جدول المحتويات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد:
فالحديث في هذه المحاضرة عن رحلة إيمانيةٍ مباركةٍ، وعن مدرسةٍ عظيمةٍ للمسلم، مدرسةٌ مليئةٌ بالدروس، مدرسة مليئة بالعِبَر، مدرسةٌ مليئةٌ بالعِظات، مدرسةٌ مليئةٌ بالمنافع، منافع عظيمة في الدنيا والآخرة، إنها مدرسة الحج، الحج الذي هو ركنٌ من أركان الإسلام، وفريضةٌ من فرائض الدين، فرضه الله تعالى على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ في العمر مرة واحدة، وما زاد فهو تطوُّع، فرضه الله تعالى على المستطيع: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
الحج دعوة نبينا إبراهيم
حجُّ بيت الله الحرام، بيت الله الذي حرَّمه يوم خلق السماوات والأرض، حرم الله مكة يوم خلق السماوات والأرض، وأمر خليله إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام أن يرفعا القواعد من البيت، فامتثلا أمر ربهما ورفعا القواعد وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، ولما فرغا من بناء البيت أمر الله تعالى إبراهيم الخليل أن يُؤذِّن في الناس بالحج، فقال: يا ربِّ وما يبلغ صوتي؟ قال: أذِّن، وعلينا البلاغ. فقام إبراهيم وأذَّن، وقال: أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحجُّوا. فأسمع الله تعالى هذا النداء وهذا الأذان مَن في الأصلاب ومن في الأرحام ممن كتب الله تعالى له أن يحج إلى يوم القيامة[1].
وهذا هو معنى قول المُلّبِّي: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، فعندما يقول المُلَبِّي سواء كان حاجًّا أو معتمرًا: "لبيك اللهم لبيك" فالمقصود: أي إجابةً لك بعد إجابة. إجابةً لك في ماذا؟ إجابةً لك في النداء بحج بيتك الحرام على لسان الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ فأنت عندما تقول: لبيك اللهم لبيك؛ يعني: إجابةً لك يا ربنا نداءك لنا حجَّ بيتك الحرام.
وإن هذا البيت قد جعل الله تعالى فيه خاصية التعلُّق؛ تعلُّقُ القلوب به قدَرًا وشرعًا، كما قال سبحانه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]، مثابةً أي: يثوبون إليه، يرجعون إليه عامًا بعد عام، لا يقضون منه وطرًا؛ ولهذا تجد أن المسلمين يشتاقون إلى هذا البيت، ما إن يرجعون منه إلا ويشتاقون إليه مرة أخرى، هذه خاصية لبيت الله الحرام: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا. فانظروا إلى تعلُّق الناس ببيت الله الحرام! إلى اشتياق المسلمين إلى بيت الله الحرام! إلى محبة الناس للإتيان إلى هذا البلد الأمين! وهذه خاصية لا توجد في غير هذا المكان: أن يتوافد إليه الناس من جميع أقطار الدنيا مختارين بل مشتاقين بل متلهفين للوصول إلى هذه البقاع الطاهرة.
أيها الإخوة في الله، ومنذ أن أذَّن إبراهيم الخليل في الناس بالحج وبيت الله يُحَجُّ إلى يومنا هذا، لم ينقطع الحج إلى بيت الله الحرام في سنةٍ من السنين، منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، وبيت الله يُحَجُّ، وسيُحَجُّ إلى قيام الساعة.
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]، انظروا أيها الإخوة لهؤلاء الحُجاج الذين يأتون لبيت الله الحرام من جميع أقطار الدنيا! لو تأملت في البلدان التي أتوا منها والأقطار التي أتوا منها؛ لوجدت أنه ما من قُطر في الدنيا إلا وأتى منه حُجاج، جميع أقطار الدنيا من أقصى الشرق وأقصى الغرب وأقصى الشمال وأقصى الجنوب، من كُلِّ فَجٍّ عميق؛ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، ما هي هذه المنافع؟
أجملها الله لكثرتها ولتفاوت الناس في الحصول عليها، وقد أتت كلمة مَنَافِعَ على صيغة منتهى الجموع التي تُفيد الكثرة؛ ولأنها منافع لا يمكن حصرها، وربما تتجدد المنافع مع تجدد الأزمان، وسنتكلم -إن شاء الله تعالى- في هذه المحاضرة عن جملة من هذه المنافع.
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:28]، خصَّ الله تعالى هذه المنفعة بالذكر، وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ: أما المنافع الدنيوية فظاهرة، وأرباب الدنيا وأهل التجارة ينتفعون من موسم الحج: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، لكن حديثنا في هذه المحاضرة عن المنافع الأخروية مع ما يكتسبه المسلم من أخلاق وفضائل.
منافع الحج وفوائده
عظيم الأجر والثواب والتزوُّد بزاد التقوى
أول هذه المنافع: عظيم الأجر والثواب والتزوُّد بزاد التقوى؛ فإن الحج أيها الإخوة ورد فيه من الفضل والأجر والثواب ما لم يَرِد في غيره من العبادات، واستمعوا، أذكر لكم بعض النصوص الواردة في هذا:
أولًا: أذكر من القرآن قول الله سبحانه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، ومعنى الآية كما ذكر ابن جرير الطبري وغيره: أن من أتى بالحج واتقى الله تعالى فيه؛ فإنه يرجع ولا إثم عليه، يعني: قد حُطَّت عنه ذنوبه وخطاياه، سواءٌ تعجَّل أو تأخر، وليس المعنى: فمن تعجَّل فلا حرج عليه ومن تأخر فلا حرج عليه؛ لأنه لا يقال لمن تأخر: لا حرج عليك في التأخُّر، ولكن المعنى: أنه تُحَطُّ عنه ذنوبه وخطاياه. هذا هو القول الأظهر في تفسير الآية.
ويُفهَم منه جواز التعجُّل في يومين والتأخُّر، يُفهَم منه هذا، لكن المعنى الأساس في هذه الآية عند كثيرٍ من المفسرين أن المقصود: أن من اتقى الله في حجه فإنه يرجع ولا إثم عليه، يعني: قد حُطَّت عنه ذنوبه وخطاياه، سواءٌ تعجَّل أو تأخَّر.
ومن السنة عدة أحاديث، منها ما جاء في الصحيحين أن النبي قال: العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة[2].
وأيضًا في الصحيحين من حديث أبي هريرة : سئل النبي : أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: إيمانٌ بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهادٌ في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حجٌّ مبرورٌ[3]. فجعل النبي الحج المبرور من أفضل الأعمال.
وأيضًا جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد -يعني: النساء-؟ قال: لا، ولكن عليكن جهادٌ لا قتال فيه؛ الحج والعمرة[4]. فسمَّاه النبي "جهادًا"، وفي رواية: ولكن أفضل الجهاد حج مبرور[5].
مغفرة الذنوب والخطايا
وأيضًا جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: من حَجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه[6].
الإنسان الذي ولدته أمه هل عليه ذنوب؟ هل عليه خطايا؟ هل عليه سيئات؟ هكذا الإنسان الذي حجَّ ولم يرفُث ولم يفسُق، اتَّقَى الله في حجِّه، لم يحصل منه رفثٌ ولا معاصٍ -الفسوق يعني: معاصٍ- ووقع حجُّه مبرورًا.
والحج المبرور قيل: معناه: المقبول، وقيل: معناه: الذي لا يُخالطه إثمٌ. والأقرب والله أعلم في معناه: أنه الحج الذي وُفِّيت أحكامه وأتى به صاحبه على الوجه الأكمل، ولم يُخالطه إثمٌ ولا معصيةٌ.
هذا هو الحج المبرور، أتى به صاحبه على الوجه الأكمل، ولم يُخالطه إثمٌ ولا معصيةٌ، هذا يكون حجًّا مبرورًا، تُحَطُّ عن الإنسان جميع ذنوبه وخطاياه.
هل تُحَطُّ الكبائر؟ هل تُغفَر كبائر الذنوب؟ أم أن المغفرة خاصة بالصغائر؟
ظاهر الأحاديث يدل على أن مغفرة الذنوب تشمل الصغائر والكبائر؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه معناه: أنه تُحَطُّ عنه جميع خطاياه؛ لأن المولود الذي ولدته أمه ليس عليه ذنبٌ؛ لا صغيرة ولا كبيرة، هكذا من حجَّ حجًّا مبرورًا لم يرفُث فيه ولم يفُسق؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "إن ظاهر هذا الحديث غفران الصغائر والكبائر والتبعات"، قال: "وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرِّح بذلك".
ما هو حديث العباس بن مرداس ؟
حديث العباس بن مرداس في الحقيقة -أيها الإخوة- هو بشرى للحجاج، حديث العباس بن مرداس صنَّف فيه الحافظ ابن حجر رسالة، وهي مطبوعة وموجودة في المكتبات، سمَّاها "قوة الحِجاج في عموم المغفرة للحاج"، تتبع طرق هذا الحديث، وخلص إلى أنه حديثٌ ثابتٌ، قال: "إنه حسنٌ عند الجمهور".
هذا الحديث: عن العباس بن مرداس : أن رسول الله دعا عشية عرفة لأُمَّته بالمغفرة والرحمة فأكثَرَ الدعاء، فأجابه الله أنْ قد فعلتُ وغفرت لأُمَّتك إلا من ظلم بعضهم بعضًا، فقال: يا رب إنك قادرٌ على أن تغفر للظالم وتُثيب المظلوم خيرًا من مظلمته، فلم يُجب تلك العشية، فلما كان من الغد غداة مزدلفة عاد النبي يدعو لأُمَّته، فما لبث أن تبسَّم، فقال بعض أصحابه : يا رسول الله بأبي أنت وأمي، ضحكتَ في ساعةٍ لم تكن تضحك فيها! فما أضحكك أضحك الله سنك؟! قال: تبسَّمت من عدوِّ الله إبليس حين علم أن الله قد استجاب لي في أُمَّتي وغفر للظالم، أهوى يدعو بالثُّبُور والويل، ويحثو التراب على وجهه، فتبسَّمت مما يصنع من جزعه[7]. يعني: المغفرة شملت حتى التبِعات، وأن الله تعالى يغفر للظالم ويُثيب المظلوم خيرًا من مظلمته، هذا لمن وقع حجُّه مبرورًا. فانظروا أيها الإخوة إلى عظيم ثواب وأجر الحجِّ المبرور!
ولهذا؛ فإن الحج المبرور يهدم جميع الذنوب التي قبله، قد جاء في قصة إسلام عمرو بن العاص -كما في صحيح مسلم- أنه لما أراد أن يُسلِم قال للنبي : ابسُط يمينك أُبايعك. فبسط النبي يمينه فقبض عمروٌ يمينه، فقال النبي : لِمَ يا عمرو؟، قال: أردت أن أشترط. قال: تشترط ماذا؟، قال: أن يُغفر لي. فقال عليه الصلاة والسلام: أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله[8]. يعني من الذنوب والخطايا، وهذا في "صحيح مسلم".
فإذًا؛ الحج يهدم جميع الذنوب التي قبله لمن اتقى الله تعالى في حجه وكان حجه مبرورًا، وهذه والله من أبرز منافع الحج.
زيارة البيت العتيق
وأيضًا من أبرز منافع الحج: زيارة البيت العتيق، أول بيت وضع للناس: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96]، وحقٌّ على كُلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ أن يزور هذا البيت العتيق ويطوف به ولو في العمر مرة واحدة، بيت الله الذي يستقبله كُلَّ يوم خمس مرات في اليوم والليلة، يستقبله خمس مرات. حقٌّ على كل مسلم ومسلمة أن يزور هذا البيت العتيق، وأن يطوف به ولو في العمر مرة واحدة.
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاةٍ فيما سواه، مائة ألف صلاة[9]، بعض أهل العلم حَسَبها، لو أردنا أن نَحْسِبها: مائة ألف صلاة في عدد الصلوات في السنة الواحدة، يعني: عدد الصلوات الخمس في السنة الواحدة، إذا ضربنا (5) في (354) تساوي 1770 صلاة، فإذا قسمنا (100,000) على (1770) يخرج: سِتٌّ وخمسون سنةً وكسرٌ، يعني: من صلَّى في المسجد الحرام خمس صلوات يُعادل من صلَّى في غير المسجد الحرام ستًّا وخمسين سنةً وأشهرًا. فانظروا إلى هذا الفضل العظيم وهذا الثواب الجزيل!
وأيضًا الطواف بالبيت ورد فيه فضلٌ وثوابٌ؛ يقول عليه الصلاة والسلام: من طاف بالبيت أسبوعًا يعني: سبعة أشواط لا يلغو فيه، كان كعِدْل رقبةٍ يعتقها. رواه الطبراني[10] وهو حديث صحيح.
وأيضًا جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: من طاف بالبيت وصلَّى ركعتين كان كعتق رقبة[11]. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآخر: من طاف بالبيت أسبوعًا يعني: سبعة أشواط لا يضع قدمًا ولا يرفع أخرى إلا حطَّ الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة، ورفع له بها درجة. رواه ابن خزيمة[12] وهو حديث حسن.
إظهار علوِّ دين الإسلام
وأيضًا من المنافع: إظهار علوِّ دين الإسلام، وتميُّزه وظهوره وعلوِّه على سائر الأديان، وهذا أمرٌ قد تكفَّل الله تعالى به؛ يقول الله : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، فالله تعالى تكفَّل بإظهار هذا الدين.
في الحقيقة، إنه في الحج يظهر هذا الدين، كيف هذا؟ عندما ترى جموع الحجيج أتت من كل فجٍّ عميق، أتت راغبةً مشتاقةً متلهِّفةً مختارةً، وتجتمع في المشاعر في زمان واحد وفي مكان واحد وبلباس واحد، في عرفات وفي مزدلفة بلباس واحد وغرضها واحد، هدفها واحد تدعو ربًّا واحدًا، لا شك أن هذا المظهر مظهرٌ عظيم، مظهرٌ لا يوجد في غير دين الإسلام من الأديان.
هل هناك دين من الأديان يجمع مثل هذه الجموع من جميع أقطار الدنيا في وقت واحد وفي زمان واحد ويجتمعون بلباس واحد؟ لا، أبدًا، لا تجد في أيِّ دينٍ من الأديان ولا في أيِّ ملة من الملل مثل هذا أبدًا.
الحقيقة؛ إذا نظر غير المسلمين لهذا المظهر يتعجبون: ما الذي أتى بهذه الجموع؟! ما الذي أتى بهؤلاء؟! ولأيِّ شيءٍ أتوا؟ وماذا يريدون؟ وما هو هذا الدين الذي جمعهم؟
ولهذا؛ عندما نرى الزحام، في الحقيقة بعض الناس ربما يتأذَّى من شدة الزحام، لكنه في الحقيقة إذا نظرت له من الجانب الآخر وجدت أنه مظهرٌ من مظاهر عزة المسلمين، ما هذا الشيء الذي يتزاحمون لأجله؟ هذا لا يوجد في أيِّ دينٍ آخر، لا يوجد في أيِّ دينٍ آخر، ولا في أيَّة ملة من الملل.
ولهذا؛ لو فُعِّل نقل مثل هذه المظاهر لغير المسلمين؛ لكان لذلك الأثرُ العظيم في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، لو نُقلت هذه المظاهر وهذه الصور لغير المسلمين بشكلٍ فعَّال؛ لكان في هذا أعظم دعوةٍ لغير المسلمين لاعتناق دين الإسلام، مظهرٌ بديعٌ عجيبٌ! يدل على عزة الإسلام وظهور الإسلام، وعلوِّ هذا الدين على جميع الأديان.
ولهذا؛ لا شيء يَغيظ أعداء الإسلام مثل هذه المظاهر؛ فعندما يرى أعداء الإسلام المسلمين قد اجتمعوا في الأماكن المقدسة، يقولون: انظروا إلى المسلمين الذين تقولون: إنهم ضعافٌ وإنهم كذا! انظر كيف اجتمعوا! لا زال هذا الدين حيًّا في نفوسهم، ولربما يعود لهؤلاء قوة يسُودون بها الدنيا.
وسيأتي هذا اليوم إن شاء الله، سيأتي عند نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، سيسود الإسلام جميع أنحاء الكرة الأرضية كلها، ويكون الإسلام قويًّا عزيزًا، حتى إن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية إظهارًا لقوة الإسلام في وقته عليه الصلاة والسلام.
فأقول: إن هذا المظهر -الحقيقة- مظهرٌ عظيمٌ من مظاهر عزة الإسلام والمسلمين، ومظهر من مظاهر علوِّ هذا الدين الذي تكفَّل الله تعالى به: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].
التقاء المسلمين بعضهم ببعض
وأيضًا من الدروس والمنافع من هذه العبادة الجليلة: الْتقاء المسلمين بعضهم ببعض، كانت هذه المنفعة فيما سبق ربما تكون أظهر؛ لأنه فيما سبق لم تتيسر وسائل المواصلات والاتصالات كما تيسرت في وقتنا الحاضر، فكان العلماء لا يلتقون إلا في موسم الحج، في الغالب لا يلتقون إلا في موسم الحج، وكان عمر بن الخطاب يلتقي بأمراء الأمصار في الحج، ويحصل ما يحصل من التباحث في المسائل العلمية ومن اللقاء والاجتماع والتشاور.
وأيضًا يجتمع القادة بالقادة، قادة المسلمين بعضهم ببعض، يجتمع العلماء بالعامة، ويرون حال عامة المسلمين، ويستفيد العامة من العلماء. وقد أتى للبلد الحرام أناس على عقائد منحرفة، ورجعوا من البيت الحرام وقد صُحِّحت عقائدهم؛ فإن هناك بعض كبار العلماء الذين أتوا من إحدى البلاد بعقائد منحرفة أو بعقيدة منحرفة، وأتى للبلد الحرام وسمع من علماء المملكة، ثم بعد ذلك استقر في المملكة، ورفض حتى أن يرجع إلى بلده، والتزم العقيدة السلفية، وكان من علماء هذه البلاد. فهذه من منافع الحج العظيمة.
يأتي هؤلاء الحُجاج من كلِّ بلدٍ، يأتي بعضهم وعندهم شِركِيَّات، وبعضهم وعندهم خرافات، وبعضهم عندهم بِدعٌ، ثم يسمعون من العلماء الذين يُبصِّرونهم ويُبيِّنون لهم خطأ ما هم عليه من البدع أو الشِّركِيَّات أو الخرافات، فيرجعون إلى بلادهم وقد صُحِّحت عقائدهم، وقد عرفوا العقيدة السلفية الصحيحة. هذه من أبرز منافع الحج.
ثم أيضًا بعض الحجاج يأتون وعقائدهم سليمة لكن عندهم غفلةٌ، لاهون في دنياهم، مشغولون بأعمالهم، وعندما يأتون إلى البلد الحرام تكون نفوسهم متهيِّئة، فيسمعون للدعوة وللموعظة، فيكون في ذلك إيقاظٌ لضمائرهم، وإحياءٌ لقلوبهم، فيرجع بعض هؤلاء الحجاج وقد استقامت أحوالهم وصلحت أمورهم وزَكَت نفوسهم.
ولهذا؛ فإن الحج فرصةٌ عظيمةٌ للدعوة إلى الله ، بل إن الحج -هو في الحقيقة- هو منطلقُ الدعوة الإسلامية.
النبي دعا قريشًا إلى الإيمان بالله وتحقيق التوحيد، ثم بعد ذلك لما لم يستجيبوا له أو لم يستجب له إلا نفرٌ قليلٌ؛ أصبح عليه الصلاة والسلام يَعرِض نفسه على القبائل فيمن ينصره ويُؤازِرُه، لكنه اتخذ من موسم الحج منطلقًا لهذه الدعوة، فكان عليه الصلاة والسلام يغتنم موسم الحج، ويذهب ويعرض نفسه على قبائل العرب، وكان كُلَّما أتى قبيلةً من قبائل العرب يتبعه عمه أبو لهب ويقول: أنا عمه وأنا أدرى الناس به، هذا رجل مجنون لا تسمعوا له.
لكنَّ الله قيَّض أناسًا من الأنصار وكانت نفوسهم متهيئة؛ لأنهم كانوا في المدينة، وتُسمَّى قبل ذلك "يثرب"، وكان معهم اليهود، فكان اليهود يستفتحون عليهم ويقولون: سيخرج نبيٌّ في هذا الزمان، وإذا خرج هذا النبي سنقاتلكم وننتصر عليكم. فكانوا يُهدِّدون الأوس والخزرج في المدينة بأن هذا النبي سيظهر.
فكان عند الأنصار علمٌ بظهور هذا النبي، فلما أتوا للحج هؤلاء النفر من الأنصار، أتاهم النبي وعرض عليهم الإسلام وقال: إني رسول الله. فقال بعضهم لبعض: هذا هو النبي الذي تُحدِّثكم عنه يهود، لا تسبقكم إليه يهود بل اسبقوهم. فأسلموا، وحصلت بيعة العقبة الأولى، ثم بيعة العقبة الثانية، ثم هاجر النبي إليهم فأقام دولة الإسلام ومنها انتشر الإسلام.
إذًا؛ منطلق الدعوة الإسلامية هو ماذا؟ هو الحج، منطلق الدعوة هو الحج؛ ولهذا ينبغي أن يُغتنَم هذا الموسم في الدعوة إلى الله ، في دعوة هؤلاء الحجاج الذين أتوا من كل بلد ومن كل فجٍّ عميق؛ فإن النفوس في وقت الحج متهيئة، وكم من إنسان صلُح واستقام في الحج وزَكَت نفسه في الحج.
ولهذا؛ فينبغي للدعاة إلى الله أن يُضاعفوا جهودهم في موسم الحج في دعوة المسلمين إلى التمسُّك بدين الله .
ترسيخ المعتقد الصحيح لدى الحجاج
وأيضًا من المنافع ومن الدروس المستفادة: ترسيخ المعتقد الصحيح لدى الحُجاج؛ فإن مظاهر التوحيد في الحج كثيرة، وأول هذه المظاهر عندما يبدأ الحاج بالتلبية بعدما يُهِل بالنُّسك ماذا يقول؟ يقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
قال جابر في حديثه الطويل في صفة حجة النبي ، وبالمناسبة جابر ضبط حجة النبي ، اعتنى بها عنايةً كبيرةً، وقد ساقها مسلمٌ في حديثه الطويل في صفة حجة النبي ؛ ولهذا فإن العلماء يُرجِّحون في كثيرٍ من المسائل الخلافية ما ورد في حديث جابر على غيره؛ لأن جابرًا اعتنى بضبط حجة النبي .
يقول جابر : فأهَلَّ النبي بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك. فسمى هذه التلبية "التوحيد"؛ لأنه يظهر فيها التوحيد وإخلاص الدين لله ، "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"[13].
كان المشركون يشركون ويقولون: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك"، وهذا من جهلهم؛ إذا كان يملكه وما ملك فكيف يكون شريكًا لله؟ لكن هذا من جهلهم ومن ضلالهم.
فعندما يقول المسلم: "لا شريك لك" فهو يُعلِن التوحيد، وكذلك عندما يطوف بالبيت بعدما يصل إلى مكة، فالطواف إنما شُرع في هذا المكان فقط.
والطواف في أيِّ بقعةٍ من غير هذا المكان أمرٌ منكرٌ؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اتفق المسلمون على أنه لا يُشرع الطواف إلا بالبيت، فلا يجوز الطواف بصخرة بيت المقدس، ولا بحُجرة النبي ، ولا بالقبة في جبل عرفات، ولا غير ذلك".
وأيضًا عند تقبيل الحجر الأسود، أو استلامه باليد إن لم يتمكن، أو الإشارة إليه، يُستفاد من هذا أن التقبيل والاستلام لا يُشرع إلا في هذا المكان؛ ولهذا قال عمر عندما أراد تقبيل الحجر الأسود: إني أعلم أنك حجرٌ لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبِّلك ما قبَّلتك.
وأيضًا إعلان التوحيد عند الوقوف على الصفا والمروة، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا وقف على الصفا والمروة أعلن التوحيد، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده[14].
وعند الذبح أيضًا، عند النحرِ يُعلِن المسلمُ التوحيدَ عندما يقول: "بسم الله والله أكبر"، فيذكر اسم الله تعالى ولا يذكر اسمًا سواه، ويذبح لله امتثالًا لأمره وتعظيمًا لشعائر الله سبحانه.
ولهذا؛ فإن النبي في حجة الوداع أهدى مائةً من البُدْنِ، وهذا يقودنا إلى المنفعة أو الدرس السابع: وهو المنفعة التي خصَّها الله تعالى بالذكر؛ فإن الله تعالى لما قال: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ خصَّ منفعةً واحدة من هذه المنافع؛ للتنويه بها لعظيم شأنها، وهي: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28].
فتعظيم الله بذبحِ ونحرِ الهدي، وكذا الأضحية أيضًا من تعظيم شعائر الله سبحانه، والله تعالى يقول: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
والذبح لله سبحانه أفضل العبادات المالية، كما أن الصلاة هي أفضل العبادات البدنية؛ ولهذا جمع الله تعالى بينهما في آيةٍ، من يذكر لنا الآية؟
جمع الله تعالى بين الصلاة وبين الذبح أو النحر فقال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، فجمع الله تعالى بين أعظم العبادات البدنية وهي الصلاة، وبين أعظم العبادات المالية وهي النحر، وجمع بينهما أيضًا في آية أخرى، فقال: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163].
وكلما كان الهدي أو الأضحية أعظم كان أفضل وأعظم أجرًا وأكثر تعظيمًا لشعائر الله، وضَبَط هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: "كلما كان أكثر ثمنًا كان أعظم أجرًا"؛ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
ولنتأمل في هدي النبي : عندما حجَّ النبي حجة الوداع أهدى مائة من البُدْنِ، ونحر بيده ثلاثًا وستين، وأمر عليَّ بن أبي طالب فأكمل نحر البقية، ثم أمر أن يُؤخذ من كل بَدَنة بضعة لحم -يعني: قطعة لحم- فجُمعت في قِدْرٍ، فأكل من لحمها وشرب من مرقها امتثالًا لأمر الله تعالى في قوله: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28].
ولهذا؛ فالسنة للمُهدِي وللمضحِّي أن يأكل وأن يتصدق، يأكل ويتصدق: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]؛ يعني لمَّا نَحَرَ النبي مائة من البُدْنِ أمر بأن يُؤخذ من كل بَدَنَةٍ قطعةَ لحمٍ فقط، بضعةً واحدةً، قطعةَ لحمٍ، البقية أمر بأن يُتصدَّق بها، فتصدق بلحومها وبجِلَالِها على الحُجاج. فهذا من أعظم ما يكون من تعظيم شعائر الله تعالى.
وتجد بعض الناس يبخل على نفسه، تجد بعض الحجاج يستفتي ويسأل: ما هو النُّسُك الذي ليس فيه ذبحُ هَدْيٍ؟ كل هذا فرارًا من الهدي! وسبحان الله! وتجد أن هذا ربما يُنفق أموالًا كثيرة في أمور ترفيهيةٍ وكماليةٍ، لكن إذا أتت هذه العبادة العظيمة بَخِلَ على نفسه.
وتجد أيضًا بعض الناس في الأضحية ما يُضحِّي، ويأتي له بأعذار، وهي عند التحقيق أعذارٌ غير صحيحة، لا يُضحِّي أو أنه إذا ضحَّى يُضحِّي بأضحيةٍ رخيصةِ الثمن! فنقول: ينبغي أن يُعظِّم المسلمُ هذه الشعيرةَ، كلما اخترت ما هو أعظم وأكثر ثمنًا كان أعظم أجرًا وثوابًا، وهذا يدل على قوة الإيمان وعلى تقوى القلوب: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
فانظر كيف أن الله خصَّ هذه المنفعة بالذِّكر من بين سائر المنافع لمَّا قال: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، خصَّ هذه المنفعة بالذِّكر وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28].
وينبغي بالنسبة للهَدْي على وجه الخصوص أن يتصدق الحاج من هَدْيِه، وحتى من غير الهَدْي ينبغي أن يبذل ويتصدق ويُطعم الطعام؛ فإن كثيرًا من الحُجاج فقراء، كثيرٌ منهم فقراء، وقد أدركتُ هذا من خلال استفتاءات هؤلاء الحجاج، عندما يُفتَى كثيرٌ منهم بأن عليك دمًا، نجد كثيرًا منهم يقول: ما أستطيع قيمة الهدي، ما أستطيع قيمة الدم، فبعضهم لا يملك ولا حتى ثلاثمائة ريال ولا مائتي ريال، وبعضهم حتى أقل من ذلك، بل مرَّ بي أن بعض الحجاج قابلوني ولا يملكون ولا ريالًا واحدًا، فهناك حجاجٌ فقراءُ كثير؛ فانظر كيف أن الله سبحانه قد أمر بالصدقة على هؤلاء الفقراء "البائس الفقير": وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28].
ونحن ولله الحمد نجد تسابقًا من المحسنين في إطعام هؤلاء الحجاج، فأُذَكِّر الإخوة بفضل إطعام هؤلاء الحجاج وسُقياهم، وما أعظم أجر وثواب من أطعم هؤلاء الحجاج أو سقاهم بأيِّ وسيلة؛ فإنهم -كما ذكرت- كثيرٌ منهم فقراء، كثيرٌ منهم مساكين ومحتاجون.
ولذلك؛ ينبغي -حتى في أوقاف المسلمين- ينبغي لمن وقف وقفًا أن يجعل من ضمن مصارف هذا الوقف إطعامَ وسُقيا الحُجاج؛ فإن هؤلاء الحجاج كثيرون، ولا بد أن يكون منهم فقراء ومساكين: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28].
تربية المسلم على الصبر
وأيضًا الأمر الثامن من الدروس والمنافع المستفادة من الحج: تربية المسلم على الصبر؛ فإن الحاج في سفره وتنقُّله بين المشاعر وفي طوافه وسعيه لا بد أن يناله ما يناله من المشقة، لا بد؛ لهذا لما قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ يعني: النساء، قال: عليكن جهادٌ لا قتال فيه، الحج والعمرة[15]، فسمى الحجَّ "جهادًا".
ولذلك؛ قال بعض المفسرين: إن الله تعالى ذكر آيات الحج بعد آيات الجهاد في سبيل الله في سورة البقرة؛ إشارةً إلى أن الحج نوعٌ من الجهاد؛ فالحاج يناله ما يناله من التعب والمشقة، سواء كان في التنقل بين المشاعر أو في الزحام أو في غير ذلك، لا بد أن يناله تعبٌ ومشقةٌ؛ ولذلك ينبغي أن يُوطِّن نفسه على الصبر.
والصبر خلقٌ عظيمٌ نوَّه الله تعالى به في القرآن في عدة مواضع، حتى إن بعضهم أوصلها إلى تسعين موضعًا، ذكر الله تعالى الصبر في القرآن في تسعين موضعًا، ولا يعلم أن هناك خُلُقًا ذكره الله تعالى بهذا القدْر، فأمر الله تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، ويقول عليه الصلاة والسلام كما في "صحيح مسلم" من حديث أبي سعيد: وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا ولا أوسع من الصبر[16].
فينبغي أن يُعوِّد المسلم نفسه على الصبر، الصبر على أداء العبادة، الصبر على الكَفِّ عن المعصية، الصبر على أقدار الله التي يُقدِّرها على العبد؛ فإن الحياة لا تصفو لأحد: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، لا بد أن يتعوَّد الإنسان على الصبر.
الحج في الحقيقة كأنه دورةُ تمرينٍ للمسلم على الصبر، كأنه يقال: أنت أيها المسلم هذه دورةٌ لك لكي تتدرب على الصبر، فيستفيد المسلم من هذا؛ من مدرسة الحج.
ولهذا؛ ينبغي للحجاج ألا يُبالغوا في الترف؛ نجد بعض حملات الحج عندهم شيءٌ من المبالغة في الترف! نقول: ينبغي عدم المبالغة في الترف، وأن يستشعر الحاج هذه المعاني، يتمرَّن ويُعوِّد نفسه على الصبر وعلى التحمُّل؛ لأنه -كما ذكرنا- الصبر هو من أعظم الأخلاق: وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا ولا أوسع من الصبر[17]، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
تربية المسلم على البذل والإنفاق
وأيضًا الأمر التاسع من المنافع والدروس التربوية المستفادة من الحج: تربية المسلم على البذل والإنفاق؛ فإن المسلم لا بد من أن يبذل نفقاتٍ في الحج، وإن كان الآن أكثرُ الحجاج يذهبون عن طريق الشركات والحملات، وهم يبذلون هذه النفقات مقدَّمًا، ويحتاجون لبذل شيءٍ من النفقات في تنقلاتهم وسيرهم، وكذلك عند شراء الهدي وذبحه، فيتعوَّد المسلم على البذل والإنفاق والسخاء؛ وذلك لأن البخل صفةٌ ذميمةٌ؛ حتى يتخلص المسلم من هذه الصفة لا بد أن يُعوِّد نفسه على البذل، يُعوِّد نفسه على السخاء، يُعوِّد نفسه على الإنفاق. والنفس على ما تعوَّدت، إذا عوَّد الإنسانُ نفسه على الصبر فيكون صبورًا، إذا عوَّد نفسه على الكرم يكون كريمًا، إذا عوَّد نفسه على السخاء يكون سخيًّا، إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحلم بالتحلُّم.
فالحج يُعوِّد -أيضًا- المسلم على البذل والإنفاق، والنفقة في الحج مخلوفة، وقد ورد في بعض الأحاديث: النفقة في الحج بسبعمائة ضعف[18]، وإن كان في سنده مقال، لكن النفقة في الحج لا شك أن أجرها كبيرٌ ونفقتها مخلوفة.
تربية المسلم على الأخلاق الفاضلة عمومًا
وأيضًا الأمر العاشر من الدروس والفوائد: تربية المسلم على الأخلاق الفاضلة عمومًا؛ من الرحمة عندما يرى شيخًا كبيرًا مسنًّا أو امرأة ضعيفة أو طفلًا؛ يرحمه ويُشفق عليه ويُساعده.
وأيضًا تربية النفوس على الإحسان، وعلى الشفقة على إخوانه المسلمين، وعلى أن يسُود التكافل الاجتماعي بين المسلمين. وهذا يُرى واضحًا جليًّا في الحج، فتسود بين المسلمين روح التكافل والرحمة والشفقة والإخاء والمحبة والمودة، وربما هم من أقطارٍ بعيدة، ربما لا يعرف بعضهم لغةَ بعضٍ، لكنْ جَمَعهم هذا الدين فكانوا في دين الله إخوانًا.
مشاهد الحج تذكر بيوم المحشر
وأيضًا من المنافع والدروس التربوية في الحج درسٌ عظيم ذكره الله تعالى في ختام آيات الحج التي في سورة البقرة، في آخر آية منها يقول الله سبحانه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203]، لماذا خُتمت الآية بهذا؟ يعني: ما علاقة الحشر بالحج؟ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203]؟
قال بعض العلماء: إن في هذا إشارةً إلى أنه ينبغي للحاج عندما يرى هذه الجموع الغفيرة أن يتذكر يوم الحشر، فأنت عندما ترى مثلًا الناس في المطاف أو في المسعى أو في أماكن الزحام وفي الجمرات، ترى هذه الجموع الغفيرة وكلٌّ هَمُّه نفسُه؛ يعني: يتجلَّى هذا عند مواطن الزحام، كلُّ هَمِّه النجاة من هذا الزحام، كلٌّ هَمُّه نفسه، يتذكَّر الإنسان ذلك الموقف العظيم عندما يُحشر الناس حُفاةً عُراة، يرى الإنسان أمَّه وأباه وأخته وأخاه وزوجته وبَنِيه، فلا يلتفت لهم ولا يهتم بهم، بل يَفِرُّ منهم: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لماذا؟ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
قال بعض أهل العلم: إنما يَفِرُّ منهم خشيةَ أن يُطالبوه بحسَنَةٍ، هذا الموقفُ موقفٌ عظيمٌ، موقفٌ يجعل الولدان شيبًا، الشمس قد كُوِّرت، والسماء انفطرت، والنجوم انكدرت، وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا. تصور هذا الموقف العظيم!
الآن كم يُقدَّر عدد سكان الأرض؟ يُقدَّر عدد سكان الأرض الآن بسبعة آلاف مليون إنسان، سبعة مليارات، كم عددهم منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة؟ ليس فقط بنو آدم، إنما معهم الجن ومعهم الوحوش والطير: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5]، الحيوانات كلها، والملائكة تنزل: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان:25-26].
تدنو الشمس فيه من الناس قَدْرَ ميل، وينال الناسَ من الغمِّ والكرب ما لا يُطيقون معه ولا يحتملون كما في حديث الشفاعة، حتى إن الناس يسأمون ويملُّون من طول الموقف، يومٌ مقداره خمسون ألف سنة، ويُلهِمهم الله فيذهبون إلى آدم ويطلبون من آدم ماذا؟ الشفاعة إلى الله ، أن يشفع في أن يفصل ويقضي بين عباده، فيعتذر آدم، ثم يذهبون إلى نوح فيعتذر، ثم يذهبون إلى إبراهيم فيعتذر، ثم يذهبون إلى موسى فيعتذر، ثم يذهبون إلى عيسى فيعتذر عليهم الصلاة والسلام، ثم يذهبون إلى محمد بن عبدالله فلا يعتذر، وإنما يذهب ويسجد تحت العرش، ويفتح الله عليه من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا عظيمًا، ويقبل الله شفاعته ويقول: يا محمد، ارفع رأسك، وسَلْ تُعْطَ، واشفع تُشَفَّع.
فيرفع رأسه، وكلُّ الناس يقول: نفسي نفسي. حتى أولو العزم من الرسل، إلا هذا النبي الكريم يقول: أُمَّتي أُمَّتي، فصلوات الله وسلامه عليه، ما أكمل شفقته بأُمَّته حتى في هذا الموقف العظيم، فيقول الله له: إنا سَنُرضيك في أُمَّتِك ولا نسوؤك[19].
فأقول أيها الإخوة: عندما يرى المسلم هذه الجموع الغفيرة من الحجاج يتذكر ذلك الموقف، يتذكر موقف الحشر، ينبغي ألا يغفل الحجاج عن هذه المعاني، من الحجاج من يتأمل ويتذكر عندما يرى هذا الزحام وهذه الجموع، من يتذكر الحشر ووقوف الناس بين يدي الله في ذلك اليوم العظيم؟ ولهذا انظر كيف أن الله سبحانه ختم آية الحج بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].
إظهار العبودية لله
وأيضًا، ولعلي أختم بهذا الدرس المستفاد من الحج، والدروس كثيرةٌ -حقيقةً- لا تنحصر، لكن هذا هو الذي اتسع له المقام، لعلي أختم بهذا الدرس: وهو إظهار العبودية لله ؛ فإن المسلم عبدٌ لله سبحانه، يفعل ما أمره الله سواء عرف الحكمة أم لم يعرفها؛ لأنه على يقينٍ بأن الله عليمٌ حكيمٌ، أما من لا يمتثل للأمر إلا إذا عرف حكمته فهذا لم يُحقِّق العبودية لله سبحانه.
المسلم على يقينٍ بأن الله حكيمٌ عليمٌ، لا يمكن أن يأمر بشيءٍ إلا لحكمة، ولا ينهى عن شيءٍ إلا لحكمة، فيظهر أثر العبودية في الحج في عدة مواضع، منها مثلًا: عند الطواف، عندما يطوف في البيت بهذا المكان، يطوف سبعة أشواطٍ على صفةٍ معينةٍ، عندما يُقبِّل الحجر الأسود، لماذا يُقبِّل هذا الحجر؟
يقول عمر كما ذكرنا مقولته في أول المحاضرة: إني لأعلم أنك حجرٌ لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبِّلك ما قَبَّلتك. يعني: أني أفعل ذلك لماذا؟ عبوديةً لله سبحانه، تعبُّدًا لله بهذا الأمر.
يظهر أيضًا أثر العبودية في السعي بين الصفا والمروة، عندما يسعى سبعة أشواط؛ لأن الله تعالى أمره بهذا، يظهر العبودية كذلك عند الرمي؛ يأتي لهذا المكان ويأخذ سبع حصيات ويرمي، هل هو يرمي الشيطان؟ نقول: ليس يرمي الشيطان، لكن يرمي تعبُّدًا لله ؛ لأن الله أمره بهذا. وقد قيل: إن هذه المواضع للشيطان تَعَرَّض فيها لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، لكن إنما نفعل ذلك تعبُّدًا لله ، فنحن كأننا نقول: يا ربنا نحن عبيدك، أيُّ شيءٍ تأمرنا به فنحن نفعله، حتى لو لم نعرف حكمته. هذا هو مقتضى العبودية لله ، مقتضى العبودية: الاستسلام لله سبحانه.
تجد بعض الناس كثيرَ الاعتراضات: لماذا أمر الله بكذا؟ لماذا في الإسلام كذا؟ لماذا نهى الله عن كذا؟ سوف يبدأ يعرض هذه الأمور على عقله ورأيه.
وهذا في الحقيقة لم يُحقِّق العبودية لله سبحانه؛ أن تكون عبدًا لله سبحانه معنى ذلك أنك تستسلم لأمر الله ، هذا هو مقتضى العبودية: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، إذا عرفت أن هذا هو أمر الله ورسوله، وأن هذا هو ما نهى الله عنه ورسوله؛ فتستسلم لله ، تستسلم لحِكَم الله سبحانه، تمتثل أمر الله تعالى، تجتنب ما نهى الله تعالى عنه. فهذا هو الذي يُحقِّق العبودية لله .
وأقول أيها الإخوة: إن الدروس والمنافع كثيرةٌ جدًّا، ولكن الناس يتفاوتون في الحصول عليها، فمُسْتَقِلٍّ ومُسْتَكْثِر؛ فمن الناس من يرجع من مدرسة الحج بدروسٍ كثيرة، يرجع أولًا وقد حُطَّت عنه ذنوبه وخطاياه، وقد حصل على أجرٍ عظيمٍ وثوابٍ جزيلٍ، وقد استفاد من مدرسة الحج؛ استفاد بالتمرُّن على الصبر، وعلى الأخلاق الفاضلة، واستفاد علمًا وزكاءً. ومن الناس من لم يستفد هذه الفائدة، أو استفاد فائدةً قليلة؛ فالناس يتفاوتون في الحصول على منافع الحج. وأسرار الحج ودروسه وعِبَرُه كثيرةٌ جدًّا.
أسأل الله تعالى أن يُوفِّق حجاج بيته الحرام لأداء حجهم، وأن يتقبَّل منَّا ومنهم، وأن يجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيهم مشكورًا، وعملهم صالحًا مبرورًا، وأن يُوفِّقنا جميعًا لما يحب ويرضى من الأقوال والأعمال، وأن يُعيننا على شكره وذكره وطاعته وحسن عبادته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة
مداخلة: .....
الشيخ: الدولة مضطرةٌ الحقيقة لهذه التصاريح والإجراءات، لماذا؟ كم عدد المسلمين الآن؟ مليار وثلاثمائة مليون، يعني: ألف مليون وثلاثمائة مليون، لو حج من المسلمين (1%) فقط كم سيكون عدد الحجاج؟ (1%) من مليار وثلاثمائة مليون، كم؟ من يحسبها لنا؟ ثلاثة عشر مليونًا. طيب، لو حج نصف واحد بالمائة، كم؟ ستة ملايين ونصف.
الآن الذي يحج الآن أقلُّ من ربعِ واحدٍ بالمائة، ومع ذلك نرى الزحام الشديد، فلو فُتح المجال لربما ما استطاع الحجاج أن يُؤدُّوا مناسكهم، وذلك بسبب كثرة الناس في الوقت الحاضر. كان الناس قبل مائة وخمسين سنة ما يصل عددهم إلى مليار، خلال المائة والخمسين سنةً الماضية تضاعف سكان الأرض حتى أصبح سبعة مليارات تقريبًا، وتضاعف معهم عدد المسلمين.
السؤال: هل يكفي طواف الوداع عن طواف الإفاضة للمتمتع والمُفرِد؟
الجواب: هو لا يكفي، لكن يصح تأخير طواف الإفاضة، يعني: نُصحِّح عبارة الأخ السائل، نقول: يصح تأخير طواف الإفاضة ليكون آخر أعمال الحاج، ويكفي عن طواف الوداع؛ ولذلك فالنية تكون: ينوي طواف إفاضةٍ ويكفي عن الوداع، أو ينوي طواف إفاضةٍ ووداعٍ، لكن لو أنه نواه طوافَ وداعٍ ولم ينوِ طواف إفاضةٍ لا يُجزئ عن طواف الإفاضة.
انتبهوا لمسألة النية: من أراد أن يُؤخِّر طواف الإفاضة ليكون آخر أعماله؛ لا بد أن ينويه طواف إفاضة، أو طواف إفاضةٍ ووداعٍ، لكن لو نواه طواف وداعٍ فقط فإنه لا يُجزئ عن طواف الإفاضة؛ لقول النبي : إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكُلِّ امرئٍ ما نوى[20]. لكن يفعل هذا مَن احتاج لهذا التأخير.
نقول: ينبغي أن يُلَقَّن الناسُ السُّنَّةَ؛ لأن هناك نَفَسًا عند بعض الإخوة يقول: يَسِّروا على الناس. وتجد أنهم يُلَقِّنون الناسَ الرُّخَص. فهذا أرى أنه منهجٌ لا ينبغي، المنهج الصحيح أن نُلَقِّن الناسَ سنةَ النبي ، ومن احتاج إلى الرخصة نقول: لا حرج، لكن حتى يكون الحج مبرورًا ينبغي أن يحرص المسلم على اتباع السنة في هذا.
وكما ذكرنا: الحاج لا بد أن يناله شيءٌ من المشقة والتعب؛ ولذلك إذا كان مثلًا إنسانٌ شابًّا قويًّا قادرًا، فينبغي أن يأتي بطواف الإفاضة: إما يوم النحر أو اليوم الذي بعده، ولا يُؤخِّره، وإن كان لو أخره جاز ذلك لكن هذا خلاف الأولى.
نعم، لو كان إنسانٌ كبيرًا في السن أو امرأةٌ ضعيفةً مثلًا؛ فيُؤخِّره، لكنْ أنَّ الإنسان من البداية يسأل عن الرُّخَص! فأقول: ينبغي ألا يسلُك المسلم هذا المسلَك، وأن يحرص دائمًا على اتباع السنة في هذا ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
السؤال: شخص يجمع حصى الرمي، ويُغَلِّفها في أكياسٍ، ويبيعها على الحجاج، ما حكم فعله؟
الجواب: هذا لا بأس به، لا شيء يمنع من هذا، هو يُقدِّم لهم خدمةً ومنفعةً؛ لأن جمع الحصى -خاصةً في الوقت الحاضر مع سفلتة الشوارع- ربما يشقُّ على بعض الناس، فكون هذا الإنسان يجمعها لهم ويأخذ مقابل أتعابه لا حرج عليه في هذا: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198].
السؤال: ذهبتُ للحج أكثر من عشرين مرة، ولكن عندي بعض المعاصي في الحج، ولا أشعر أنه حج مبرور... هل أستمر؟
الجواب: على كل حال، المسلم إذا عمل العمل يستقِلُّه، وهذه من علامةِ قبول العمل: أن المسلم يستقِلُّ عمله، سواءٌ كان صلاةً أو صيامًا أو زكاةً أو حجًّا.
أما الإنسان الذي يُعجَب بعمله هذا دليلٌ على عدم القبول كما قال ابن القيم وجماعة؛ ولهذا كان الصحابة يعملون أعمالًا عظيمة ويستقِلُّونها، كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، وسألت عائشة رضي الله عنها النبي أهو الذي يزني ويسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يُصَلُّون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا تُتقَبَّل منهم[21]. قال البخاري في "صحيحه": قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه.
وكان عمر يستدعي حذيفة رضي الله عنهما صاحب سِرِّ رسول الله فيقول: يا حذيفة، أسألك بالله هل عدَّني رسول الله من المنافقين؟ فيقول حذيفة: وأنت تقول هذا يا عمر؟! والله ما عدَّك، ولا أخبر أحدًا بعدك أبدًا.
فالمسلم مهما عمل من أعمالٍ يستقل أعماله ولا يُعجب بها، كما قال بعض السلف: إذا رأيتُ الناسَ قلتُ: كُلُّ الناس خيرٌ مني. أما الذي يُعجَب بعمله؛ فهذه ربما تكون علامة على عدم قبول العمل.
فنقول لهذا الأخ: أنت إن شاء الله تعالى على خير؛ كونك تشعر هذا الشعور هذا إن شاء الله تعالى يدل على أن فيك خيرًا، وأنك على خير، وهذا هو المأثور عن السلف: أنهم يعملون الأعمال الكثيرة ويخافون ألا تُتقَبَّل منهم.
السؤال: ما السُّنة في التكبير في عشر ذي الحجة؟ متى يبتدئ ومتى ينتهي؟ ومتى يكون مقيدًا ومتى يكون مطلقًا؟
الجواب: التكبير ينقسم إلى قسمين عند أهل العلم: تكبير مطلق، وتكبير مقيد.
أما التكبير المطلق فقد ابتدأ وقته بغروب الشمس من ليلة الأول من شهر ذي الحجة، يعني: بغروب شمس يوم أمس، ويستمر إلى غروب شمس آخر أيام التشريق، يعني: غروب شمس يوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة.
أما التكبير المقيد، ومعنى كونه مقيدًا: بعد أدبار الصلوات الخمس التي تُصلَّى في جماعة، هذا يكون بالنسبة لغير الحاج، من بعد صلاة الفجر من يوم عرفة، إلى عصر آخر أيام التشريق، وبالنسبة للحاج: من ظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق، فنحن الآن في هذه الأيام لم يبدأ التكبير المقيد، وإنما التكبير المطلق بدأ وقته. ولهذا؛ ينبغي لمن أتى المسجد مبكرًا بين الأذان والإقامة مثلًا، وفي الأسواق، وفي الطرقات، أن يُكبِّر وأن يرفع صوته بالتكبير إحياءً لهذه السُّنة.
السؤال: إذا أرادت المرأة أن تُضحِّي فهل لها ذلك؟ وهل تُمسك عن الأخذ من شعرها وأظفارها؟
الجواب: نعم، المرأة كالرجل، كما أن الرجل يُسَنُّ له الأضحية فالمرأة كذلك، فإذا كان الإنسان قادرًا على أن يُضحِّي عن نفسه، فهذا هو الأولى، حتى لو كانوا أهلَ بيتٍ، فلا شك أن الأفضل والأكمل أن من كان قادرًا: يُضحِّي عن نفسه، لكن لو ضحَّى رَبُّ البيت عن أهل البيت فلا بأس بهذا، وهو المنقول عن الصحابة ، لكن المعروف عن أحوال الصحابة أن أكثرهم كانوا فقراء، لكن لو قدَر الإنسان على أن يُضحِّي عن نفسه فهذا هو الأكمل والأفضل من رجل أو امرأة.
وأما الإمساك والأخذ من الشعر والأظافر، هذا لكُلِّ مَن أراد أن يُضحِّي من رجلٍ أو امرأةٍ؛ لقول النبي كما في حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها في "صحيح مسلم": إذا دخلت هذه العشر وأراد أحدكم أن يُضحِّي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئًا، وجاء في رواية أخرى عند مسلم ولا من بَشَرِهِ[22]. يعني: بشرته شيئًا، فلا يقص أظافره؛ لا يقص من شاربه، لا يحلق عانته، لا يأخذ من إبطيه، يعني: لا يجوز له أن يأخذ من شعره ولا من أظفاره ولا من بَشَرته شيئًا.
هذا الحكم خاصٌّ بمن أراد أن يُضحِّي، بعض أهل العلم قال: إنه يشمل المضحِّي والمضحَّى عنه، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، فهو يشمل الجميع، ولكن الأقرب وهو الذي عليه كثير من المحققين من أهل العلم: أن هذا خاصٌّ بالمضحِّي فقط؛ لأن النبي قال: وأراد أحدكم أن يُضحِّي[23].
وبناءً على ذلك؛ لو أن -مثلًا- ربَّ البيت هو الذي أراد أن يُضحِّي عن أهل البيت كلهم، فرَبُّ البيت هو الذي يُمسِك ولا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئًا، أما بقية أهل البيت فلا حرج عليهم بأن يأخذوا من شعورهم ومن أظفارهم شيئًا.
المرأة إذا أرادت أن تُضحِّي فإنها تُمسك ولا تأخذ من شعرها ولا من أظفارها شيئًا، المرأة في هذا كالرجل.
السؤال: هل يختلف الأجر فيمن يذبح أضحيةً في أول العيد عن ثاني العيد؟
الجواب: نعم، يختلف الأجر، لماذا؟ لأن يوم العيد هو من عِداد عشر ذي الحجة، بينما اليوم الحادي عشر ليس من عشر ذي الحجة، من أيام التشريق، وعشر ذي الحجة أفضل، فكون الأضحية تقع في يوم العيد أفضل؛ لأنه يتقرب إلى الله بعملٍ صالحٍ في عشر ذي الحجة، فيكون الأجر أعظم والثواب أكثر، وإن كان الوقت يمتد على القول الصحيح ثلاثة أيام بعد يوم النحر، يعني: اليوم العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر.
السؤال: هل لُبْس الخاتَم من السُّنة؟
الجواب: هذا سؤالٌ خارج عن الموضوع، لبس الخاتم إذا كان يحتاج إليه ولم يكن من الذهب بالنسبة للرجال فإنه من السُّنة، أما إذا كان لا يحتاج إليه كما هو حال أكثر الناس اليوم فإنه يكون مباحًا، ولو كان يحتاج إليه كأن يكون قاضيًا مثلًا ويكون عليه ختم أو نحو هذا فيكون سُنَّة، أما إذا كان لا يحتاج لهذا الخاتم وإنما يريد فقط لُبْسه زينةً فيكون مباحًا، النبي إنما لبسه لأنه كان عليه ختمه ، كان يختم به الكتب التي يُرسلها لملوك ورؤساء العالم.
ولهذا؛ جاء في "صحيح البخاري": أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل فصَّه من باطن كفه[24]. هذا يدل على أنه ما كان يقصد الزينة عليه الصلاة والسلام، وإنما اتخذه للحاجة، لكن إذا كان من غير الذَّهَب فهو يبقى مباحًا بالنسبة للرجال، أما النساء فيجوز لهن التختم بالذهب والفضة وما شئن.
السؤال: هل من السنة صيام جميع أيام عشر ذي الحجة؟ وكيف يفعل... من عليه قضاءٌ من رمضان في يوم عرفة؟
الجواب: جاء في "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت النبي يصوم عشر ذي الحجة[25]، ولكن هل هذا ينفي السُّنية؟ الصحيح: أنه لا ينفي السُّنية؛ لأن النبي يقول في الحديث الذي رواه البخاري: ما من أيامٍ العملُ فيهن أحبُّ إلى الله من هذه الأيام العشر. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيءٍ[26].
ولا شك أن الصيام من أفضل العمل الصالح، فهو يدخل في هذا. أما كونه عليه الصلاة والسلام لم يصُم عشر ذي الحجة فهو يحتمل عدة احتمالات:
- يحتمل أنه لم يصمها في سَنة من السنوات وأنه صامها في بعض السنوات.
- وربما خفي على عائشة رضي الله عنها؛ فإن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت النبي يُصلِّي سُبْحةَ الضُّحَى. تعني: ركعتي الضحى، بينما غيرها من الصحابة ذكروا أنه كان أحيانًا يُصلِّي ركعتي الضحى.
- وربما أنه عليه الصلاة والسلام لم يصُم لانشغاله بما هو أفضل؛ فإنه عليه الصلاة والسلام مشغولٌ بقيادة الأمة وتعليم الأُمَّة، وهو إمامهم وقائدهم ومعلِّمهم ومرشدهم؛ ولهذا أخبر عليه الصلاة والسلام بأن أفضل الصيام صيام داود ، كان يصوم يومًا ويُفطر يومًا[27].
لكن، هل كان عليه الصلاة والسلام يصوم يومًا ويُفطر يومًا؟
الواقع أنه لم يكن يصوم يومًا ويُفطر يومًا عليه الصلاة والسلام، فكان أحيانًا يحثُّ على الشيءِ ولا يفعله عليه الصلاة والسلام؛ لانشغاله بما هو أفضل وأكثر مصلحة، فكونه عليه الصلاة والسلام لم يصُم عشر ذي الحجة لا يدل على عدم استحباب صيامها، والمطلوب طبعًا صيام التسع من ذي الحجة؛ لأن اليوم العاشر يوم العيد يحرُم صومه بإجماع العلماء، المقصود: صيام تسع ذي الحجة أو ما تيسَّر منها، وآكدها يوم عرفة لغير الحاج.
أما من عليه قضاءٌ فإنه يُقدِّم القضاء ولو أن يجعله في عشر ذي الحجة؛ لأن القضاء واجبٌ، وليس من الحكمة أن الإنسان يبدأ بالنافلة ويترك الواجب، ومن يضمن له أن يعيش حتى يقضي هذا الواجب؟
لهذا؛ فكون الإنسان يبدأ بالنوافل ويترك الواجب هذا في الحقيقة نوعُ تفريطٍ، يعتبر نوعَ تفريطٍ، ليس من الحزم أن المسلم يفعل هذا، فنقول لمن عليه قضاء: بادِر بالقضاء الآن، ولو أن تجعله في عشر ذي الحجة، وربما يكون أيضًا جعْلُ القضاء في هذه الأيام أكثر أجرًا وثوابًا؛ لأن المطلوب في هذه العشر أن تكون مشمولةً بالعمل الصالح، والصوم قضاءً عملٌ صالحٌ، فيُرجى أن يتضاعف أجره وثوابه إذا جعله في هذه العشر.
السؤال: هذا يسأل عن طلاق الحائض، وأقوال العلماء، والقول الراجح؟
الجواب: العلماء لهم قولان مشهوران في حكم وقوع طلاق الحائض؛ فجماهير العلماء يرون أنه يقع، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، أكثر العلماء على أنه يقع، بل إن النووي وابن عبدالبر قالوا: إنه لم يُخالف في هذه المسألة -يعني: في أنه لا يقع- إلا الشواذ من أهل البدع، ولكن هذا القول قد يكون محلَّ نظرٍ؛ إذ خالف فيه بعض الأئمة.
والقول الثاني في المسألة: إنه لا يقع طلاق الحائض، وهذا القول قال به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأصبح يُفتي به بعض مشايخنا في الوقت الحاضر.
والذي يظهر لي والله أعلم: أن القول الراجح هو قول الجماهير أنه يقع؛ وذلك لما جاء في "صحيح البخاري" عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه لما طلَّق امرأته قال ابن عمر رضي الله عنهما: وحُسبت عليَّ تطليقة. وهذا في "صحيح البخاري"[28].
لكن الذين قالوا: لا يقع، قالوا: لعلَّ الذي حَسَبها غيرُ النبي . لكن هذا بعيد؛ لأن النبي هو المرشد لابن عمر رضي الله عنهما وهو الموجِّه، وقد غضب لما طلَّق امرأته في الحيض، غضب عليه الصلاة والسلام، بعيدٌ جدًّا أن يحسب عليه الطلاق غير النبي . لهذا؛ فالقول الصحيح: أن طلاق الحائض يقع.
لكن من حصل منه هذا فعليه أن يذهب لدار الإفتاء لكي يتثبَّتوا من وقوع الطلاق؛ لأن الطلاق يحتاج إلى دراسة؛ لذلك يتواصى طلاب العلم على عدم الفتيا فيها وإحالتها لسماحة المفتي أو المحاكم الشرعية؛ لأنه يحتاج إلى دراسة: دراسة حالة الرجل من الناحية العقلية، والنفسية، ودرجة غضبه: هل هو غضبان غضبًا شديدًا، أو غضبًا يسيرًا. ولفظه. وقصده ونيته. وحالة المرأة من جهة الحيض أو عدمه. ونحو ذلك من الأمور التي تحتاج إلى مزيدٍ من التأمل والتثبُّت، ثم أيضًا الأثر المترتِّب عليه كبير، الأثر المترتب عليه مصير أسرةٍ كاملةٍ؛ لذلك فهو يحتاج إلى مزيدِ تثبُّتٍ وعنايةٍ.
السؤال: يقول: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها؟
الجواب: الحامل المتوفى عنها زوجها عدتها بوضع الحمل؛ لقول الله تعالى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فمتى ما وضعتْ ولو... حتى قال الفقهاء: حتى لو وضعت وزوجها على المُغتسَل يُغسَّل خرجتْ عِدَّتها، يعني: لو مات ووَضعتْ بعده بدقائق خرجت من العدة.
السؤال: ما هي البينونة الكبرى والبينونة الصغرى؟
الجواب: البينونة الكبرى: هي البينونة التي لا تَحِلُّ المرأة بسببها لمطلِّقها حتى تنكح زوجًا غيره ثم يُطلِّقها، وهي أن يُطلِّقها ثلاثَ تطليقات. هذه البينونة الكبرى؛ فإن الإنسان إذا طلَّق امرأته ثلاث تطليقات تَحرُم عليه ولا تَحِلُّ له حتى تنكح زوجًا غيره.
أما البينونة الصغرى: فهي التي تَحِلُّ لمطلِّقها بعقدٍ ومهرٍ جديد، كالتي طلقها طلقة واحدة وانقضت عدتها، فإذا أراد أن يُرجعها لا بد من أن يكون ذلك بعقدٍ ومهرٍ جديدٍ، وبرضاها؛ لأنها بانت منه بينونة صغرى.
وأيضًا الخلع، عندما تُخالع المرأة زوجها فتَبِينُ منه بينونة صغرى، لو أراد أن يُرجعها فلا بد من عقدٍ ومهرٍ جديد.
السؤال: يقول: من أراد التمتع بالعمرة إلى الحج، فبدأ بالعمرة ثم أنهاها: هل يخلع الإحرام ثم إذا جاء يوم التروية أحرم بالحج، أم يبقى الإحرام عليه حتى يبدأ الحج؟
الجواب: الفائدة من التمتع أنه إذا أتى بالعمرة خلع إحرامه وأصبح حلالًا، هذه هي الفائدة من التمتع. فإذًا؛ إذا أتى المتمتِّع بالعمرة فإنه ينقضي إحرامه بالعمرة ويُصبح حلالًا ويلبس ملابسه ويحل له كُلُّ شيءٍ حرُم عليه بالإحرام، حتى إذا أتى يوم التروية أحرم بالحج، الذي يستمر على إحرامه هو القارِن والمُفرِد، فإنهما يستمران على إحرامها، لا يخلعان إحرامهما وإنما يستمران.
السؤال: قال: ما صحة الحديث الذي ذكرتَه: لما دعا النبي لأُمَّته في ليلة مزدلفة فاستجاب الله دعاءه، في أيِّ كتاب؟
الجواب: أشرت لهذا الحديث، وقلت: إنه حديث ثابت؛ لأن الحافظ ابن حجر صنَّف رسالةً في جمع طرق هذا الحديث، يعني: الكلام فقط عن طرقه، واسم هذه الرسالة -وهي موجودة في المكتبات مطبوعة- "قوة الحٍجاج في عموم المغفرة للحاج"، وقد خلص الحافظ ابن حجر إلى أن هذا الحديث ثابتٌ، وأنه حديث حسنٌ عند الجمهور.
السؤال: خادمةٌ أتت من دون محرمٍ وتريد الحج، هل آذَنُ لها أم لا؟
الجواب: أولًا: هل أنت وليُّ أمرها؟! أنت كفيلٌ، لكن الكفيل ليس وليَّ أمرٍ، فهي إذا أرادت الحج فيُبيَّن لها أن الحج لا يجب عليها؛ لكونها لا تجد محرمًا.
ولكن إذا أصرَّت على أن تحج أرى أن الكفيل ما يمنعها؛ فإن هناك بعض أهل العلم كالشافعية يرون أن المرأة يجوز لها أن تحج مع الرفقة المأمونة. وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الحج خاصة وفي كُلِّ سفرِ طاعةٍ، قال: مع الرفقة المأمونة، خاصةً إذا كانت هذه الخادمة ربما إذا رجعت إلى بلدها لا يتهيَّأ لها الحج مرة أخرى في عمرها؛ لأنه -كما قلنا- لا يتم مِن الحُجَّاج ولا (1%)، فمتى تتهيأ لها فرصة الحج؟
فأقول: يُبيَّن لها أنه لا يجب عليها الحج، لكن إذا رغبت فأرى أن كفيلها لا يمنعها من ذلك؛ لأن المسألة محل خلاف بين أهل العلم، وربما يكون علماء بلدها يُفتون بالرأي الآخر وهو أنه يجوز للمرأة أن تحج مع الرفقة المأمونة. فإذا رغبت في الحج فأرى أنه لا يمنعها، ولكن أهم شيءٍ أن يتأكَّد من أن الرفقة التي تحجُّ معها أنها رفقة مأمونة.
السؤال: كم يكون في نُسُك القِران من طوافٍ وسعيٍ، هل يكون طواف الإفاضة وطواف الوداع بنية واحدة؟
الجواب: القِران والإفراد فيهما سعيٌ واحد فقط، بينما التمتع سعيان.
أما بالنسبة للأطوفة؛ فبالنسبة للمتمتع يطوف طواف العمرة، وطواف الإفاضة وطواف الوداع.
وبالنسبة للقارِن والمُفرِد يستحب ولا يجب طواف القدوم، وطواف الإفاضة ركنٌ وطواف الوداع واجب، فعندنا طواف الإفاضة والوداع: الإفاضة ركنٌ والوداع واجبٌ.
طواف العمرة بالنسبة للمتمتع أيضًا هو ركنٌ في العمرة. وطواف القدوم للقارِن والمُفرِد مستحبٌّ وليس واجبًا.
بالنسبة للقارِن والمُفرِد إن شاءا قدَّما السعي وإن شاءا أخَّرا، لكن إذا قدَّماه لا بد أن يأتيا بطواف القدوم، يطوفان طواف القدوم ثم يسعيان سعي الحج؛ لأن السعي لا يصح بدون طواف، لا بد أن يسبق السعي طواف، وإذا سعيا بعد طواف القدوم أجزأ ذلك، يعني: لا يجب عليهما السعي بعد ذلك، وإن شاءا أخَّرا السعي بعد طواف الإفاضة، كل هذا جائز.
وأما المتمتع فإن القول الصحيح: أنه يجب عليه سعيان: سعيٌ للعمرة، وسعيٌ للحج.
أما كون طواف الإفاضة وطواف الوداع بِنيَّة واحدة: سبق أن تكلمنا عن هذا، وقلنا: إنه يجوز تأخير طواف الإفاضة ليكون آخر أعمال الحاج، لكن يكون بنية الإفاضة أو بنية الإفاضة والوداع، أما أن يجعله بنية الوداع فقط فإنه لا يكفي عن طواف الإفاضة.
السؤال: هل يجوز أن أذهب إلى أقاربي أيام التشريق؟
الجواب: هذا فيه تفصيل: أما قبل الفراغ من أعمال النُّسُك فيجوز، حتى لو كان أقاربك في جدة أو في الشرائع أو في الطائف، يجوز أن تذهب، لا مانع يمنع من هذا.
أما بعد الفراغ من أعمال النُّسُك فليس له أن ينفر حتى يطوف طواف الوداع؛ لقول النبي : لا ينفرَنَّ أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت[29]، مثلًا في اليوم العاشر لو أراد أن يذهب إلى أقاربه لا حرج، يوم الحادي عشر لا حرج، اليوم الثاني عشر لا حرج؛ إذا كان متأخِّرًا، أما إذا كان متعجِّلًا فنقول: لا، ليس لك أن تذهب وأن تنفر حتى تطوف طواف الوداع.
السؤال: ما هي أفضل الأعمال المتعدِّية في الحج؟
الجواب: على كل حال ذكرنا أن من أفضل الأعمال: إطعام الطعام، وسقيا الحجاج، وقلنا: إن هذا عملٌ صالحٌ، قال عليه الصلاة والسلام: خيركم من أطعم الطعام[30]، هذا من الأعمال الصالحة. وأيضًا نفع الناس وإرشادهم وتعليمهم، ونشر العلم الصحيح وتعليم الناس هذا لا شك أنه من أفضل الأعمال التي يتعدَّى نفعها.
السؤال: متى تبدأ التلبية ومتى تنتهي؟
الجواب: تبدأ التلبية بالنسبة للمتمتِّع من حين أن يُحرِم بالعمرة، وتنتهي حين يبدأ في الطواف، وبالنسبة للحاج من حين أن يُحرِم بالحج تبدأ التلبية إلى أن يتحلَّل التحلُّل الأول يوم العيد، فإذا تحلَّل ينتقل بعد ذلك من التلبية إلى التكبير.
السؤال: ما حكم رفع الصوت بالتكبير؟
الجواب: التكبير تكلمنا عنه.
السؤال: قال: سوف أُحرِم من الميقات، ومن ثَمَّ سوف أذهب إلى جدة حتى أضع أطفالي في جدة ثم أذهب إلى العمرة، هل يجوز أن أكون قريبًا من مكة ولا أدخلها وأنا محرم؟
الجواب: على كل حال لك أن تذهب إلى جدة، لكن بإحرامك تكون محرمًا ولا حرج عليك، هو يسأل عن إبقاء الإحرام عليه يومًا أو يومين أو ثلاثة، لا حرج عليك في هذا، لكن المهم أنك تُحرِم من الميقات، وتبقى على إحرامك إلى أن تأتي بالعمرة.
السؤال: هل يجوز للمرأة أن تذهب وحدها لرمي الجمرات أو طواف الإفاضة؟
الجواب: نعم، يجوز ذلك؛ لأن هذا ليس سفرًا، لكن لا تخلو بالرجال الأجانب.
السؤال: هل يجوز فكُّ الإحرام للاغتسال وتغييره بإحرام جديد؟
الجواب: نعم، يجوز ذلك، كل هذا قد ورد عن النبي ، لا حرج على الحاج أو المعتمر أن يغتسل، لا حرج عليه، بل ربما يُستحب له ذلك، يعني طلب النظافة، وأن يكون الإنسان نظيفًا هذا أمر مطلوب، والله تعالى يقول: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، فكون الإنسان مثلًا إذا رأى أن جسمه قد اتَّسخ ونحو هذا ويذهب ويغتسل حتى وهو محرِم، نقول: لا حرج في هذا.
السؤال: قال: قلت: إن الحاج يُغفر له حتى الكبائر، مع العلم أن من الناس من يحج ويعتقد أن النفع والضُّر من غير الله؟
الجواب: المغفرة لمن اتقى فقط، لمن وقع حجُّه مبرورًا؛ لهذا قال عليه الصلاة والسلام: من حَجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه[31]، ليس كل الحجاج يُغفَر لهم، إنما يُغفَر لمن وقع حجُّه مبرورًا.
وهذا الذي قد ذُكر في السؤال: إذا كان يعتقد أن أحدًا غير الله ينفع ويضر؛ فهذا لا شك أنه وقع في الشرك الأكبر، والشرك أعظم الذنوب: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فليس كل الحجاج يُغفَر لهم، إنما يُغفَر لمن وقع حجه مبرورًا.
السؤال: يقول: إنه نَذَرَ نذرًا، وإنه هنا في السعودية... هل يجوز لي أن أقوم بهذا النذر هنا؟ فأيُّ مكانٍ أفضل؟
الجواب: على حسب النذر، النذرُ ألجمه، لا بد من الوفاء بالنذر، إذا كان نذْرَ طاعةٍ يجب الوفاء به، فمن لم يَفِ به فهو على خطر عظيم؛ لأن الله تعالى يقول: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77].
فالذي يُعاهد الله على شيءٍ وينذر نذْرَ طاعةٍ ولا يفي به هو على خطرٍ من أن الله تعالى يُعاقبه بعقوبة النفاق، وهي من أشدِّ ما يكون من العقوبة: إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ يعني: إلى أن يلقى الله إلى الممات والعياذ بالله.
ولذلك نقول: إذا كان نذْرَ طاعةٍ فيجب عليك الوفاء به، أما إذا لم يكن نذر طاعةٍ فأنت مخيَّرٌ بين الوفاء به إذا لم يكن معصية وبين أن تُكفِّر كفارة يمين.
السؤال: عليَّ يومان قضاء، هل يجوز أن أصومهما هذه الأيام؟
الجواب: نعم، ذكرنا هذا أنه لا بأس بصومهما هذه الأيام.
السؤال: اسم الكتاب الذي كتبه الحافظ ابن حجر في حديث المِرْداس؟
الجواب: "قوة الحِجاج في عموم المغفرة للحاج".
ونكتفي بهذا القدر في الإجابة عن الأسئلة. ونسأل الله للجميع الفقه في الدين، والعلم النافع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
^1 | رواه ابن أبي شيبة في "المصنف": 31818، والحاكم في "المستدرك": 3464، والبيهقي في "الكبرى": 9833. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 1773، ومسلم: 1349. |
^3 | رواه البخاري: 1519، ومسلم: 83. |
^4 | رواه البخاري: 2876. |
^5 | رواه البخاري: 2784. |
^6 | رواه البخاري: 1820، ومسلم: 1350. |
^7 | رواه ابن ماجه: 3013. |
^8 | رواه مسلم: 121. |
^9 | رواه أحمد: 14694، وابن ماجه: 1406. |
^10 | رواه أحمد: 4462، والطبراني: 845. |
^11 | رواه أحمد: 4462، والترمذي: 959، وابن ماجه: 2956. |
^12 | رواه أحمد: 4462، والترمذي: 959، وابن ماجه: 2956، وابن خزيمة: 2753. |
^13, ^14 | رواه مسلم: 1218. |
^15, ^17, ^23, ^31 | سبق تخريجه. |
^16 | رواه البخاري: 1469، ومسلم: 1053. |
^18 | رواه ابن أبي شيبة في "المصنف": 13084، والفاكهي في "أخبار مكة": 904، والروياني في "المسند": 65. |
^19 | رواه البخاري: 4712، ومسلم: 194. |
^20 | رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907 |
^21 | رواه الترمذي: 3175، وابن ماجه: 4198. |
^22 | رواه مسلم: 1977. |
^24 | رواه البخاري: 6651. |
^25 | رواه مسلم: 1176. |
^26 | رواه البخاري: 969. |
^27 | رواه البخاري: 3420، ومسلم: 1159. |
^28 | رواه البخاري: 5252. |
^29 | رواه البخاري: 1755، ومسلم: 1327. |
^30 | رواه أحمد: 23971. |