعوة إلى الله ​​​​​​​ في اليمن، وأسلمتْ على يده قبيلةُ حَمْدان، وكان  يبعث الدعاة إلى الله ​​​​​​​ ليُعلِّموا الناس دينهم، وينشروا دين الإسلام، فقَدِمَ من اليمن ومعه إبلُ النبي ، فلما قَدِمَ وجد زوجته فاطمة رضي الله عنها ممن حلَّ، يعني: أتى بعمرةٍ وتحلَّل.

فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حَلَّ، ولَبِسَتْ ثيابًا صَبِيغًا، واكتحلتْ، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إنَّ أبي أمرني بهذا.

تعني: رسول الله .

قال: فكان عليٌّ يقول بالعراق: فذهبتُ إلى رسول الله مُحَرِّشًا على فاطمة للذي صنعتْ، مُسْتَفْتِيًا لرسول الله فيما ذكرتْ عنه … فقال: صدقتْ، صدقتْ.

لاحظ هنا: كيف أن النبي لما أراد أن يُبطل هذا المُعتقد أخذ هذا منه جُهدًا كبيرًا؟

وهذا يدلُّ على أن إبطال المُعتقدات لدى الناس ليس بالأمر الهين، فما أَلِفَه الناسُ واعتقدوه ورَسَخَ في نفوسهم ليس من الأمر الهين إبطالُه وتغييره.

ولهذا لاحظ: كيف أن النبي بذل جُهدًا كبيرًا في إبطال هذا المُعتقد؟

أولًا: أمرهم حين الإحرام، ثم حينما اقتربوا من مكة، ثم أمرهم أَمْرَ إلزامٍ بعد الفراغ من السَّعْي، وحصل بينه وبينهم حوارٌ، فقالوا: يا رسول الله، كيف نفعل هذا؟ أهو الحِلُّ كله؟! قال: نعم، الحِلُّ كله، فقالوا: هل لأَبَدِ الأبد؟ قال: لأَبَدٍ أَبَدٍ [18].

ثم لما أتى عليٌّ أيضًا حصلت هذه المُحاورة بينه وبين زوجته فاطمة رضي الله عنها، ومع ذلك ذهب وتأكَّد من النبي من صحة ما ذكرتْ فاطمةُ رضي الله عنها.

فهذا يدلُّ على أن المُعتقدات إذا رسختْ في نفوس الناس، فإنها تحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ في تغييرها، هذا مع الصحابة ، فما بالك بغيرهم؟!

وتحقَّق ما قصده النبيُّ من إبطال هذا المُعتقد.

النُّسُك الذي أحرم به عليٌّ

ثم إن النبي سأل عليًّا، قال: بِمَ أهلَلْتَ؟ [19].

ماذا قلتَ حين فَرَضْتَ الحجَّ؟ قال: قلتُ: اللهم إني أُهِلُّ بما أَهَلَّ به رسولُك. قال: فإنَّ معي الهَدْي، فلا تَحِلّ.

وهذا يدل على ذكاء عليٍّ ، وقوة فهمه، وحُسن استنباطه؛ فإنه لما أتى للميقات قال: “اللهم إني أُهِلُّ بما أَهَلَّ به نبيُّك “، فأقره النبي على هذا التصرف؛ ولذلك لو أن أحدًا عندما يأتي الميقات قال: “اللهم إني أُهِلُّ بما أَهَلَّ به الشيخ الفلاني” لشيخٍ يثق فيه وفي علمه وفي تَحَرِّيه للسُّنَّة؛ فإن هذا يصح.

قال: فكان جماعة الهَدْي الذي قَدِمَ به عليٌّ من اليمن، والذي أتى به النبيُّ مئةً.

قال: فَحَلَّ الناسُ كلهم وقَصَّروا إلا النبي ومَن كان معه هَدْيٌ.

يعني: أنه أمر كلَّ مَن لم يكن معه هَدْيٌ أن يأتي بعمرةٍ ويتحلَّل، أما مَن كان معهم هَدْيٌ فقد بقوا على إحرامهم؛ لأن المُفرِد والقارِن ليس لهم التَّحلُّل، بل يَبْقَيَانِ مُحْرِمَيْن إلى يوم النحر حتى يَرْمِيَا الجمرة ويَحلِقا رؤوسهما، بخلاف المُتمتع، فالمُتمتع يطوف ويسعى، ويحلق أو يُقصر، ويتحلَّل إلى أن يأتي وقت الحج.

التَّوجه إلى مِنًى يوم التروية

قال:

فلما كان يوم التَّروية.

أقام النبيُّ بعد ذلك.

قلنا: كان قدومه يوم الأحد، الرابع من شهر ذي الحجة، فلما طاف وسعى لم يتحلَّل؛ لأنه كان قارنًا، والصحابة الذين كانوا مُتمتعين تحلَّلوا.

أقام بالأبطح -والأبطح: مكانٌ معروفٌ في مكة- بقية اليوم الرابع من ذي الحجة، والخامس والسادس والسابع إلى ضُحَى اليوم الثامن من شهر ذي الحجة من السنة العاشرة، فلما كان ضُحَى اليوم الثامن، وهو يوم التَّرْوية، وكان ذلك هو يوم الخميس؛ يقول جابرٌ :

فلما كان يوم التَّرْوية توجَّهوا إلى مِنًى.

يعني: توجَّه النبيُّ والصحابةُ ضُحَى ذلك اليوم إلى مِنًى.

قال:

فأَهَلُّوا بالحَجِّ.

الذين أَهَلُّوا بالحج هم المُتمتعون، وأما مَن كان قارنًا أو مُفردًا فقد استمرَّ على إحرامه؛ ولذلك فالمُستحبُّ أن يُهِلَّ بالحج ضُحَى يوم التَّروية.

قال:

ورَكِبَ رسول الله ، فَصَلَّى بها.

أي: بمِنًى.

الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر.

وهذه هي السُّنة: أن الحاجَّ في يوم التروية يُصلي الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والمغرب ثلاثًا، والعشاء ركعتين، والفجر ركعتين، إلا مَن كان من أهل مكة؛ فإن هؤلاء يُتِمُّون عند جمهور الفقهاء.

والآن اتصلت مِنًى بمكة، لكن مَن لم يكن من أهل مكة فإنهم يقصرون، السُّنَّة: القصر من غير جَمْعٍ.

الوقوف بعرفة

قال:

ثم مَكَثَ قليلًا.

يعني: بات ليلةَ عرفة في مِنًى، وصلى بها الفجر.

حتى طَلَعَتِ الشمس.

يعني: شمس يوم عرفة.

وأمر بقُبَّةٍ من شَعَرٍ تُضرب له بنَمِرَة.

كان النبي معه مَن يخدمه من العبيد وغيرهم، فأمرهم أن يذهبوا إلى نَمِرَة ويتقدَّمُوه، ويضربوا قُبَّةً من شعرٍ، يعني مثل: الخيمة أو بيت الشعر، ففعلوا.

فسار رسول الله .

يعني: من مِنًى.

ولا تَشُكُّ قريشٌ إلا أنه واقفٌ عند المَشْعَر الحرام كما كانت قريشٌ تصنع في الجاهلية.

لما سار النبي من مِنًى، طبعًا سيَمُرُّ بمُزدلفة ثم عرفة، هذا هو الترتيب، فكانت قريشٌ تعتقد أن النبي سيقف في مُزدلفة، ولن يقف في عرفة؛ لأن قريشًا كانت تفعل ذلك، وكانوا يقولون: نحن أهلُ الحرم، فلا نخرج منه، وعرفة من الحِلِّ، ومُزدلفة من الحرم.

فكانوا يعتقدون أن النبي -وهو من قريشٍ، ومن الحُمْس- كان سيقف في مُزدلفة، لكنه لم يقف في مُزدلفة، بل أجاز حتى نزل وذهب إلى عرفة.

قال:

حتى أتى عرفة، فوجد القُبَّة قد ضُرِبَتْ له بنَمِرَة.

“نَمِرَة” قريةٌ صغيرةٌ قبل عرفة.

فنزل بها.

نزل بنَمِرَة، لعل ذلك من باب الاستعداد للوقوف، فإذا تيسَّر للحاجِّ ذلك كان هذا هو الموافق لهدي النبي .

قال:

حتى إذا زَاغَت الشمس.

يعني: زالت الشمس.

أمر بالقَصْواء فَرُحِلَتْ له، فأتى بطن الوادي.

يعني: وادي عُرَنَة الذي بمكانه الآن المسجد -مسجد نَمِرَة- فوجد الناس مُجتمعين.

خطبة النبي في عرفة

فخطب الناسَ.

بدأ بالخُطبة قبل الصلاة، خطب في الناس خطبةً عظيمةً مُختصرةً، ليست بطويلةٍ، لكنها عظيمةٌ في معانيها.

وذكر جابرٌ في هذا الحديث العظيم جزءًا مما قاله النبي في هذه الخطبة، قال:

وقال: إنَّ دماءكم وأموالكم حرامٌ عليكم كحُرْمَة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.

بدأ هذه الخطبة بتعظيم حُرمة الدماء والأموال والأعراض، قال:

ألا كل شيءٍ من أمر الجاهلية تحت قَدَمَيَّ موضوعٌ، ودماء الجاهلية موضوعةٌ.

أبطل ما كان من أمر الجاهلية.

ثم قال :

وربا الجاهلية موضوعٌ.

أبطل أيضًا ربا الجاهلية.

ثم أوصى بالنساء فقال:

فاتَّقوا الله في النساء.

وهذا يدلُّ على أهمية هذا الموضوع؛ موضوع حقوق الزوجين، ومُعاشرة الزوجة؛ لأن النبي ذكره في هذه الخطبة العظيمة، والتي حضرها هذا العدد الكبير، وهو أكبر مجمعٍ في عهده .

قال:

فإنكم أَخَذْتُموهن بأمان الله، وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهنَّ بكلمة الله.

فأوصى بالنساء خيرًا.

ولكم عليهنَّ ألا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه …، ولهن عليكم رزقهنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف.

ذكر حقوق الزوجين: من النفقة، والمُعاملة الحسنة، والمُعاشرة.

ثم بعد ذلك قال:

تركتُ فيكم ما لن تَضِلُّوا بعده إن اعْتَصَمْتُم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بَلَّغْتَ وأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ. فقال بإصبعه السَّبَّابة يرفعها إلى السماء ويَنْكُتُها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد.

نشهد أنه قد نَصَح، وبلَّغ، وأدَّى؛ بلَّغ الرِّسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة.

فصلوات الله وسلامه عليه، وجزاه عن أُمَّته خير الجزاء.

صلاة الظهر والعصر في عرفة

ثم أمر المُؤذِّن فأذَّن أذانًا واحدًا وإقامتين: إقامةً للظهر، وإقامةً للعصر.

ثم أقام فصلَّى الظهر.

صلى الظهر ركعتين، مع أنه وافق يوم جُمُعةٍ؛ وافق يومُ عرفة يومَ جُمُعةٍ، ومع ذلك صلى النبي الظهر ركعتين.

ثم أقام فصلَّى العصر.

يعني: ركعتين.

ولم يُصَلِّ بينهما شيئًا.

أي: أنه صلَّى الظهر والعصر وجمع بينهما جَمْعَ تقديمٍ؛ الظهر ركعتين، والعصر ركعتين.

والحكمة من ذلك -والله أعلم- حتى يتسع وقت الوقوف والدعاء.

بعد ذلك يقول جابرٌ :

ثم رَكِبَ رسول الله حتى أتى الموقف.

يعني: سار إلى شرق عرفات؛ آخر عرفة من جهة الشرق، وأتى إلى الجبل؛ جبل إِلَال، ويُسميه الناس: جبل الرحمة.

الدعاء في عرفة

قال:

فجعل بطن ناقته القَصْواء إلى الصَّخَرات، وجعل حبل المُشاة بين يديه، واستقبل القبلة.

يعني: استقبل الجبل، واستقبل القبلة، وجعل الناسُ يمشون بين يديه.

فلم يَزَلْ واقفًا.

يعني: أناخ ناقته، ولم تكن هناك خيمةٌ، وإنما أناخ ناقته عند الجبل، والناسُ تمر بين يديه.

فجعل يدعو وهو مستقبل القبلة، رافعٌ يديه، يدعو طيلة الوقت، فمع أنه وقتٌ طويلٌ، بعد أن صلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا إلى غروب الشمس. كم ساعة استغرقها؟

قُرابة ستِّ ساعاتٍ، وقتٌ طويلٌ.

هذا الوقت كله خصَّصه النبيُّ للدعاء؛ ولهذا فإن أفضل شيءٍ يفعله الحاجُّ يوم عرفة هو الدعاء.

فسبحان الله!

جعل يدعو وهو على ناقته، رافعٌ يديه، يدعو طيلة الوقت، والصحابة ينظرون، حتى إن الصحابة شَكُّوا وقالوا: لعله كان صائمًا، ما أكل، وما شرب، طيلة الوقت رافعٌ يديه يدعو.

فأراد الصحابة أن يَخْتبروه، فأرسلتْ إليه أمُّ الفضل رضي الله عنها بلَبَنٍ بعد العصر، فشَرِبَ منه والناس ينظرون [20].

وفي ذلك اليوم حصل حادثٌ، لكنه ليس حادث سيارةٍ، وإنما حادث إبلٍ؛ فأحد المُحْرِمين وَقَصَتْه ناقتُه فمات، فأتَوا النبيَّ يستفتونه، وهو في عرفة مستقبل القبلة، رافعٌ يديه يدعو، فلما سألوا النبيَّ  توقف وقال: اغسلوه بماءٍ وسِدْرٍ، وكفِّنُوه في ثَوْبَيْه، ولا تُخَمِّروا رأسه، ولا تُطيبوه، فإنه يُبْعَث يوم القيامة مُلَبِّيًا [21]، فأفتاهم  ثم أكمل.

يقول الراوي: كان إذا سقط خِطَامُ راحلته أخذه بإحدى يديه وهو لا يزال رافعًا اليد الأخرى [22]؛ لأنه -كما ذكرنا- وقتٌ طويلٌ، قُرابة ست ساعاتٍ وهو رافعٌ يديه يدعو .

والدعاء في ذلك الموطن وذلك الزمان حَرِيٌّ بالإجابة؛ قال : خير الدعاء دعاء يوم عرفة [23].

هذا الموطن اجتمع فيه شرف المكان وشرف الزمان؛ كما أخبر النبي : أن الله عشية عرفة يدنو من الحجيج دُنُوًّا يليق بجلاله وعظمته، لا نعرف كيفيَّته ولا حقيقته، لكنه دُنُوٌّ حقيقيٌّ عند أهل السنة، والله أعلم بكيفيته، ويُباهي بهم ملائكته، ويقول: ما أراد هؤلاء؟ [24].

فيجتمع هذا الفضلُ وهذا الشَّرفُ: شرفُ المكان، وشرفُ الزمان؛ ولهذا فإن الدعاء يوم عرفة حريٌّ بالإجابة.

كان بعض السلف يقول: “ما دعوتُ الله يوم عرفة بعرفة بدعواتٍ إلا تبيَّنتُ إجابتَها قبل أن يَحُول الحولُ”.

الدفع من عرفة

قال:

فلم يَزَلْ واقفًا حتى غَرَبَتِ الشمس.

كان ذلك في يوم عرفة، يوم الجمعة.

وذهبت الصُّفْرة قليلًا.

يعني: ما دفع النبيُّ  بعد غروب الشمس مباشرةً، بل انتظر قليلًا حتى تذهب الصُّفْرة.

قال:

حتى غاب القُرْص، وأردف أسامة خلفه.

أردف النبيُّ أسامة بن زيد رضي الله عنهما خلفه، وهذا من تواضعه ، وإلا فهو القائد، وهو النبيُّ، وهو الرسول، وهو كلُّ شيءٍ، بإمكانه أن يُؤتَى بأفضل مركوبٍ، ومع ذلك ركب ناقةً، وأردف خلفه أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

ودفع رسول الله وقد شَنَقَ للقَصْواء.

يعني: ناقتَه القَصْواء.

الزِّمام، حتى إنَّ رأسها ليُصِيب مَوْرِكَ رَحْلِه، ويقول بيده اليُمنى: أيها الناس، السَّكِينةَ، السَّكِينةَ.

يعني: كان يسير بسكينةٍ وهدوءٍ .

كلما أتى حَبْلًا من الحِبال أرخى لها قليلًا حتى تصعد.

يعني: كلما أتى مكانًا مرتفعًا أرخى لناقته حتى تصعد.

المبيت بمُزدلفة

حتى أتى المُزْدَلِفَة.

أي: في أثناء الطريق.

جاء في روايةٍ أخرى: أنه نزل في الشِّعْب وبال، وتوضَّأ وضوءًا خفيفًا [25].

فصلَّى بها المغرب والعشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، ولم يُسَبِّح بينهما شيئًا.

لكن جاء في الروايات الأخرى: أنه لمَّا وصل إلى المُزدلفة أمر المؤذِّن فأذَّن، ثم أمر فأقام، فصلَّى بهم صلاة المغرب، ثم أمر بحَطِّ الرِّحال، فحُطَّتِ الرِّحال، فأقام وصلى بهم صلاة العشاء [26].

فَحَطُّ الرِّحال كان فاصلًا بين صلاة المغرب وصلاة العشاء.

قال:

ثم اضْطَجَعَ رسول الله حتى طلع الفجر.

يعني: اضطجع في المشعر الحرام، في المكان الذي يوجد فيه الآن مسجد مُزدلفة.

واختلف العلماء: هل أوتر تلك الليلة أو لم يُوتِر؟

هنا في حديث جابرٍ وجميع الأحاديث لم يُذكر أنه أوتر؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إنه لم يُوتر .

والقول الثاني: أنه أوتر، لكن جابرًا والصحابة لم يذكروا ذلك؛ لأن هذا معروفٌ من هَدْي النبي ، وهذا هو الأقرب: أنه  أوتر.

ذكر الله تعالى عند المشعر الحرام

قال:

وصلَّى الفجر حين تبيَّن له الصُّبْح.

يعني: عجَّل بصلاة الفجر بعدما تبيَّن الصُّبْح، فقد كان من عادته ألا يعجل بالفجر في المدينة، لكن هنا في مُزدلفة عجَّل بها وصلى بها في أول وقتها.

بأذانٍ وإقامةٍ.

ثم رَكِبَ القَصْواء حتى أتى المَشْعَر الحرام، فاستقبل القبلة، فدَعَاه، وكَبَّرَه، وهَلَّلَه، ووَحَّدَه.

معنى ذلك: أنه بات في مكانٍ، ثم لما طلع الفجر صلَّى صلاة الفجر، ثم بعد صلاة الفجر ذهب إلى المشعر الحرام؛ للمكان الذي فيه المسجد الآن.

لاحظ: دِقَّة وصف جابرٍ لحركة النبي وتنقُّله.

قال:

فلم يَزَلْ واقفًا حتى أَسْفَر جدًّا.

وهذه هي السُّنَّة: أن الحاجَّ يقف في مُزدلفة مُستقبلًا القبلة، رافعًا يديه يدعو بعد صلاة الفجر حتى يُسْفِرَ جدًّا.

الدفع من مُزدلفة

فدَفَعَ قبل أن تطلع الشمس.

مخالفةً للمشركين؛ فإن المشركين كانوا يَبْقون حتى تطلع الشمس، ويقولون: “أشرق ثَبِير كَيْمَا نُغِير”، فخالفهم النبيُّ ودَفَعَ من مُزدلفة إلى مِنًى قبل طلوع الشمس [27].

وأَرْدَفَ الفضلَ بن عباسٍ.

يعني: من عرفة إلى مُزدلفة أردف أسامة ، ومن مُزدلفة إلى مِنًى أردف الفضل بن عباسٍ رضي الله عنهما.

وكان رجلًا حَسَن الشَّعْر، أبيض، وَسِيمًا.

كان الفضل بن عباس رضي الله عنهما وسيمًا، أبيض، حسن الشعر، وكان مُحْرِمًا.

رِفْقُ النبي في إنكار المنكر

فلما دَفَعَ رسولُ الله  مَرَّتْ به ظُعُنٌ يَجْرِينَ.

مرَّتْ نساءٌ يَجْرِينَ.

فطَفِقَ الفضلُ ينظر إليهن.

جاء في الرواية الأخرى: أن هؤلاء النسوة لمَّا رأين جمال ووسامة الفضل جَعَلْنَ يَنْظُرْنَ إليه، فلما رآهُنَّ يَنْظُرْنَ إليه قام ينظر إليهن، فجعل ينظر إليهن وينظرن إليه.

وهنا فإن النبيَّ أمام منكرٍ، ماذا يفعل؟

أنكر المُنكر.

قال:

فوضع رسول الله يده على وجه الفضل.

انظر إلى لطافة النبي ورفقه، ما أغلظ عليه في الإنكار؛ حيث كان الفضل مُلتفتًا ينظر، بل إن النبي أخذ رأسَ الفضل وأدار به إلى الجهة الأخرى.

فانظر إلى لطافة النبي ورفقه في إنكار المنكر، لكن الفضل  لما غيَّر النبيُّ وجهه:

فَحَوَّلَ الفضلُ وجهه إلى الشقِّ الآخر ينظر.

يعني: أنه كان ينظر هكذا ناحية اليسار، فأخذ النبيُّ وجهه ووضعه هكذا ناحية اليمين، فجعل الفضلُ ينظر إلى الجهة الأخرى هكذا إلى خلفه جهة اليسار.

فَحَوَّلَ رسولُ الله يده من الشقِّ الآخر على وجه الفضل.

حوَّل رأسَه مرةً أخرى إلى الشقِّ الآخر.

يصرف وجهه من الشقِّ الآخر ينظر.

فهذا من لُطْف النبي ورِفْقه في إنكار المُنكر.

الإسراع في وادي مُحسِّرٍ

حتى أتى بطن مُحَسِّرٍ.

“بطن مُحَسِّر” هو الوادي الذي بين مُزدلفة ومِنًى.

فَحَرَّكَ قليلًا.

يعني: أسرع النبي لما أتى وادي مُحسِّرٍ.

واختلف العلماء في الحكمة من ذلك؛ فقيل: لأنه المكان الذي أهلك الله فيه أصحاب الفيل.

ولكن هذا القول محل نظرٍ؛ لأن المعروف أن المكان الذي أهلك الله فيه أصحاب الفيل هو المُغمَّس، وليس وادي مُحسِّر، ويدل لذلك أشعار العرب، ومن ذلك قول الشاعر:

حُبِسَ الفيلُ بالمُغمَّس حتى ظلَّ يَحْبُو كأنه مَعْقُورُ

فالمكان الذي أُهلك فيه أصحاب الفيل ليس وادي مُحسِّر، وإنما وادي المُغمَّس.

قال بعض أهل العلم: لأن بطن الوادي يكون ليِّنًا يحتاج معه لأن يُحرِّك بعيرَه؛ فلذلك حرَّك النبيُّ وأسرع.

وقيل: لأن هذا المكان -وهو وادي مُحسِّر- كان مكانًا يجتمع فيه كفار قريشٍ في الجاهلية، ويفتخرون فيه بآبائهم، كما ذكر الله ​​​​​​​: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [البقرة:200]، فأراد النبيُّ أن يُخالفهم كما خالفهم في الخروج من عرفة ومن مُزدلفة.

وهذا القول الأخير هو الأقرب في الحكمة من إسراع النبي في مُزدلفة: أنه مُخالفةٌ للمشركين الذين كانوا يقفون في وادي مُحسِّر يفتخرون بآبائهم وأجدادهم.

رمي جمرة العقبة الكبرى

قال:

ثم سَلَكَ الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة.

يعني: جمرة العقبة.

التي عند الشجرة، فرماها بسبع حَصَيَاتٍ، يُكَبِّر مع كل حصاةٍ منها.

وكان أسامة بن زيد رضي الله عنهما يُظلِّلُه عن الشمس.

مثل حَصَى الخَذْف.

يقول الفقهاء: “أكبر من الحِمَّص، ودون البُنْدُق”، ولكن الناس الآن لا يعرفون الحِمَّص، ولا البُنْدُق، ولا الخَذْف؛ ولذلك ينبغي أن يُخاطَب الناس بما يعرفون؛ ولذلك فالأحسن في التقدير ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في سنن البيهقي رحمه الله: أنه رمى بحصى مثل بَعْر الغَنَم [28]، يعني: في حجم بَعْر الغنم.

نَحْر الهَدْي

رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المَنْحَر.

بعدما رمى انصرف إلى المَنْحر، وكان قد أهدى مئةً من البُدْن.

فنحر ثلاثًا وستين بيده، ثم أعطى عليًّا فنحر ما غَبَرَ.

لماذا اختار النبي هذا الرقم: ثلاثًا وستين؟

لعل ذلك -والله أعلم- لتكون مُوافِقةً لعُمُره؛ لأن عمره كان ثلاثًا وستين، فكل سنةٍ عنها بَدَنةٌ، والله أعلم بالحكمة في ذلك، لكن انظر إلى تعظيم النبي لشعائر الله: كيف أهدى مئةً من البُدْن ونُحِرَتْ كلها؟ باشر نحر ثلاثٍ وستين، وأمر عليًّا فأكمل البقية.

وأشركه في هَدْيه، ثم أمر من كل بَدَنَةٍ ببَضْعَةٍ.

يعني: بقطعة لحمٍ.

فجُعِلَتْ في قِدْرٍ، فطُبِخَتْ، فأكلا من لحمها، وشَرِبَا من مَرَقِها.

لأن عليًّا اشترك معه فيها، فأكل النبيُّ  وعليٌّ من لحمها، وشَرِبَا من مَرَقها.

وأمر بأن يُتصدَّق ببقية لحومها وبجِلَالِها على الحُجَّاج، وكان الفقراء فيهم كُثُرًا، بل ربما كان أكثرهم فقراء.

طواف الإفاضة

ثم ركب رسول الله فأفاض إلى البيت.

لم يذكر جابرٌ هنا حَلْقَ النبي ، وجاء هذا في حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي حَلَق رأسه، ثم طيَّبَتْه عائشةُ رضي الله عنها [29].

لم يذكر جابرٌ حَلْقَ النبي رأسَه وتَطْييب عائشة رضي الله عنها له، فقد حلق النبي  رأسَه، ثم طيَّبَتْه عائشة رضي الله عنها بعد ذلك، ثم ذهب إلى مكة.

قال:

فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر.

طاف بها طواف الإفاضة ولم يَسْعَ؛ لأنه كان قارنًا، وسعى بعد طواف القدوم، وبعدما طاف صلَّى صلاة الظهر إمامًا بالناس في المسجد الحرام في مكة.

شُرْبه من ماء زمزم

فأتى بني عبدالمطلب يسقون على زمزم.

بعدما صلى صلاة الظهر أتى إلى بئر زمزم، ووجد بني عبدالمطلب على البئر يسقون الحجيج.

فقال: انْزِعُوا بني عبدالمطلب، فلولا أن يغلبكم الناسُ على سِقَايتكم لنَزَعْتُ معكم، فناولوه دَلْوًا فشرب منه [30].

شرب منه وهو قائمٌ، وهذا يدلُّ على أن الشُّرْبَ قائمًا جائزٌ، ولكن الأفضل الشُّرْب قاعدًا، كما دلَّت لذلك الأحاديث الأخرى.

رجوع النبي إلى مِنًى

بعد ذلك رجع النبي إلى مِنًى، ووجد الناسَ ينتظرونه ليُصلي بهم صلاة الظهر بعد أن صلَّاها في مكة، فصلَّى بهم صلاة الظهر إمامًا مرةً أخرى، وهي في حقِّه نافلةٌ، وفي حقِّهم فريضةٌ، وهذا أرجح ما قيل في هذه المسألة.

وقام بمِنًى يوم العيد يُصلي الصلاة الرباعية ركعتين، قام يوم العيد فصلَّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء وفجر اليوم الحادي عشر.

رَمْي الجمرات

ولما زالت الشمس من اليوم الحادي عشر ذهب ماشيًا إلى الجمرات، ورمى الجمرات الثلاث، يرمي كلَّ حصاةٍ بسبع حَصَيَاتٍ، يُكبِّر اللهَ بعد كل حصاةٍ، وبعد رَمْيه للجمرة الصُّغْرى استقبل القبلة وجعل رافعًا يديه يدعو طويلًا، ثم لما رمى الجمرة الوسطى أخذ ذات الشمال، واستقبل القبلة، وجعل رافعًا يديه مُستقبِل القبلة يدعو طويلًا، ثم رمى جمرةَ العقبة بسبع حَصَيَاتٍ، ولم يقف عندها، ولم يَدْعُ، رمى قبل أن يصلي صلاة الظهر، يعني: بعد الزوال مباشرةً.

ثم رجع إلى المكان الذي فيه الآن مسجد مِنًى -مسجد الخَيْف- وصلَّى بالناس في اليوم الحادي عشر صلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وفجر اليوم الثاني عشر.

فلما زالت الشمس من اليوم الثاني عشر أيضًا رمى الجمرات الثلاث كما رماها في اليوم الحادي عشر، وتأخَّر ، وأَذِنَ لمَن أراد التَّعجُّلَ بأن يتعجَّل، لكنه  بقي.

ولما رمى الجمرات الثلاث رجع إلى مكانه في مسجد الخيف، وصلى صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء وفجر اليوم الثالث عشر -وكان يوم الثلاثاء-، وبعدما زالت الشمس من اليوم الثالث عشر رمى الجمرات الثلاث كما رماها في اليوم الحادي عشر والثاني عشر، ثم سار  إلى مكة.

لاحظ: أنه لم يُصَلِّ صلاة الظهر، سار إلى مكة حتى وصل إلى الأَبْطَح، فلما وصل إلى الأبطح -وهو المكان الذي أقام فيه قبل الحج- صلَّى صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، هذا كله في اليوم الثالث عشر.

فلما كان من آخر الليل من ليلة الرابع عشر من شهر ذي الحجة في السنة العاشرة من الهجرة أتى آخر الليل -في الثلث الأخير من الليل- وطاف طواف الوداع.

عمرة عائشة رضي الله عنها في الحج

واستأذنتْ في تلك الليلة عائشةُ رضي الله عنها في أن تأتي بعُمْرةٍ؛ لأن عائشة رضي الله عنها حاضَتْ ولم تستطع أن تكون مُتمتِّعةً، فأمرها النبيُّ أن تَقْلب التَّمتعَ إلى قِرَانٍ، ورأت أن بقية أزواج النبي كُنَّ مُتمتعاتٍ؛ أَتَيْنَ بعمرةٍ وحجٍّ، فقالت: ترجع صُوَيْحِبَاتِي بعمرةٍ وحجٍّ وأنا أرجع بحجٍّ! فقال النبيُّ : يَسَعُكِ طوافك لِحَجِّكِ وعُمْرتِكِ [31]، يعني: أنها قارنةٌ أيضًا، والقارن أتى بعمرةٍ وحجٍّ.

لكن عائشة رضي الله عنها قالت: لا، القارن في منزلةٍ أقلَّ من منزلة المُتمتع، وأنا أريد أن أكون مُتمتعةً مثل بقية زوجات النبي . فألحَّتْ على النبي في أن تأتي بعمرةٍ.

قال جابرٌ في الرواية الأخرى: وكان رسول الله رجلًا سهلًا، إذا هَوِيَتِ الشيءَ تابعها عليه [32].

فأَذِنَ لها، وأمر أن يخرج معها أخوها عبدالرحمن مَحْرمًا لها، فذهبتْ إلى التَّنعيم -المكان الذي فيه الآن مسجد عائشة رضي الله عنها- وأحرمتْ بعمرةٍ، ثم أتتْ وطافتْ وسَعَتْ [33].

طواف الوداع والرجوع إلى المدينة

ثم طاف النبيُّ ومَن معه من الصحابة طواف الوداع في آخر الليل، ثم صلَّى النبي بالناس صلاة الفجر يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر ذي الحجة من السنة العاشرة من الهجرة، وبعد أن صلى بهم صلاة الفجر إمامًا رجع إلى المدينة هو ومَن معه من الصحابة ، فبقي في الرجوع أيضًا عشرة أيامٍ.

هذه هي صفةُ حجَّة النبيِّ ، نقلها صحابتُه ، نقلوا هذه الحجَّة نقلًا دقيقًا، ووصفوها وصفًا دقيقًا، وقد قال : خذوا عني مناسككم، خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا [34].

ونكتفي بهذا القدر في الكلام عن حَجَّة الوداع -حَجَّة النبي -، ونُخصص بقية الوقت للإجابة عما ورد من الأسئلة.

الأسئلة

السؤال: سائلٌ يقول: هل تُشترط الأُضْحية في نفس البلد التي أُقيم فيها؟ علمًا بأن بلدي الأصلي فيه كثيرٌ من الفقراء.

الجواب: الأمر في هذا واسعٌ، المهم هو أن تُذْبَح هذه الأُضحية، سواءٌ قُمْتَ بذبحها أنت في بلدك الذي أنت فيه الآن، أو وكَّلْتَ مَن يذبحها لك في البلد الآخر؛ البلد الأصلي، فالأمر في هذا واسعٌ.

وإذا رأيتَ أن المصلحة تقتضي أن تُوكِّل مَن يذبح أُضحيتَك في بلدك الأصلي؛ لكون الفقراء أكثر، فهذا أحسن؛ لأنه يجمع بين الصدقة على هؤلاء الفقراء -والتي ربما تكون صِلَةً للرحم- مع ذَبْح الأُضحية.

السؤال: هل يجوز الجمع بين الأُضحية والعقيقة؟

الجواب: نعم، يجوز الجمع بين الأُضحية والعقيقة في أرجح أقوال العلماء، وقد رُوي هذا عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه لا بأس بالجمع بين الأضحية والعقيقة، لكن الأفضل هو تخصيصُ العقيقة بذبيحةٍ أخرى غير الأضحية، فإن كان الإنسان ميسور الحال فالأفضل ألا يجمع بين الأضحية والعقيقة، وإن كان ليس ميسور الحال وأراد أن يجمع بينهما فلا بأس.

السؤال: هل تجوز الأضحية خارج البلد؟

الجواب: نعم، لا بأس، الأمر في هذا واسعٌ؛ تجوز الأضحية خارج البلد، ويجوز إذا أقام الشعيرة في بيته، يُقيم الشعيرة في بيته، يعني: يذبح في بيته أولًا، ثم إذا ذبح أُضحيته في بيته، وكان عنده فائضٌ، فلا بأس بأن يُوكل مَن يذبح عنه أُضحيةً خارج البلد.

أما أن يُعطل شعيرة الأضحية في بيته، ويبقى بدون أضحيةٍ، ويُوكل مَن يذبح عنه خارج البلد، فهذا خلاف السُّنَّة، خلاف مقصود الشريعة من الأضحية، فليس المقصود منها اللحم.

بعض الناس يقول: أريد أن أُوكِّل مَن يذبح الأضحية خارج البلد؛ لأن الفقراء هناك أكثر.

ليس الغرض من الأضحية اللحم؛ قال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، فالغرض من الأضحية هو تعظيم الله ​​​​​​​، والتقوى لله سبحانه، ويتحقق هذا عندما يُباشر الإنسان ذَبْح الأضحية، أو على الأقل يَشْهدها، وتُذْبَح في بلده، ويأكل منها ويتصدَّق، ويُقيم الشعيرة.

أما أن تبقى الشعيرة في بيته مُعطَّلةً؛ ليُوكِّل مَن يذبح عنه خارج البلد، فهذا خلاف السنة.

لكن لو أقام الشعيرة في بيته، وذبح أضحيته في بيته، وأكل وتصدَّق، وكان عنده فائضٌ من الأضاحي، فبعض الناس تكون عندهم أَضَاحيُّ كثيرةٌ، فمثلًا: تكون عنده عشر أَضَاحيِّ، يقول: أريد أن أُقِيم الأُضحية -الشعيرة- في بيتي، والفائض أُوكِّل مَن يذبحه خارج البلد؛ فلا بأس حينئذٍ.

لكن الإشكال فيمَن يُعطِّل الشعيرة في بيته، ويَنقُل الأُضحية خارج البلد.

وعلى ذلك فتاوى مشايخنا؛ فهم يُنكرون على مَن يفعل ذلك، يقصدون بذلك: مَن يريد تعطيل الشعيرة في بيته، وإلا فإن مَن أقام الشعيرة في بيته وأكل وتصدق، ووُجِد عنده فائضٌ هنا، فلا بأس أن يُوكِّل مَن يذبح عنه أضحيةً خارج البلد.

السؤال: هل يجوز للمُحْرِم استعمالُ المُعقِّمات المُعطَّرة بسبب (كورونا) إذا لم يجد غيرها؟

الجواب: المُعقمات المُعطرة ليس للمُحرم أن يستعملها إذا كانت مُعطَّرةً بعطرٍ فعلًا، أما غير المُعطرة فلا بأس، لكن هل لا بد من أن تكون مُعطرةً؟ كيف تعرف أنها مُعطرةٌ؟

تقرأ المُكوِّنات، فإذا وجدتَ من المُكونات عطرًا فمعنى ذلك أنها مُعطَّرةٌ، أما إذا لم يكن في المُكونات عطرٌ فمعنى ذلك أنها ليست مُعطرةً.

والغالب على المُعقمات عدم التعطير، لكن قد يوجد منها المُعطَّرة، وهذه المُعطرة لا تجوز، لكن إذا احتاج -كما ذكر السائل- إلى ذلك فإنه يستخدمها ويدفع فِدْيةً؛ يَفْدي بذبح شاةٍ، أو إطعام ستة مساكين من مساكين الحرم، أو صيام ثلاثة أيامٍ.

السؤال: ما أفضل عملٍ يعمله غيرُ الحاجِّ في يوم عرفة؟

الجواب: غيرُ الحاجِّ الأفضل له أن ينشغل بكل ما هو عملٌ صالحٌ، وأفضل ما يفعل من الأعمال الصالحة ما هو أصلح لقلبه، فما هو الأصلح لقلبه؟

إذا كان الأصلحُ لقلبِه الدعاءَ؛ دَعَا، وإذا كان الأصلحُ لقلبِه تلاوةَ القرآن؛ يشتغل بتلاوة القرآن، وإذا كان الأصلحُ لقلبِه الاشتغالَ بالتَّسبيح والتَّحميد والتَّهليل والتَّكبير؛ فَعَلَ.

فيفعل ما هو الأصلحُ لقلبه، هذا هو الراجح في أفضل عملٍ يعمله غيرُ الحاجِّ في يوم عرفة.

السؤال: مَن كان ناويًا للحجِّ، صادقًا من قلبه، ومَنَعَتْه ظروفُ الجائحة هذا العام، هل يأخذ أجرَ الحجِّ وفضلَ مغفرة الذنوب؟

الجواب: نعم، الظاهر -والله أعلم- أنَّ مَن كان عازمًا على الحجِّ، وحُبِس عن الحجِّ بسبب الظروف الحالية -ظروف جائحة (كورونا)- يَحصُل على الأجر كاملًا، هذا الذي تدلُّ له الأدلة، كما قال ​​​​​​​: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة:120]، وكما قال فيمَن حَبَسهم العُذْر: أنه يُكتَب لهم الأجرُ، وقال : إذا مَرِضَ العبد أو سافر كَتَبَ الله له ما كان يعمله صحيحًا مُقِيمًا [35].

فهذه الأدلة مجموعُها يدلُّ على أنَّ الإنسان إذا كان من عادته أن يعمل عملًا صالحًا، أو عزم على عملٍ صالحٍ عزمًا صادقًا، لكن حُبِسَ عن ذلك بأمرٍ خارجٍ عن إرادته، فإنه يُكتَب له الأجرُ كاملًا، وفضل الله واسعٌ.

فهذا الذي كان قد نوى الحجَّ، وعزم على الحجِّ، لكنَّ ظروف الجائحة الآن وظروف الحجِّ هذا العام منعَتْه من الحج؛ فيُكتب له أجرُه كاملًا -إن شاء الله-، وفضل الله واسعٌ.

السؤال: ما أفضل وقتٍ لذبح الأضحية؟

الجواب: أفضلُ وقتٍ لذبح الأضحية بعد صلاة العيد؛ لأن هذا هو هَدْي النبيِّ ؛ ولأن اليوم العاشر يدخل في عشر ذي الحجة، بينما لو أخَّرْتَ الذَّبْحَ -مثلًا- إلى اليوم الحادي عشر، ذبحتَ بعد نهاية عشر ذي الحجة، فالأفضل أن تذبح في يوم العيد، وأفضل يوم العيد بعد الصلاة؛ لأنه الموافق لهَدْي النبي .

السؤال: أيُّهما أفضل في هذه العشر وغيرها: أن يتصدَّق الإنسانُ عن نفسه بمالٍ، أو أن يتصدق بنفس كمية المال عن نفسه ويُشْرِك والديه معه؟

الجواب: الصدقة عملٌ صالحٌ، فالأفضل أن يتصدق عن نفسه، وإن أشرك معه والديه كان ذلك حسنًا؛ لأنه يدخل بذلك في البرِّ بوالديه.

السؤال: الذَّبيحة المُصابة بالمالطية تُؤكَل ولا تَضُرُّ، وقد سألنا الأطباء البيطريين عنها فقالوا: تُطْبَخ، والبكتيريا التي بها تموت في درجة حرارة 60 درجة. والناسُ يطبخون اللحم فوق درجة حرارة 120 درجة، وبالتالي فإنها لا تضر، وتُؤكل، فهل يجوز أن أُضحي بها؟

الجواب: منع النبيُّ من أن يُضحَّى بالعوراء لمجرد أنها عوراء، فكيف بأُضْحِيَّةٍ مُصابةٍ بالحُمَّى المالطية؟! هذا أولى بعدم الإجزاء.

أما القول بأنها لا تضر، فهذا غير مُؤثِّرٍ.

أما العَوْراء، فهل العَوَر مُؤثِّرٌ؟

لا، هو غير مُؤثرٍ، ومع ذلك فإن النبي أخبر أنها لا تُجزئ بمُجرد عَوَرٍ في العين، فإنها لا تُجزئ، فكيف بحيوانٍ مُصابٍ بحُمَّى مالطية؟!

الذي يظهر -والله أعلم- أنها لا تُجزئ.

السؤال: هل تجوز صلاة عيد الأضحى في البيت مع الأهل -حتى لو أُقِيمَتْ في المساجد والجوامع- لمَن خاف على نفسه أن يُصاب بـ(الفيروس)؟

الجواب: نعم، لا بأس، مَن كان يخشى على نفسه الإصابةَ بـ(فيروس كورونا)، ولم يُصَلِّ مع الناس في المسجد أو في المُصَلَّى، فإنه يُصلِّي صلاة العيد في بيته؛ فيَؤُمُّ أهلَ بيته ويُصلي بهم، كما فعل الناسُ بالنسبة لعيد الفطر.

وعلى ذلك فإن كبير السِّنِّ، ومَن كان عنده ضعفُ المناعة، والمريض، ونحوهم يُصلون صلاة العيد في بيوتهم كما فعلوا في عيد الفطر.

السؤال: كيف يمكن الجمع بين الحديث الدالِّ على تحريم التصوير -ومنه المُجسَّمات، والذي أعرفه أن عامة أهل العلم على تحريمه وإن لم ينعقد الإجماع بذلك- وبين حديث فَرَسِ أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها الذي له جناحان؟ ثم على ماذا نُخرج مُجسَّمات الخِرَاف التي تُوضَع في عيد الأضحية بالحلوى؟

الجواب: الجمع بينهما أن يقال: إن هذه المُجسَّمات التي للصغار والأطفال مُستثناةٌ، وعلى ذلك فتجوز، وأما للكبار فهي مُحرَّمةٌ.

وعلى ذلك فإن الألعاب المُجسَّمة التي تكون للأطفال يُتسامَح فيها، ولا يُشدَّد بشأنها؛ لأن عائشة رضي الله عنها في ذلك الوقت كانت صغيرةً تلعب بالبنات مع الفَتيات في سِنِّها، وكان عمرها تسع سنوات.

فالجمع بينهما أن يقال: إن هذه المُجسمات للأطفال لا بأس بها؛ لهذا الحديث؛ ولأن هذا المُجسَّم في يد الطفل كالمُمتهن.

السؤال: أُلاحِظُ وصولَ الحُجَّاج إلى مطار جدَّة من دون أن يُحْرِموا، هل ذلك مُخالِفٌ؟

الجواب: نعم، لا بد أن يُحْرِم الحاجُّ من الميقات الذي يَمُرُّ به، وإلا فإنه يكون قد تجاوز الميقات من دون إحرامٍ ووقع في المحظور، فإنه إذا وصل إلى جدَّة ولم يكن قد أحرم يلزمه أن يرجع إلى الميقات الذي مرَّ به لِيُحْرِمَ منه، فإن لم يفعل فعليه دمٌ.

السؤال: في هذه الأيام أبكي كلما سمعتُ التلبية والتكبير؛ تعظيمًا وشوقًا لهذا الموسم المبارك، وأندم على المعاصي والذنوب، فهل هذه الدموع تُكفِّر الخطايا وتكون من التعظيم للشعائر؟

الجواب: بارك الله فيك، وجزاك خيرًا على هذه المشاعر، لكن هذه المشاعر لا تكفي، إذا أردت أن تُكفِّر الذنوبَ والخطايا فأَكْثِر من الاستغفار والتوبة، أما مُجرد البكاء فهذا مجرد شعورٍ.

والمشروع في هذا أن تستغفر الله وتتوب إليه ​​​​​​​ من جميع الذنوب، والتوبةُ لا بد لها من ثلاثة شروطٍ: النَّدَم على ما مضى، والإقلاع عن الذنب، والعزم على ألا يعود إليه مرةً أخرى.

وإذا كان الأمر مُتعلقًا بحقوق الآدميين فلا بد من التَّحلُّل منه، وإرجاع المظالم إلى أهلها، مع الاستغفار.

فنقول: أخي الكريم، بدلًا من أن تبكي بكاءً مُجرَّدًا، اجعل هذا مصحوبًا بالاستغفار والتوبة، قل: “أستغفر الله وأتوب إليه، أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، ربِّ اغفر لي، وتُبْ عليَّ، إنك أنت التواب الغفور”، وكررها.

السؤال: سمعتُ أن القول الراجح من أهل العلم باستحباب عدم أَخْذ شيءٍ من الشعر أو الأظفار لمَن أراد الأضحية.

الجواب: هذا قولٌ مرجوحٌ، والصواب: أن ذلك واجبٌ؛ لأن الأصل في النهي التحريم، وقد قال النبي : إذا دخلت العشرُ وأراد أحدُكم أن يُضحِّي فلا يَمَسَّ من شَعَرِه وبَشَرِه شيئًا [36]، هذا الحديث رواه مسلمٌ، حديثٌ صحيحٌ، وفيه نهيٌ.

والأصل في النَّهي أنه يقتضي التحريم إلا إذا دلَّت القرينة على صَرْف النَّهي من التحريم إلى الكراهة، وليس هناك ما يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة هنا.

وأما ما استدلَّ به بعضهم من حديث عائشة رضي الله عنها: أنها كانت تَفْتِل القلائِد للنبيِّ فيُقلِّد بها الهَدْي، ويبقى حلالًا [37]، هذا في الهدي.

أتعجب من الاستدلال بهذا الحديث على هذا النحو، فليس هذا في الأضحية، إنما هو في الهدي، ونحن نتكلم الآن عن الأضحية.

فما الذي يصرف النهي الواضح في هذا الحديث؟

قال النبي : إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يُضحي فلا يمسَّ من شعره وبَشَره شيئًا، وفي الرواية الأخرى عند مسلمٍ: فليُمْسِك عن شَعَرِه وأظفاره [38].

فالأصل في هذا أن الأمر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي التحريم، وهذا اختيار مشايخنا: ابن باز، وابن عثيمين، وكثيرٍ من المُحققين من أهل العلم: أن النهي في هذا الحديث للتحريم.

السؤال: بعد قضاء الحاجة “التَّغوط” يخرج مني القليل من الغائط غالبًا، ويبقى فترةً وينقطع، وليس طوال اليوم، وإنما بعد التَّغوط، وأحيانًا قد يخرج من الدُّبر من غير تغوُّطٍ الصفار ونحو ذلك، يخرج في غير وقته، فهل يُعتبر هذا سَلَسًا؟

الجواب: نعم، هذا حكمه حكم الحدث الدائم، تتحفَّظ وتتوضأ عند دخول وقت كل صلاةٍ، ولا يضرك خروجه.

السؤال: ما حكم إعطاء الزكاة لشخصٍ غارمٍ يستدين المال ويُحوِّله إلى أهله خارج المملكة بعُملة بلده مع عدم التقابض في المجلس، والشخص الذي يتم التحويل عن طريقه غير الدائن؟ فهل إعطاء الزكاة ليسدّ دينه، أم يكون هذا إعانةً له على المعصية؟

الجواب: أولًا: يمكن تصحيح هذه المعاملة بأن يُحول هذا المبلغ إلى خارج بلده، ويُوكِّل مَن يُجري عملية التقابض ليُحولها هو بعملة بلده، فيجعل مَن يستقبلها في بلده وكيلًا له في إجراء الصَّرف، وبذلك يزول الإشكال.

فيُمكن أن تُرشِدَه لتصحيح هذه العملية، فتقول له: إذا أردتَ التحويل بعملةٍ أخرى فاطلب من الشخص الذي يتسلَّم المبلغ ويُجري الصرف أن يكون وكيلًا لك.

السؤال: إذا كان صوتُ الإمام في أثناء القراءة عاليًا، والمأموم لم يَسمع نفسَه في تكبيرة الإحرام، فكيف يفعل؟

الجواب: لا يضر، لا يُشترط أن يسمع نفسه، وإنما المُشترط التَّلفُّظ فقط، سواء كان بتكبيرة الإحرام، أو بقراءة الفاتحة، أو ببقية الأقوال في الصلاة، فلا يُشترط أن يسمع نفسه، وإنما المشترط هو التَّلفظ.

السؤال: هل تجوز الاستعاذة من الشيطان أكثر من مرةٍ في أثناء الصلاة: الفريضة والنافلة؟

الجواب: نعم، بل هذا هو السُّنَّة، إذا وسوس الشيطان وتسلَّط على المصلي فالسنة أن يقول: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”، سواءٌ كان في صلاة فريضةٍ أو نافلةٍ، وفي أيِّ موضعٍ من مواضع الصلاة.

السؤال: هل تجب قراءة سورة الفاتحة في الصلاة الجهرية إذا كان الإمام لا يَفْصِل بين قراءة سورة الفاتحة وما بعدها ويبدأ مباشرةً؟

الجواب: قراءة المأموم لسورة الفاتحة في الصلاة الجهرية محلُّ خلافٍ، وأكثر أهل العلم على أنها غيرُ واجبةٍ، ولم يَقُل بوجوبها سوى الشافعية، وأما بقية الفقهاء فقالوا: إنها مستحبةٌ، وهذا هو القول الراجح: أنها ليست واجبةً، بل دائرةٌ بين الاستحباب عند الأكثر أو الإباحة عند بعض الفقهاء، المهم أن قراءة الفاتحة للمأموم فيما جهر فيه الإمامُ غيرُ واجبةٍ.

السؤال: أقرأ سورة البقرة يوميًّا مع وِرْدِي من القرآن، وأجد الراحة وبركة الوقت؟

الجواب: لا بأس بذلك، فالنبي  يقول: البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة لا يَقْربه شيطانٌ [39]، وقال: أَخْذها بركةٌ، وتَرْكها حَسْرةٌ، ولا يستطيعها البَطَلة [40]، لكن الذي أنصحك به: أن تقرأ القرآن كله، فتبدأ من الفاتحة إلى الناس، ولا تقف عند سورة البقرة، ابدأ من الفاتحة، ثم البقرة، ثم آل عمران حتى تختم، ثم ارجِعْ مرةً أخرى، هذا هو الأفضل، وهو المأثور عن النبي ، وعن الصحابة والتابعين .

السؤال: لي مبلغٌ في ذمة زوجي، وهو مُرتبطٌ ببيع عقارٍ له، ولا أعلم متى يَصِلُني هذا المبلغ، فهل عليه زكاةٌ؟

الجواب: إذا تسلَّمْتِ هذا المبلغ من زوجك زَكِّيهِ مرةً واحدةً فقط.

السؤال: ابنتي عمرها عشر سنوات، تطلب مني أن أتصدق عن أبي رحمه الله من مالها، فهل يجوز ذلك؟

الجواب: نعم، لا بأس إذا طلبتْ منكِ أن تتصدَّقي؛ لأن عمرها عشر سنوات، فهي مُميِّزةٌ، وربما -لو أتتها الدورة الشهرية- تكون بالغةً، فإذا طلبتْ أن تتصدقي من مالها عن والدها فلا بأس.

السؤال: لو أن إمام المسجد الراتب استمر بالقراءة في جميع الصلوات من المُفصَّل، فهل هذا هو الأفضل؟

الجواب: لا، ليس هو الأفضل، بل الأفضل أن يخرج أحيانًا عن المُفصَّل، يعني: أن يكون الغالبُ القراءةَ من المُفصل، على أن يخرج عن المُفصل قليلًا؛ فالنبي قرأ سورة “المؤمنون” في الفجر، حتى إذا أتى ذِكْر موسى وهارون عليهما السلام أخذته سَعْلَةٌ فَرَكَع [41]، وقرأ سورة الأعراف في المغرب.

وزيد بن ثابت أنكر على مروان بن الحكم اقتصارَه على قراءة قصار السور في صلاة المغرب [42]، فهذا يدلُّ على أن الأفضل أن يكون الغالبُ أن يقرأ من المُفصل، لكن عليه أحيانًا أن يقرأ من غير المُفصل.

السؤال: هل صحيحٌ أن الصوم لا يشمل المُقاصَّة يوم القيامة مع وجود حديث المُفْلِس وقد ذُكر الصيام فيه؟ كيف نجمع بينهما؟

الجواب: هذا قال به بعضُ أهل العلم، لكنه ليس بظاهرٍ، ليس عليه دليلٌ: أن الصيام لا تشمله المُقاصَّة، بل حديث المُفْلِس يدلُّ على أنه يشمله؛ لأنه  قال: فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يُقْضَى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فَطُرِحَتْ عليه [43]، معنى ذلك: أنه أُخِذَتْ جميع حسناته بما فيها حسنات الصيام، فالظاهر -والله أعلم- أن المُقاصَّة تشمل حتى الصيام.

السؤال: ما حكم التداول في تجارة العقود التابعة للشركات المُباح نشاطها في الأسواق العالمية؟

الجواب: إذا كانت مباحةً، وليس لديها قروضٌ ربويةٌ، ولا استثمارٌ في مُحرَّمٍ؛ فلا بأس بذلك؛ لأن الأصل هو الجواز، قال ​​​​​​​: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275].

السؤال: أخذنا أغراضًا من الخادمة عند مُغادرتها من دون عِلْمها؛ لأننا شَكَكْنا أنها لنا، وتبيَّن بعد مُغادرتها أن بعضها لها، وهي غير مسلمةٍ، علمًا بأننا أَهْدَيْناها هدايا عند مُغادرتها.

الجواب: أولًا: إذا أمكن أن تُوصَّل لها هذه الأغراض فهذا هو الواجب، فإذا لم يمكن فتصدَّقوا بهذه الأغراض أو بقيمتها عنها ولو كانت غير مسلمةٍ؛ لأن الصدقة تنفع غير المسلم كما أخبر بذلك النبي : إن الله لا يَظلم مؤمنًا حسنةً، يُعْطَى بها في الدنيا، ويُجْزَى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطْعَم بحسناتِ ما عَمِلَ بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنةٌ يُجْزَى بها [44].

فهنا أخبر النبيُّ بأن الكافر يُجْزَى بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، قال أهل العلم: مما لا يفتقر إلى النية: كالصدقة ونحوها.

فالصَّدقات التي يتصدَّق بها الكافرُ تنفعه في الدنيا، ويُجْزَى بها في الدنيا.

وعلى ذلك نقول: تصدقوا -إذا لم يُمكِن إيصالُ هذه الأغراض للخادمة- بها أو بقيمتها عنها.

السؤال: منذ زمنٍ عاهدتُ اللهَ أن أفعل طاعةً، أو أن أستمرَّ على طاعةٍ، وأخلفتُ، مع العلم بأنني كنت جاهلًا بالحُكم، فهل عليَّ شيءٌ؟

الجواب: نعم، هذا يُعتبر نَذْرَ طاعةٍ، مَن قال: أُعاهد اللهَ، أو عاهدتُ اللهَ على أن أفعل كذا إن حصل كذا. فهذا نذرٌ، وإذا كان على أمر طاعةٍ فهو نذر طاعةٍ، فيجب عليك أن تفعل هذه الطاعة، وإذا أخلفتَ ذلك تكون عليك كفارةُ يمينٍ.

السؤال: مَن كان عليه قضاءٌ من رمضان الماضي، وأدرك رمضانَ هذه السنة ولم يَقْضِه من دون عذرٍ، فما حكمه؟

الجواب: يجب عليه الآن القضاء، ويُستحبُّ له أن يُطْعِم عن كل يومٍ مسكينًا.

السؤال: ذَبَح الأضحيةَ في اليوم الثالث للعيد، فهل ينقص الأجر بذلك أم لا؟

الجواب: ذَبْحُ الأضحية في ثالث العيد مُجزئٌ، لكن إذا ذَبَحها في يوم العيد فهذا أفضل؛ لأن عيد النحر هو يوم النحر، ويوم العيد يدخل في عشر ذي الحجة التي أقسم الله بها: وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:2]، والليالي العشر تنتهي بغروب شمس يوم العيد، فكونه يُضحِّي في يوم العيد فهذا أكملُ وأفضلُ، ولكنه لو ضحَّى في اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر أو الثالث عشر أجزأه ذلك بإذن الله.

ونكتفي بهذا القدر، ونشكركم على مُتابعتكم.

ونسأل اللهَ ​​​​​​​ للجميع الفقهَ في الدِّين، والعلمَ النَّافعَ، والعمل الصالح.

وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1, ^18, ^30 رواه مسلم: 1218.
^2 رواه البخاري: 4655، ومسلم: 1347.
^3 رواه البخاري: 2620، ومسلم: 1003.
^4 رواه بنحوه مالك في “الموطأ”: 40، وعبدالرزاق في “مصنفه”: 16507.
^5 رواه البخاري: 1534.
^6 رواه ابن أبي شيبة في “مصنفه”: 13967.
^7 رواه مسلم: 1184.
^8 رواه البزار في “مسنده”: 6804.
^9 رواه البزار في “مسنده”: 6803.
^10 رواه البخاري: 1088، ومسلم: 1339.
^11 رواه البخاري: 1613.
^12 سبق تخريجه.
^13 رواه النسائي في “السنن الكبرى”: 3954، والدارقطني في “سننه”: 2580، والبيهقي في “السنن الكبرى”: 400.
^14 رواه أبو داود: 1905، والترمذي: 862، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 2961، وابن ماجه: 3074.
^15 رواه بنحوه البخاري: 7367، ومسلم: 1216.
^16 رواه مسلم: 1252.
^17 رواه البخاري: 1572، ومسلم: 1238.
^19 رواه البخاري: 4352، ومسلم: 1216.
^20 رواه البخاري: 1661، ومسلم: 1123.
^21 رواه البخاري: 1851، ومسلم: 1206.
^22 رواه النسائي: 3011، وأحمد: 21821.
^23 رواه الترمذي: 3585.
^24 رواه مسلم: 1348.
^25, ^26 رواه البخاري: 1672، ومسلم: 1280.
^27 رواه البخاري: 1684.
^28 رواه البيهقي في “السنن الكبرى”: 9542.
^29 رواه البخاري: 5923، ومسلم: 1190.
^31 رواه مسلم: 1211.
^32, ^33 رواه مسلم: 1213.
^34 رواه مسلم بنحوه: 1297.
^35 رواه البخاري: 2996.
^36, ^38 رواه مسلم: 1977.
^37 رواه البخاري: 1698، ومسلم: 1321.
^39 رواه مسلم بنحوه: 780.
^40 رواه مسلم: 804.
^41 رواه مسلم: 455.
^42 رواه البخاري: 764.
^43 رواه مسلم: 2581.
^44 رواه مسلم: 2808.
zh