عناصر المادة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإني سعيدٌ بهذا اللقاء في هذه الثلوثية، وأشكر الله تعالى أولًا، ثم أشكر الإخوة القائمين على تنظيمها، وعلى رأسهم أخينا الأمير: أحمد بن بندر السديري وفقه الله تعالى، وأشكر الإخوة الحضور، وأسأل الله تعالى أن ينفع بهذا اللقاء وأن يبارك فيه.
الحقيقة، العنوان هو: (من سير الفقهاء)؛ لأننا نريد أن نتناول جانبًا من هذه السير، والحديث عن السير حديثٌ طويلٌ، واخترت هذا الموضوع؛ لأن الحديث عن السير وعن بعض ما كان عليه علماؤنا وفقهاؤنا الأماجد -في الحقيقة- يشحذ الهمم في النفوس، وأيضًا يحدوا النفوس لكي تتأسى بهم وتقتدي بهم؛ ولذلك سوف نتناول بعض الجوانب المشرقة لبعض الأئمة.
المذاهب الفقهية الأربعة
وتعرفون أن الأمة الإسلامية مضى عليها أكثر من خمسة عشر قرنًا، نحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري، وقد كان القرن الأول كان الصحابة متواجدين، ثم بعد ذلك برزت المدارس الفقهية، ونشأ عصر التدوين، ثم ظهر عددٌ كثيرٌ من الفقهاء المجتهدين، لكن استقر الأمر على ثلاثة عشر من هؤلاء الفقهاء المجتهدين؛ منهم الأوزاعي، ومنهم سفيان والليث بن سعد، ثم بعد ذلك هذه المذاهب الفقهية كلها انقرضت، ولم يتبق منها سوى أربعة مذاهب.
هذه الأربعة المذاهب كان لها أثرٌ عظيمٌ في الحضارة الإسلامية، وفي إيجاد المدارس الفقهية التي أثْرت الحركة العلمية، والفقهية على وجه الخصوص، ولا زالت -ولله الحمد- هذه المدارس قائمةً، فعندما تذهب الآن إلى أي بلدٍ إسلاميٍّ تجد مثلًا المذهب السائد فيه: إما الحنبلي، أو الشافعي، أو المالكي، أو الحنفي، وتجد هذا المذهب له رجاله وأصوله ومدرسته ومناهجه، وقد كان الناس إلى وقتٍ ليس بالبعيد على هذه المذاهب.
وقد بلغ في بعض العصور الإسلامية من التعصب مبلغًا عظيمًا، وهذا أمرٌ غير مقبولٍ، بلغ أن الحنفي لا يتزوج شافعيةً، والشافعي لا يتزوج مالكيةً، وهكذا، وهذا لا شك أنه تعصبٌ ممقوتٌ، بل بلغ إلى وقتٍ ليس بالبعيد أنه في المسجد الحرام يوضع أربعة مقاماتٍ: المقام الحنفي، والمقام المالكي، والمقام الشافعي، والمقام الحنبلي، وهذا استمر مئات السنين إلى عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله، وما أدري هل معنا أحدٌ من كبار السن قد رأى هذا، قد رأيت الصور لهذه المقامات، وهي ما زالت موجودةً، لكن حدثني بعض كبار السن أنهم أدركوا هذا، فكان هذا لا يصلي خلف هذا، فالحنفي لا يصلي خلف الحنبلي، وكلٌ يصلي خلف إمامه.
ولما قامت الدولة السعودية، أشار العلماء على ولي الأمر، الملك عبدالعزيز رحمه الله، بأن يزيل هذه المقامات، ويوحد الناس في الحرم على إمامٍ واحدٍ، وفعل الملك عبدالعزيز رحمه الله هذا الأمر، فوُحِّدت على إمامٍ واحدٍ، وإن كان المذهب السائد هنا في المملكة هو المذهب الحنبلي، لكن -ولله الحمد- التعصب زال، لم يعد التعصب موجودًا، ولذلك نجد أن العلماء في المملكة لا يتعصبون للمذهب الحنبلي، تارةً يرجحون المذهب الحنفي، وتارةً المالكي، وتارةً الشافعي، وتارةً الحنبلي، حسب ما يقتضيه الدليل من الكتاب والسنة، نجد أن سماحة شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، كانت فتاواه تارةً يفتي بما يقول الإمام أبو حنيفة؛ مثلًا فتاواه في الحلي المعد للاستعمال، تارةً يقول بما ذهب إليه الإمام الشافعي؛ مثل فتاواه في قراءة المأموم خلف إمامه في الصلاة، تارةً يقول بما يفتي به الإمام مالكٌ، تارةً يفتي بما ذهب إليه الإمام أحمد، فكان العلماء -ولله الحمد- عندنا يتعصبون للدليل وليس للمذهب.
فتلك الحِقْبة التي كان فيها التعصب موجودًا -ولله الحمد- الآن بدأت تتلاشى، وأصبح الناس أيضًا لهم عنايةٌ بالدليل، فطلبوا الدليل من الكتاب والسنة، لكن أيضًا هذا الجهد العظيم لا بد أن نستفيد منه، وهذا التراث الفقهي لا بد أن نستفيد منه.
فهذه المدارس -كما ذكرت- لها مصنفاتٌ، ولها فقهاء، ولها علماء، ولها أصولٌ، ولها مناهج، فأحببت في هذا اللقاء أن أسلط الضوء ليس على هذه المدارس والمناهج؛ لأن الحديث عنها يطول، لكن فقط عن شذراتٍ من حياة أئمة هذه المذاهب الأربعة، فقط هذا هو الذي أريد أن أتناوله وأتحدث عنه، وذلك لضيق الوقت، وإلا فالحديث عن هذه المذاهب وأصولها يطول.
لماذا اندثرت المذاهب الفقهية عدا المذاهب الأربعة؟
أولًا: أطرح تساؤلًا: لماذا انقرضت المذاهب الأخرى، وما بقي إلا هذه المذاهب الأربعة؟ هل لكون هؤلاء الأئمة هم أعلم الفقهاء؟
الجواب: لا، مثلًا يقول الشافعي: “الليث بن سعدٍ أفقه من مالكٍ، إلا أن طلابه لم يقوموا به”.
هل كان لهم إمكانياتٌ وقدراتٌ أكثر من غيرهم؟
لا، لكن هذا شيءٌ جعله الله تعالى لهؤلاء الأئمة، ويظهر -والله أعلم- أن عندهم من الإخلاص والصدق ما ليس عند غيرهم، فنجد أن الإمام الشافعي رحمه الله يقول: “ما ناظرت أحدًا إلا تمنيت أن الله يُجرِي الحق على لسانه”، انظر إلى هذه الأخلاق العظيمة! يعني الإنسان عندما يجادل أحدًا أو يناظره ربما يحاول أن يُثبت صحة رأيه وقوله، ويحشد الحُجَج، الشافعي يقول: أنا ما أجادل أحدًا إلا وأتمنى أن يجري الله الحق على لسانه.
الإمام مالكٌ، يقول عنه ابن المبارك: “ما رأينا أحدًا ارتفع قدره وليس بكثير صلاةٍ ولا صيامٍ ولا نوافل مثل الإمام مالكٍ”، فعلق عليه الذهبي قال: “إن الإمام مالكًا كان مشتغلًا بالعلم”.
ويظهر -والله أعلم- أن عندهم من الصدق واليقين ما ليس عند غيرهم؛ ولهذا لما قيل للإمام مالكٍ لمَّا صنف “الموطأ” قيل له: “إن الناس صنفوا موطآتٍ”، كلٌّ صنف، موطأ فلانٍ، وموطأ فلانٍ، قال كلمته المشهورة: “ما كان لله يبقى، وما كان لغير الله يذهب”، وبالفعل ذهبت الموطآت هذه كلها، ما بقي إلا موطأ الإمام مالكٍ.
فانظروا يا إخوان، الصدق له أثرٌ عجيبٌ، ولذلك نجد أن الصدق ما صاحب شيئًا إلا وجعل الله تعالى فيه البركة؛ صدق العالِم، والصدق في الكتاب نفسه، المؤلفات التي الآن تنتشر للناس، ويستفيد منها الناس جيلًا بعد جيلٍ، وقرنًا بعد قرنٍ، هذه في الحقيقة لعل أصحابها هؤلاء كانوا أصحاب إخلاصٍ وصدقٍ؛ فبارك الله تعالى فيها، فهؤلاء الأئمة الأربعة بارك الله تعالى في علومهم، وبارك الله تعالى في مؤلفاتهم، وبارك الله تعالى في جهودهم، ولذلك لا زالت آثار علومهم إلى وقتنا هذا.
شَذَراتٌ من حياة أصحاب المذاهب الأربعة
نأخذ -كما ذكرت- شذراتٍ يسيرةً من حياة هؤلاء، ومن سير هؤلاء الأئمة؛ لعل هذا أن يكون حافزًا لنا لأن نقتدي بهم، ويشحذ الهمم للتأسي بسيرتهم.
أول المذاهب الأربعة ظهورًا، وأكثرها انتشارًا أيضًا: هو المذهب الحنفي؛ بينما آخرها ظهورًا: المذهب الحنبلي، وهو أقلها انتشارًا.
-
الإمام أبو حنيفة
المذهب الحنفي، مؤسسه: هو الإمام أبو حنيفة، وهو النعمان بن ثابتٍ التَّيمي، وهو من أصلٍ فارسيٍّ، سبحان الله! من أصلٍ فارسيٍّ، ومع ذلك أصبح إمامًا متبوعًا، بل من أشهر الأئمة الأربعة، ومن أوسع المذاهب الأربعة انتشارًا، وهكذا نجد أن الله يُعز هذا الدين برجالٍ وأُناسٍ يأتون من أصقاعٍ شتى، البخاري من أين أتى؟ من بلاد بُخارَى، الآن أبو حنيفة من أين أتى؟ من فارس، لكن الله يعز هذا الدين، هذا الدين لا يعرف نسبًا ولا قبيلةً، ولا جنسًا ولا جنسيةً، إنما من تمسك بهذا الدين فإن الله تعالى يُعزّه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر:10].
الإمام أبو حنيفة وُلد بالكوفة سنة 80 للهجرة -لاحظ أن وقت ولادته متقدمٌ، في القرن الأول- ونشأ بها، وطلب العلم حتى صار من أفقه أهل زمانه؛ ولهذا يقول عنه ابن المبارك: “أبو حنيفة أفقه الناس”، ويقول عنه الإمام الشافعي: “الناس في الفقه عيالٌ على أبي حنيفة”، ويعلِّق الذهبي على هذا في كتابه “السِّيَر”، يقول: “الإمامة في الفقه ودقائقه مُسلَّمةٌ إلى هذا الإمام”، وهذا أمر لا شك فيه.
والإمام أبو حنيفة فقيهٌ بالنسبة لما يتعلق بالفقه، لكن في الحديث هو مصنَّفٌ عند أهل الحديث أنه ضعيفٌ؛ ولذلك تجد أن الحديث الذي في سنده الإمام أبو حنيفة يقال: سنده ضعيفٌ؛ لأن في سنده أبا حنيفة، وهذا من العجائب! أن يكون هذا إمامًا عظيمًا في الفقه، لكنه في الحديث ضعيفٌ؛ لأن بضاعته في الحديث كانت قليلةً، وربما يكون من أسباب ذلك: تقدُّم عصره؛ فإنه ولد في عصرٍ لم تُدوَّن فيه بعد السُّنة، يعني البخاري ومسلم خَرَجوا بعده.
طُلب الإمام أبو حنيفة للقضاء لكنه امتنع، وكان الأئمة يفرون من القضاء، ولا يريدون القضاء؛ لأن القضاء مسؤوليته عظيمةٌ جدًّا، والنبي يقول: القُضاة ثلاثةٌ، قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة [1]، فنجد أن العلماء السابقين كانوا يفرون من القضاء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وابتُلي بسبب ذلك وحبس، لكن الله أظهر علمه، فانتشر انتشارًا واسعًا، وقلنا: إنه يعتبر أوسع المذاهب الأربعة على مر العصور الإسلامية في الحقيقة، أوسع المذاهب الأربعة انتشارًا هو المذهب الحنفي.
أسباب انتشار المذهب الحنفي
ومن أسباب ذلك:
- أولًا: تقدم ظهوره.
- ثانيًا: انتشاره بواسطة طلاب أبي حنيفة، فكان من أبرز طلاب أبي حنيفة: القاضي أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، القاضي أبو يوسف تولى رئاسة القضاء في عهد المهدي والهادي والرشيد، كان هو المسؤول عن تعيين القضاة، وهو رئيس القضاة في زمنه، وكان القاضي أبو يوسف لا يولِّي القضاء إلا من كان حنفيًّا، مع أنه موجودٌ حنابلةٌ وشافعيةٌ ومالكيةٌ، لكنْ ما كان يولِّي القضاء إلا من كان حنفيًّا، فأصبح القضاة كلهم من الحنفية في عهد الدولة العباسية، ومعلومٌ أن القاضي في تلك الأزمنة لا يقتصر على القضاء بين الناس فحسب، إلى زمن ليس ببعيدٍ، بل القاضي يتولى القضاء، وإمامة الناس، والخطابة، والإفتاء، والتدريس، فهو في الحقيقة كل شيءٍ في البلد؛ فانتشر المذهب الحنفي انتشارًا واسعًا بسبب ذلك، وكذلك أيضًا: محمد بن حسن الشيباني، نشر المذهب الحنفي بمؤلفاته، وانتصابه للتعليم والتدريس، فكثر تلامذته، ثم بعد الدولة العباسية، أتت الدولة العثمانية، الدولة العثمانية حكمت بالمذهب الحنفي، وتعرفون اتساع رقعة الدولة العثمانية، فانتشر المذهب الحنفي انتشارًا واسعًا في البلاد التي حكمها العثمانيون، إلى وقتنا هذا يعتبر المذهب الحنفي من أوسع المذاهب انتشارًا، لكن المذهب الحنبلي من أقلها انتشارًا، لكن المذهب الحنبلي بدأ الآن ينافس في الانتشار المذهب الحنفي، وسنتكلم عن هذا وأسباب ذلك عندما نتكلم عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
-
الإمام مالك بن أنس
يليه الإمام مالك بن أنسٍ: هو أحد الأئمة الأربعة، وهو مؤسس مذهب المالكية، وإمام دار الهجرة كما يقال، ومالك بن أنس بن مالكٍ الحِمْيري الأصبحي، ولد ونشأ بالمدينة، قال عنه الذهبي في “السير”: “لم يكن أحدٌ بالمدينة عالمٌ بعد التابعين يشبه مالكًا في العلم والفقه والجلالة”، ورد حديثٌ صحيحٌ عن النبي -يعني بعض أهل العلم صححه، وبعضهم يضعفه، في سنده مقالٌ- أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم، يقول فيه النبي : ليضربن الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة [2]، وقيل: إن المقصود بهذا العالم الإمام مالك بن أنسٍ؛ ولهذا قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: “لا ريب أنه لم يكن أحدٌ يَضرب إليه الناس أكباد الإبل أكثر من مالكٍ”.
الإمام مالكٌ -كما قلنا- كان في عصره من هو أعلم منه، وذكرنا مقولة الشافعي: “الليث أعلم من مالكٍ، إلا أن طلابه لم يقوموا به”، لكن كان عنده ورعٌ عجيبٌ وتقوى، كان عنده صدقٌ وورعٌ وتقوى، لدرجة أنه كان أحيانًا يُسأل في المسائل فكان يجيب في معظمها بـ”لا أدري”، سئل عن ثمانٍ وأربعين مسألةً، فأجاب في ثنتين وثلاثين مسألةً بـ”لا أدري”، وأتى إليه أحد الناس من بلدٍ بعيدٍ، جَمَع له مسائل، فكلما سأل مالكًا قال: “لا أدري”، سأله السؤال الثاني، قال: “لا أدري”، سأله كذا سؤالًا، قال: “لا أدري”، قال: “أتيتك من مكانٍ بعيدٍ، قال: ارجع إلى الناس، وقل لهم: سألت مالكًا فقال: لا أدري”، انظر إلى الصدق وإلى التقوى وإلى الورع! وكان يقول: “ينبغي للعالم أن يُورِّث جلساءه قول: “لا أدري”، حتى يكون أصلًا يفزعون إليه”، لا يعيب الإنسان إذا سُئل عن مسألةٍ أن يقول: “لا أدري”، أما أن يفتي الإنسان بغير علمٍ، فهذا هو الذي لا يجوز، وإذا قال الإنسان: لا أدري، فيما لا يدري وَثِق الناس فيما يدري، ووَثِق الناس في علمه، وعرفوا أن هذا لا يفتي إلا عن علمٍ، ولهذا نجد أن السلف كانوا يتورعون من الفُتيا، فكان المستفتي يأتي للصحابة ، فكلٌّ يحيل على أخيه، ويود أن أخاه قد كفاه، حتى يعود السائل إلى المسؤول الأول.
الإمام مالكٌ رحمه الله طُلب للقضاء وامتنع أيضًا، وحصل له محنةٌ عظيمةٌ، ابتُلي، هذه سُنَّة الله ، أشد الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل [3]، فابتُلي الإمام مالكٌ وضُرب بالسياط حتى انخلعت أكتافه، فكان إذا أراد أن يصلي صلى وهو سادل اليدين، يعني لا يضع على صدره؛ بسبب انخلاع أكتافه من شدة الضرب، واختلف في سبب ذلك، لكن في كل حالٍ هو حصل له هذا الابتلاء، قال بعض الرواة: “والله ما زال مالكٌ بعدها في رفعةٍ وعلوٍّ”.
الإمام مالكٌ يختلف عن غيره من الأئمة الذين نتكلم عنهم بأنه كان صاحب مالٍ، كان غنيًّا، وكان عنده عبيدٌ وحشمٌ وخدمٌ، لكن كانت الدنيا في يده ولم تكن في قلبه، فكان له منهجٌ، كان يرى أن الله تعالى أنعم عليه بهذه الأموال، وبالخدم وبالحشم، وأن هذا لا يتعارض مع طلب العلم، ومع تعليم العلم، ومع نشر العلم، فكان مثالًا للعالم الغني، فكان صاحب أموالٍ وخدمٍ وقصورٍ، لكن -كما ذكرنا- كانت الدنيا في يده ولم تكن في قلبه.
أحد العباد انتقد الإمام مالكًا، قال: “إنه ليس بكثير صلاةٍ ولا صيامٍ”، كتب إليه -كما ذكر الذهبي في “السير”- كتب إلى الإمام مالكٍ يحثه على الانفراد والعمل، وأنه ليس بكثير النوافل، ليس بكثير صلاةٍ ولا صيامٍ، رد عليه الإمام مالكٌ بردٍّ حقيقةً جميلٍ، يعتبر منهجًا، فقال: “إن الله قسَّم الأعمال كما قسَّم الأرزاق، فرب رجلٍ فُتح له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يُفتح له في الصوم، وذكر أمورًا، ثم قال: وما أظن ما أنا فيه دون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على برٍّ وخيرٍ”.
وعلق الذهبي على هذا قال: “قد كان هذا -يعني الإمام مالكٌ- خيرًا مما فيه هذا العابد”.
الناس فتوحاتٌ وطاقاتٌ، بعض الناس يفتح عليه في باب الصوم، تجده كثير صيام النافلة، يصوم يومًا ويفطر يومًا، فتح الله عليه في هذا الباب، بعض الناس يفتح الله عليه في باب تلاوة القرآن، دائمًا المصحف معه، وبعض الناس يفتح الله عليه في البذل والإنفاق والصدقة، وبعض الناس يفتح الله عليه باب الصلاة، وبعض الناس يفتح الله عليه باب نشر العلم وتعليمه، وبعض الناس يفتح الله عليه في باب الدعوة إلى الله ، فهي فتوحات ينبغي أن يغتنم الإنسان الباب والمجال الذي فُتح له فيه، ولا يعيب بعضنا بعضًا، فأنت فتح لك في هذا الباب، وأنا لم يفتح لي في هذا الباب، إذنْ ينبغي أن تغتنم هذا الباب الذي فُتح لك فيه.
هذا كان -يا إخواني- منهج السلف، الإمام مالكٌ رد على هذا، قال: إن هذه فتوحاتٌ وأقسامٌ كقسمة الرزق، ولذلك قال: “إن الله قسَّم الأعمال كما قسَّم الأرزاق”، فهي في الحقيقة فتوحاتٌ من الله ، فالإمام مالكٌ فتح الله عليه في باب نشر العلم وتعليمه، وليس كل الناس فتح الله عليه في باب صيام النوافل، وليس كل الناس فتح عليه في باب مثلًا تلاوة القرآن، أو تعليم الناس القرآن، ليس كل الناس فتح الله عليه في باب البذل والإنفاق، كلهم في المجال الذي يفتح الله عليه فيه، المهم أنه يعرف المجال الذي يُحسنه، والذي يفتح الله عليه فيه، ويغتنمه فيما ينفع به نفسه، وينفع به غيره من المسلمين.
على سبيل المثال: أبو عبدالرحمن السُّلَمِي، فتح الله عليه في مجال تعليم الناس العلم، بقي في مجلسه سبعين سنةً يعلم الناس القرآن، يقول: “أقعدني هذا المَقعد حديثٌ بلغني عن رسول الله “، وهو حديث عثمان: خيركم من تعلم القرآن وعلمه [4]، فجلس في مسجده سبعين سنةً يعلم الناس القرآن؛ حتى ينال هذه الخيرية.
فإذنْ -يا إخواني- ينبغي أن يكون لكل واحدٍ منا أثرٌ في الحياة، وينظر إلى المجال الذي يُحسنه ويركز عليه، حتى ينفع الله به في حياته وبعد مماته، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12]، الآثار إذنْ تكتب للإنسان، فانظر أنت الآن، افترض لو أن الله قدر عليك هذه اللحظة، ما هي آثارك في الحياة؟ ما هي آثارك من علمٍ مثلًا نشرته، من صدقةٍ جاريةٍ، ما هي آثارك في الحياة؟ فلا بد أن يكون لكل واحدٍ منا آثارٌ في هذه الحياة؛ حتى يكتب له أجرها وثوابها بعد مماته.
الإمام مالكٌ رحمه الله، ذكرنا أنه كان من العلماء السادة، ذا حشمةٍ وتجملٍ، وعبيدٍ، ودارٍ فاخرةٍ، ونعمةٍ ظاهرةٍ، ورفعةٍ في الدنيا والآخرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، اشتهر مذهبه في المدينة، ثم انتشر في مصر، وانتشر أكثر ما انتشر في بلاد المغرب العربي، إلى الآن بلاد المغرب العربي المذهب السائد فيها هو مذهب الإمام مالك بن أنسٍ، مذهب المالكية، مذهب الإمام مالكٍ هو في الحقيقة أجود المذاهب الأربعة في المعاملات، يقول أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: “أصول مالكٍ في البيوع أجود من أصول غيره، فإنه أخذ ذلك عن سعيد ابن المسيَّب، الذي يقال هو أفقه الناس في البيوع”، ولهذا تأملْ في مسائل المعاملات تجد في الغالب أن مذهب المالكية هو أرجح المذاهب في المسائل الخلافية في أبواب المعاملات.
-
الإمام الشافعي
يلي الإمام مالكًا بعد هذا: الإمام الشافعي، وهو محمد بن إدريس الشافعي، وهو قرشيٌّ هاشميٌّ، ولد بغزة فلسطين في السنة التي توفي فيها أبو حنيفة، أبو حنيفة توفي في سنة مئة وخمسين، في تلك السنة ولد الشافعي، وحُمل إلى مكة، من غزة إلى مكة، وعمره سنتان، ونشأ يتيمًا، فنجد أن معظم العلماء نشأوا في اليتم، مثلًا أحمد نشأ يتيمًا، والشافعي نشأ يتيمًا، وكثير من الأئمة والعلماء نجد أنهم نشأوا في اليتم، فاليتم ما كان عائقًا، بل كان حافزًا لهم، وطَلَبَ العلم وارتحل إلى بلدانٍ، وقد كانت الرحلة في طلب العلم معروفةً عند السلف، فعندما تقرأ الآن سيرة أي عالمٍ من العلماء تجد أن في سيرته: ارتحل إلى بلاد كذا وكذا.
فكان السلف يرتحلون لطلب العلم، الآن أصبح العلم يأتي للناس، ومع ذلك تجد من الناس من يستثقل، تقول: يا فلان، لماذا لا تذهب مثلًا إلى درس كذا، أو لقاءٍ علميٍّ في مكان كذا؟ يقول: والله المكان بعيدٌ، سبحان الله! كيف يكون بعيدًا والسلف كانوا يرحلون ويقطعون القِفار والفيافي والمسافات البعيدة؟! بل أُثر عن بعضهم أنه ارتحل لأجل سماع حديثٍ واحدٍ فقط؛ مثل جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما، ارتحل من المدينة إلى الشام؛ من أجل سماع حديثٍ واحدٍ فقط، ومكث في هذه الرحلة شهرين؛ شهرًا في الذهاب، وشهرًا في الإياب؛ من أجل سماع حديثٍ واحدٍ فقط، فينبغي -يا إخواني- أن يكون عندنا الحرص على طلب العلم، الحرص على الخير، ولذلك حضور مثل هذا اللقاء -في الحقيقة- مما يستفيد منه الإنسان، مما يُثري المعلومات عنده، مما يزيده علمًا ومعرفةً.
الإمام الشافعي رحمه الله أخذ العلم عن عددٍ من الأئمة، منهم الإمام مالكٌ، لاحِظ ارتباط هؤلاء الأئمة بعضهم ببعضٍ، قال الإمام أحمد: “إن الله يقيض للناس في رأس كل مئة سنةٍ من يعلمهم أمر دينهم” -وقد روي هذا مرفوعًا إلى النبي [5]- قال: فنظرنا في رأس السنة الأولى فوجدنا عمر بن عبدالعزيز، ونظرنا في السنة الثانية فإذا هو الإمام الشافعي”.
وكان أحمد يقول: “ما من أحدٍ مس محبرةً ولا قلمًا إلا وللشافعي في عنقه مِنَّةٌ”، وكان الإمام أحمد يُجل الشافعي كثيرًا ويدعو له بظهر الغيب، قال ميمونٌ: سمعت أحمد يقول: “ستةٌ أدعو لهم في السحر، منهم الشافعي”.
ودعاء المسلم -يا إخواني- لأخيه بظهر الغيب مستجابٌ، يستجاب لك ولمن دعوت له، قد جاء في “صحيح مسلمٍ” عن أبي الدرداء أن النبي قال: ما من مسلمٍ يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا كان على رأسه ملكٌ يقول: آمين، ولك بمِثْلٍ [6]، فإذا دعوت لأخيك بظهر الغيب قلت: “اللهم اغفر لفلانٍ”، الملك يقف على رأسك -هذا حديث صحيح مسلمٍ- يقف على رأسه يقول: آمين، ولك بمِثْلٍ.
لا شك -يا إخواني- دعاء تؤمِّن عليه الملائكة حريٌّ بالاستجابة، ولذلك ينبغي لكل واحدٍ منا أن يخص بعض إخوانه بالدعاء، يدعو لهم حتى يكون سببًا لإجابة دعوته، فكان الإمام أحمد رحمه الله يخص ستةً من أصحابه بالدعاء، وكان منهم الشافعي، فيدعو له بالسَّحَر، وكان الشافعي رحمه الله شديد التعظيم لسنة الرسول ، وكان يقول: “إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا تعارض قولي مع قول النبي فاضربوا بقولي عرض الحائط”، وكان يقول: “أي سماءٍ تظلني، وأي أرضٍ تقلني، إذا أنا رَدَدت حديثًا عن رسول الله ولم أقل به”.
الشافعي تميز بإتقانه للغة العرب، وقد يكون من أسباب هذا أنه أقام في صباه في بطون العرب، فأخذ من أشعارها ومن لغاتها، فكان من أفصح الناس، وكان عنده قدرةٌ على نظم الشعر، بإمكانه أن يصبح من أشعر الشعراء، يفوق أشهر الشعراء، لكنه ترك الشعر، لماذا؟ بيَّن السبب في بيته الشهير:
ولولا الشعر بالعلماء يُزري | لكنت اليوم أشعر من لَبِيد |
فمن وظف شعره في الدعوة، وفي الخير، وفي الحق، فهو مشكورٌ يُثنَى عليه بهذا، ومن كان شعره في غير ذلك فهذا هو محل الذم، فالشعر رَأَى الشافعي أنه لا يليق بمقام العلماء فَتَرَكه، وإلا فكان عنده القدرة على قول الشعر، فرأى أنه عالمٌ جليلٌ لا يليق به الشعر؛ لأن الشعر ما ورد في القرآن إلا على وجه الذم، وإن كان طبعًا الشعر لا شك أن حَسَنَه حسنٌ، وقبيحه قبيحٌ، والمذموم هو الإكثار منه، أو الشعر في أمورٍ مذمومةٍ، لكن الشعر في الدفاع عن الخير، وعن الحق، وعن المبادئ الحسنة، وعن الدعوة، هذا لا بأس به، والنبي دعا لحسان وقال: اللهم أيِّده بروح القدس [7]، وأثنى عليه، وكان هناك عبدالله بن رواحة ، لكن إذا نظرنا إلى غالب الشعراء نجد أنهم كما قال الله : وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224]، يعني أتباع الشعراء في الغالب من الغاوين، فإذا كان اتباعهم الغاوين فهم أولى بوصف الغواية، تأمل الآية: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إلا من؟ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:224-227].
الإمام الشافعي نشر مذهبه أولًا في العراق، ثم بعد ذلك في سنة تسع وتسعين ومئة ارتحل إلى مصر، لمَّا تغيرت عليه البيئة، تغيرت كثيرٌ من اجتهاداته، لاحِظ، البيئة تؤثر على نظرة العالم للأمور والأشياء، فتغيرت كثيرٌ من اجتهاداته، فأصبح له مذهبٌ جديدٌ؛ ولذلك يقال: عند الشافعي المذهب القديم، والمذهب الجديد، المذهب القديم في العراق، والمذهب الجديد في مصر.
الإمام الشافعي رحمه الله هو أول من صنف في أصول الفقه، وله في هذا كتاب “الرسالة”، وكان عبدالرحمن المهدي يقول: “ما أصلي صلاةً إلا وأدعو للشافعي فيها”، فهو أول من وضع قواعد هذا العلم وهذا الفن، والكلام عن سيرته حقيقةً يطول.
-
الإمام أحمد بن حنبل
لكنني أنتقل لآخر هؤلاء الأئمة الأربعة: وهو الإمام أحمد بن حنبلٍ، والذي يعتبر هو إمام أهل السنة والجماعة، وهو أحمد بن حنبلٍ الشيباني، ولد ببغداد سنة مئةٍ وأربعةٍ وستين، مات أبوه وهو صغيرٌ، مثل الشافعي، فنشأ يتيمًا، اليُتم -يا إخواني- لهؤلاء لم يكن عائقًا، بل كان محفزًا لهم، انظر، بعض الناس عندما يصاب بمثل هذه الظروف الاجتماعية الصعبة، خاصةً في أزمانهم، كان من نشأ يتيمًا ينشأ فقيرًا، ينشأ ما عنده مالٌ، لكن هذا ما كان عائقًا لهؤلاء، بل كان حافزًا لهم، كان في الحقيقة من أسباب أيضًا تميزهم؛ ولذلك من يعتذر بمثل هذه الأعذار: أنا والله نشأت في بيئة كذا، نقول: انظر إلى هؤلاء نشأوا ما لهم آباء، وقت فقرٍ وشدةٍ، ومع ذلك أصبحوا أئمةً، لكن كان من ورائهم أمهاتٌ صالحاتٌ، فكان الإمام أحمد وراءه أمٌّ صالحةٌ، بعثته لطلب العلم وهو صغيرٌ، فارتحل وطلب العلم في بلدانٍ كثيرةٍ، ورزقه الله قوة ذاكرةٍ وقوة حفظٍ.
تعرفون -يا إخواني- العرب متميزين بقوة الذاكرة، العرب يسمعون القصيدة من مئتي بيتٍ يحفظونها من أول مرةٍ، ابن عباسٍ رضي الله عنهما كان يحفظ القصيدة من أول مرةٍ يسمعها، الزُّهري كذلك، الشَّعبي، بل كانوا يرون عيبًا أنهم يطلبون من الشاعر أن يعيد القصيدة مرةً ثانيةً، ولذلك نقلوا لنا القرآن والسنة، فمعظم الصحابة كانوا أميين، لا يقرأون ولا يكتبون، ونقلوا لنا القرآن والسنة، وكانوا متميزين بقوة الذاكرة، لكن الآن أين الذي يحفظ ليس من أول مرةٍ بل من عاشر مرةٍ؟ ولهذا يحتاج الإنسان إلى أن يقيد الفوائد حتى لا تضيع، وإلا فإنه إذا بقي يعتمد على ذاكرته مع ضعفها تضيع كثيرٌ من الفوائد التي يسمعها.
الإمام أحمد -كما ذكرت- تميز بقوة الحفظ، فحفظ كثيرًا من الأحاديث، يقول عبدالله ابن الإمام أحمد: قال لي أبو زرعة: “أبوك يحفظ ألف ألف حديث” -ألف ألف، يعني كم؟ مليون حديثٍ، يحفظ مليون حديثٍ!- فقيل لأبي زرعة: وما يدريك؟ قال: “ذاكَرْته فأخذت عليه الأبواب”، يعني أنه أخطأ فقط في الأبواب، وأما الحديث فضَبَطَه، مليون حديثٍ! لكن كما يقول الذهبي: “إن هذه الحكاية صحيحةٌ في سعة علم أبي عبدالله؛ لأنهم كانوا يعدون في ذلك المكرر، والأثر، وفتوى التابعي، وما فُسِّر، وإلا الأحاديث أقل من هذا”، لكن إذا عددتها بهذا الاعتبار تجد أنها تصل إلى مليون حديثٍ، يقول إبراهيم الحربي: “رأيت أبا عبدالله كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين”، عالمٌ جليلٌ بحرٌ.
ويقول المَرُّوذي: “لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس الإمام أحمد، كان مائلًا إليهم، مُقْصِرًا عن أهل الدنيا”، الفقراء كانوا أعزةً في مجلس الإمام أحمد، تجد الغالب على النفوس هو احتقار الفقراء والمساكين، عندما يأتي فقير والمسكين يكون في طرف المجلس، ويُحتقر ويزدرى وينهر، لكن كان الإمام أحمد لا. يُعز الفقراء، هذا أيضًا يذكرنا بسماحة شيخنا عبدالعزيز ابن بازٍ رحمه الله، كانت مجالسه تكون عامرةً بالفقراء والمساكين، فالنفوس بطبعها تزدري الفقراء، ولنا عبرةٌ في قصة أصحاب الجنة التي ذكرها الله ، لمَّا كان أبوهم يعطي الفقراء والمساكين، ولما مات أقسموا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ [القلم:16،17].
الإمام أحمد كان رحمه الله يعطف على الفقراء والمساكين ولا يزدريهم ولا يحتقرهم، كان عنده عنايةٌ بالصلاة، وهي أحب العمل إلى الله يا إخواني، ذُكر في سيرته وترجمته: أنه كان يصلي لله تعالى في اليوم والليلة تطوعًا من غير الفريضة ثلاثمئة ركعةٍ، تصوروا يا إخواني! ثلاثمئة ركعةٍ؛ لأن أحب العمل إلى الله الصلاة، وقد سُئل النبي هذا السؤال، سأله ابن مسعودٍ قال: يا رسول الله، أي العمل أحب إلى الله؟ قال الصلاة على وقتها [8]، الصلاة يجتمع فيها من الأعمال الصالحة ما لا يجتمع في غيرها، فيها تلاوة قرآنٍ، فيها ركوعٌ وسجودٌ، تعظيمٌ لله ، تسبيحٌ، تحميدٌ، تكبيرٌ، دعاءٌ، هذا لا يجتمع في غير الصلاة؛ ولذلك الصلاة أحب العمل إلى الله ، ولذلك إذا أردت أن تعرف أحب عملٍ يقربك إلى الله فأكثر من الصلاة؛ فمثلًا الليل، ما فيه وقت نهيٍ، لك أن تصلي مثنى مثنى، كما كان الإمام أحمد يصلي ثلاثمئة ركعةٍ، النهار لك أن تصلي لكن تتحاشى الصلاة في أوقات النهي، فمثلًا عندما تذهب للمسجد الجامع يوم الجمعة، كثيرٌ من الناس لا يعرف من الأعمال الصالحة إلا تلاوة القرآن، قراءة القرآن أمرٌ طيبٌ، فالحسنة بعشر أمثالها، لكن ما أحسن أن يجعل تلاوة القرآن في الصلاة، أفضل ما تشتغل به عندما تذهب للجامع يوم الجمعة أن تصلي ركعتين ركعتين، مثنى مثنى، إلى قُبيل الزوال، قبيل أذان الظهر بحدود عشر دقائق، أي وقت النهي.
فالإمام أحمد كان له عنايةٌ بهذا، وكان يقتدي به الحافظ عبدالغني المقدسي صاحب “عمدة الأحكام”، فكان يصلي لله تعالى في اليوم والليلة تطوعًا من غير فريضةٍ ثلاثمئة ركعةٍ، الإمام أحمد ابتلي، كما ذكرنا أن الابتلاء سنة الله ؛ كما قال : أشد الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل [9]؛ لأن كل إنسانٍ يَدَّعي الإيمان، كل إنسانٍ يدعي الصلاة، كل إنسانٍ يدعي التقوى، لكن المحك عندما يُبتلى، يتبين صدقه وقوة إيمانه.
فالإمام أحمد نشأ في وقتٍ انتشر فيه علم الكلام، وكان أول ما انتشر؛ بسبب فتح باب الترجمة في عهد المأمون، شجع المأمون الناس على الترجمة، فترجموا كتب اليونان، فتأثر الناس، هذه من ضريبة الانفتاح، تأثر الناس بكتب اليونان، فانتشر علم الكلام، وانتشرت عقائد جديدةٌ ما كانت معروفةً، وما كانت مأثورةً عن السلف؛ منها مثلًا: أن القرآن مخلوقٌ، وليس مُنزَّلًا، فأصبح جلساء المأمون هؤلاء من المعتزلة، فزينوا له، قالوا: يا أمير المؤمنين، القرآن مخلوقٌ، وليس منزلًا. المأمون تحمس لهذا الرأي وألزم الناس به، فأصبح أصحابه وحاشيته يمتحنون الناس، خاصةً العلماء: هل القرآن منزلٌ أم مخلوقٌ؟ فكان كثيرٌ منهم تأول، تأوَّل العلماء الموجودون؛ خافوا، إلا أربعةً، ثم إن هؤلاء الأربعة اثنان منهم أيضًا تنازلوا، ما أصبح في الأمة كلها إلا اثنان: الإمام أحمد، ومحمد بن نصر بن نوحٍ، وكان شابًّا صغيرًا، فقال المأموم: ائتوا بهما، فذهبوا وأتوا بالإمام أحمد مقيدًا بالسلاسل والحديد، ومعه محمد بن نصر بن نوحٍ، وفي الطريق توفي محمد بن نصر بن نوحٍ، بكى عليه الإمام أحمد، ودعا له، فلم يبق في الأمة كلها إلا الإمام أحمد، وكان في الطريق قد ذهب إليه عالِمٌ اسمه: أبو جعفر الأنباري، قال: “لما حُمل أحمد إلى المأمون أخبرت، فعبرت الفرات، وقلت له: يا هذا، أنت اليوم رأسٌ والناس يقتدون، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلقٌ، وأنت إن لم تجب ليمتنعن خلقٌ من الناس كثيرٌ، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لا بد من الموت، فاتق الله، اتق الله ولا تجب”، فبكى الإمام أحمد بكاءً عظيمًا، وقال: “يا أبا جعفر، أعد عليَّ الكلام مرةً ثانيةً، أعد عليَّ، أعد عليَّ”، فرأى أن هذا الكلام فيه نوع تثبيتٍ له، فالإنسان في وقت المحنة يحتاج إلى مثل هذه الكلمات التي يتقوى بها، وفي الطريق أيضًا لقيه أعرابيٌّ وقال مثل هذه الكلمات، فتقوّى بها، قال: “نفعني الله بكلمات هذا الأعرابي”.
حُبس الإمام أحمد ثمانيةً وعشرين شهرًا، دعا الله تعالى ألا يجمع بينه وبين المأمون، ولعل الله استجاب له فلم يقابل المأمون، لكن أتى من بعده المعتصم، وكان أشد من المأمون فأمر بأن يُجبر الإمام أحمد على القول بخلق القرآن، هذا من العجائب أن يُجبر على رأيٍ! فأبى الإمام أحمد، فقال: اضربوه، وكان في الحقيقة بإمكان هذا الخليفة أن يكون سهلًا، لكن زين له حاشيته واتباعه، وكانوا -كما ذكرنا- من المعتزلة، حتى إن أحدهم يقول: اقتله -يا أمير المؤمنين- ودمه في عنقي يوم القيامة! نسأل الله العافية، لهذه الدرجة زينوا لهذا الخليفة! وهذا أمير المؤمنين، كان الإمام أحمد يضرب إلى أن يخرج منه الدم، وإلى أن يُغمى عليه.
وكان في السجن يقول: “أنا والله لا أخشى من الموت، فكلنا سوف يموت، الموت حقٌّ، لكني أخشى من فتنة السوط”، يعني من التعذيب، وإذا عذبت أخشى أن أفتن في ديني، فسمعه أحد الجلادين فقال له: “ما هو إلا سوطٌ أو سوطان ثم لا تدري أين أنت”، قالوا: فسرِّي عنه لما سمع هذا الكلام، أي: فرح به، وهذا يدل على أن هناك ضربًا شديدًا، وكان قد تأثر بدنه، وصلَّى بالناس مرةً وجرحه يثعب دمًا، فقيل له: دمٌ، يعني فيك آثار الدم، قال: “صلى عمر وحرجه يَثعُب دمًا”، وضعف فكان بعدما كان يصلي تطوعًا من غير الفريضة ثلاثمئة ركعةٍ، أصبح يصلي مئةً وخمسين ركعةً؛ بسبب تأثره بشدة الضرب.
ثم بعد ذلك أتى بعد المعتصم.. -لاحِظ! مر عدة خلفاء- أتى بعده الواثق، فكان على طريقة المعتصم؛ لأن هؤلاء المعتزلة هم المسيطرون على مجالس هؤلاء، ثم قيل للإمام أحمد -انظر إلى تمسكه بالسنة- أتى إليه بعض فقهاء بغداد، وقالوا: إن الأمر قد تفاقم وانتشر، ولا نرضى بولاية هذا ولا بخلافته، هذا يقول: كذا، وهذا يقول: كذا، فدعنا نخرج معه والأمة معك، قال: لا، وغضب غضبًا شديدًا، وقال: لا، اصبروا، هذا خلاف السنة، هذا خلاف الآثار، اصبروا حتى يستريح برٌّ ويُستراح من فاجرٍ، وإلا كان يكفي إشارةٌ من الإمام أحمد والأمة معه، لكنه رأى أن الخروج على ولي الأمر مخالفٌ للسنة، ومخالفٌ لمذهب السلف في هذا، وكان يدعو للسلطان، يدعو له بالهداية والتوفيق، وهذا في حقه درسٌ بليغٌ، الإمام أحمد لو أراد أن ينتقم لنفسه لاستجاب لهؤلاء، لكنه رأى أن هذا خلاف النصوص، ولذلك أمر أصحابه بالصبر، فكانت العاقبة له ولهم.
بقي على هذا ثمانيةً وعشرين شهرًا، حتى أتى المتوكل، ألان الله قلبه للسنة، فأطلق الإمام أحمد، وأظهر السنة، ثم رجع الناس كلهم إلى قول الإمام أحمد بأن القرآن منزلٌ غير مخلوقٍ، كل الناس رجعوا، حتى المتوكل رجع، فأصبح يقول: القرآن منزلٌ غير مخلوقٍ، ولهذا يقولون أعز الله الإسلام برجلين: بأبي بكرٍ يوم الردة، وبأحمد ابن حنبلٍ يوم المحنة.
وكان زاهدًا تقيًّا ورعًا، كان عنده من الورع والتقوى والزهد والصدق الشيء العظيم في هذا، ومذهب الإمام أحمد -مع إمامته، ومع جمعه للحديث والفقه- هو أقل المذاهب الأربعة انتشارًا، وربما يكون من أسباب هذا أنه آخرها ظهورًا.
وأصحاب الإمام أحمد هم -في الحقيقة- أقرب المذاهب الأربعة تمسكًا بالسنة، لكن -ولله الحمد- لما قامت الدولة السعودية الأولى والثانية ثم الثالثة، تبنَّت المذهب الحنبلي فنشرته، فانتشر، حتى إن بعض من كتب في هذا يقول: إن المذهب الحنبلي الآن يكاد يكون أكثر من المذاهب الأربعة انتشارًا، فنشرت الدولة السعودية المذهب الحنبلي، وطبعت كتبه وحققت، وانتشرت انتشارًا واسعًا في كثيرٍ من الأقطار.
لاحِظ أثر الدولة في نشر المذاهب؛ الدولة العثمانية، والدولة العباسية، نشرتا المذهب الحنفي، ولما أتت الدولة السعودية نشرت المذهب الحنبلي، وإن كان الناس -ولله الحمد- الآن على الدليل، يعني التعصب الذي كان موجودًا فترةً مضت يكاد يكون الآن انقضى، أو قلَّ بدرجةٍ كبيرةٍ، فأصبح الناس يتعصبون للدليل من الكتاب والسنة.
اكتفي بهذا القدر، وإلا فالحديث عن سير هؤلاء يطول ولا يُمل، لكن أقتصر على ما قلت، وأسأل الله لي ولكم الفقه في الدين، والعلم النافع والعمل الصالح.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أبو داود: 3573، وابن ماجه: 2315. |
---|---|
^2 | رواه الترمذي: 2680، وأحمد: 7980. |
^3 | رواه الترمذي: 2398، وابن ماجه: 4023، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. |
^4 | رواه البخاري: 5027. |
^5 | رواه أبو داود: 4291. |
^6 | رواه مسلم: 2732. |
^7 | رواه البخاري: 453. |
^8 | رواه البخاري: 527، ومسلم: 139. |
^9 | سبق تخريجه. |