logo
الرئيسية/محاضرات/ثوابتنا في زمن الفتن

ثوابتنا في زمن الفتن

مشاهدة من الموقع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد:

فيا أيها الإخوة، نسمع بأشخاصٍ كانوا على جانبٍ من الخير والصلاح والاستقامة، إذا رأيتهم أعجبك سَمْتُهم وأعجبتك أحوالهم وأعجبك صلاحهم، ثم إذا بك تُفَاجأ إذا رأيتَهم بعد مدة من الزمن بأن أحوالهم قد تغيرت، وأن هؤلاء الذين كنت ترى فيهم مظاهر الخير والصلاح إذا بأحوالهم تتغيَّر، وإذا بأحوالهم تتبدَّل، وإذا بهم قد انضموا إلى ركب المتساقطين على الطريق.

ما هو السبب يا تُرى؟! ما هو السبب في انتكاسة هؤلاء؟! ما هو السبب في تبدُّل أحوالهم؟! ما هو السبب في تغيُّر أمورهم؟!

إنها الفتنة، نعم -أيها الإخوة- إن هذا الإنسان قد يُفتن، قد سقط في وَحْلِ الفتنة.

فما هي الفتنة؟ وما حقيقتها؟ وما السُّبل الواقية منها.

هذا -أيها الإخوة- هو موضوع محاضرتنا لهذه الليلة، وسوف أتحدث معكم في هذه المحاضرة عن معنى الفتنة في اللغة، وإطلاقات الفتنة في القرآن، وعن استقبال الناس للفتنة، وعن فتنة الإنسان لنفسه، وعن فتنة الناس بعضهم لبعض، ثم أنتقل بعد ذلك للحديث عن أنواع الفتن، وأنها تنقسم إلى قسمين:

  • فتن شهوات، ويدخل فيها: فتنة المال، وفتنة النساء، وفتنة الهوى. وأُبيِّن العلاج الواقي من هذه الفتن.
  • والقسم الثاني: فتن شبهات، ومصدر هذه الشبهات، والعلاج الواقي منها.

التحذير من الوقوع في الفتن

أقول وبالله التوفيق: نحن -أيها الإخوة- نعيش في زمان قد كثُرت فيه الفتن بأنواعها: فتن شهوات، وفتن شبهات.

وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن من أشراط الساعة كثرة الفتن؛ ولهذا فإن هذا الموضوع مهم، وفي غاية الأهمية للمسلم، خاصة في وقتنا الحاضر الذي نعيشه؛ فلا بد أن يتعرَّف المسلم على حقيقة هذه الفتن، وعلى سُبُل الوقاية منها.

إن بعض الناس قد يقع في الفتنة من حيث لا يشعر، وقد يرتكس وتنتكس أحواله بسبب هذه الفتنة من حيث لا يشعر.

أيها الإخوة، إن هذه الدار هذه الدنيا هي دار ابتلاء وامتحان، هي دار اختبار، كما قال ربنا : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165]، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2].

قال ابن القيم رحمه الله: فالعبد في هذه الدار مفتونٌ بشهواته، ونفسه الأمَّارة، وشيطانه المغري، وقرنائه، وما يراه وما يُشاهده مما يعجز صبره عنه، ويتفق مع ذلك ضعف الإيمان واليقين، وضعف القلب، ومرارة الصبر، وذوق حلاوة العاجل، وميل النفس إلى زهرة الحياة الدنيا، وكون العوض مؤجلًا في دارٍ أُخرى غير هذه الدار التي خُلق فيها وفيها نشأ، وهو مكلَّف بأن يترك شهوته الحاضرة المشاهَدة لغيبٍ طُلب منه الإيمان به.

وقد حذر النبي من الفتن بأنواعها في غير موضع، فقال عليه الصلاة والسلام كما في "صحيح مسلم": تعوَّذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن[1]. وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه" بقوله: "باب: من الدين الفرار من الفتن"، وبوَّب الإمام مسلم في "صحيحه" بقوله أو بُوِّب على "صحيح مسلم" عند ذكر أحاديث الفتن: "باب التعوذ من شر الفتن".

معنى الفتنة في اللغة

الفتنة: معناها في اللغة: الامتحان والاختبار، تقول: فتنتُ الذهب؛ إذا أدخلته النار لتنظر مدى جودته.

إطلاقات الفتنة في القرآن

وقد وردت الفتنة في القرآن الكريم على معان متعددة:

  • فوردت بمعنى الشرك، كما في قول الله تعالى وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ يعني: حتى لا يكون شركٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال:39]، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:217] يعني: الشرك.
  • ووردت بمعنى الكفر، ومنه قول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7].
  • ووردت الفتنة بمعنى الابتلاء والاختبار والمحنة، كما في قول الله تعالى: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طه:40]، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت:3]، أي: اختبرناهم.
  • ووردت بمعنى العذاب، كما في قول الله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا [النحل:110] أي: عُذِّبوا، ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [الذاريات:14]، جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10].
  • ووردت أيضًا بمعنى الإثم، ومنه قول الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49] أي: في الإثم، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] أن تُصيبهم فتنة بمعنى: إثم.
  • ووردت الفتنة في القرآن بمعنى التعذيب والإحراق بالنار، ومنه قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10]، إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يعني: عذبوهم.
  • ووردت الفتنة بمعنى القتل، كما في قول الله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101].
  • ووردت بمعنى الصد عن الصراط المستقيم، كما في قوله: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء:73]، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ [المائدة:49].
  • ووردت بمعنى الحيرة والضلالة: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ [المائدة:41].
  • وبمعنى العذر والعلة: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23] أي: عذرهم.
  • ووردت بمعنى العبرة: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس:85].

وبمعنى العقوبة، وبمعنى المرض، وبمعنى القضاء، وإطلاقات أخرى.

أيها الإخوة، والذي يعنِينا من هذه المعاني هي الفتنة التي هي بمعنى: الابتلاء والامتحان والاختبار.

استقبال الناس للفتنة

إن بعض الناس -أيها الإخوة- يدَّعي الإيمان، ويقول بلسانه: آمنت، ولكن الإيمان هذا شيءٌ عظيمٌ، وشيءٌ نفيس، فلا بد من بُرهان على صدقه، وإلا فإن الدعوى باللسان غير كافية؛ ولهذا فإن الإنسان يُبتلى ويُفتن ويُمتحن حتى يتبيَّن صدقه في هذه الدعوى.

ولهذا يقول الله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10]؛ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ أي: يدَّعي دعوى بأنه قد آمن بالله، ولكنه عندما يُفتن يجعل فتنة الناس -أي: أذى الناس له؛ إما بضربٍ، أو أخذِ مالٍ، أو تَعْييرٍ، أو تسفيهٍ، أو نحو ذلك- يجعل ذلك كعذاب الله. فهذا قد وقع في الفتنة وقد سقط في الفتنة.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]، إن من الناس من يصده عن طريق الخير والاستقامة أدنى أذًى، ربما أنه يريد أن يستقيم، يريد أن يلتزم بطاعة الله ، ثم يُؤذيه أحد الناس بكلمة، يُعيِّره، يستهزئ به، فتُؤثِّر فيه هذه الكلمة وتصدُّه عن طريق الخير والاستقامة.

ما أكثر الذين يتمنون الاستقامة ولكنهم يخشون من كلام الناس، يخشون من مَلامَة الناس، يخشون من استهزاء الناس بهم؛ هذا أبو طالب كان يعرف أن ما جاء به النبي هو الحق الذي لا شك فيه، وكان يقول:

ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا

لكن ما الذي منعه؟ ما الذي صده عن الإيمان؟

لولا الملامة أو حِذَارُ مسبَّة لوجدتني سمحًا بذاك مبينا

خشية ملامة الناس، وخشية سِباب الناس له، هل نفعه الناس؟ ما نفعوه.

هذا -يا إخوان- الذي قد صَدَّ أبا طالب عن الإسلام هو الذي يصُدُّ كثيرًا من الناس عن سلوك طريق الاستقامة اليوم، والناس لا تملك لأنفسها نفعًا ولا ضرًّا، والناس لا ينفعون الإنسان بشيءٍ ولا يدفعون عنه ضُرًّا.

ولهذا؛ فعلى المسلم إذا اختار طريق الاستقامة أن يُشَمِّر ساعد الجِدِّ، وأن يسلك هذا الطريق، ولا يأبه بالناس ولا بفتنتهم ولا سخريتهم ولا بكلامهم.

فتنة الإنسان لنفسه

وإن الإنسان قد يفتن نفسه بنفسه، كيف هذا؟ نعم، إن الإنسان قد يصاب بشيء من العُجب، قد يصاب بشيء من الغرور، قد يتبع شهواته وهواه، قد يصاب بشيء من الشكوك فيقع في الفتنة ويفتن نفسه بنفسه، تغره الأماني الباطلة وطول الأمل؛ يقول ابن القيم رحمه الله: "فالعبد في هذه الدار مفتونٌ بشهواته، وبنفسه الأمارة، وشيطانه، وقرنائه، وما يُشاهده مما يعجز صبره عنه".

فتنة الناس بعضهم لبعض

وإذا كان الإنسان قد يُفتن بنفسه؛ فإن من حكمة الله أن جعل الناس بعضهم لبعض فتنة، كما قال ربنا : وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ [الفرقان:20]، فاختبر الله تعالى الناس بعضهم ببعض، فالمسلم مبتلًى بالكافر، والكافر مفتونٌ بالمسلم ومبتلًى به. وابتلى الله تعالى الأغنياء بالفقراء، والفقراء بالأغنياء، والضعفاء بالأقوياء، والأقوياء بالضعفاء، والرجال بالنساء، والنساء بالرجال، وهكذا.

ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: وهذا عامٌّ في جميع الخلق، امتحن الله بعضهم ببعض؛ امتحن الرسل بالمرسَل إليهم ودعوتِهم إلى الحق والصبر على أذاهم وتحمُّل المشاق في تبليغهم رسالات ربهم. وامتحن المرسَل إليهم بالرسل: هل يُطيعونهم وهل ينصرونهم ويصدقونهم، أم يكفرون بهم ويردون عليهم؟ وامتحن العلماء بالجُهَّال: هل يُعلِّمونهم وينصحونهم ويصبرون على تعليمهم ونصحهم وإرشادهم؟ وامتحن الجُهَّال بالعلماء: هل يُطيعونهم ويهتدون بهم. وامتحن الملوك بالرعية، والرعية بالملوك. وامتحن الأغنياء بالفقراء، والفقراء بالأغنياء. وامتحن الضعفاء بالأقوياء، والأقوياء بالضعفاء. وامتحن الرجال بالنساء، والنساء بالرجال. وامتحن المؤمنين بالكفار، والكفار بالمؤمنين. وامتحن الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم، وامتحن المأمورين بهم؛ ولهذا كان فقراء المهاجرين وضعفاؤهم من أتباع الرسل فتنةً لأغنيائهم ورؤسائهم. إلى آخر ما قال: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53].

أنواع الفتن

أيها الإخوة، وإن الفتن التي تعرض للمسلم في هذه الدنيا تتنوع إلى: فتن شهوات، وفتن شبهات. وقد يقع الإنسان في أحد هذين النوعين، وقد يقع فيهما جميعًا.

فتن الشهوات

فتنة المال والولد

أما فتن الشهوات فهي كثيرة، ومن أبرزها: فتنة المال والولد، وهذه قد ذكرها الله تعالى بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28]. نعم، الأموال التي في أيدينا هذه فتنة، نعم إنها فتنة في تحصيلها، وفتنة في تمويلها، وفتنة في إنفاقها.

أما الفتنة في تحصيلها، فإن الله قد شرع لتحصيلها طرقًا مباحةً مبنيةً على العدل بين الناس، ليس فيها ظلم ولا عدوان، فانقسم الناس إلى قسمين:

  • قسمٌ اتقى الله تعالى وأجمل في الطلب، فاكتسبها من طريق مباح، فكانت بركة عليه إذا أنفق، ومقبولة منه إذا تصدق، وأجرًا له إذا خلَّفها لورثته، فهو غانمٌ منها دنيا وأُخرى.
  • القسم الثاني: لم يتق الله فيها، ولم يُجمل في طلبها، فصار يكتسب المال من أيِّ طريقٍ أُتيح له من حلال أو حرام، من عدل أو ظلم، لا يُبالي بما اكتسب، فالحلال عنده ما حَلَّ بيده، فهذا المال الذي قد اكتسبه من طريق محرم؛ إن أنفقه لم يُبارك له فيه، إن تصدق منه لم يُقبل منه، إن خلَّفه بعده كان وزرًا وزادًا له إلى النار والعياذ بالله، لغيره غُنْمه وعليه إثمه وغُرْمه.

أليس هذا -أيها الإخوة- فتنة؟

وأما فتنة المال في تمويله؛ فمن الناس من يكون المال أكبر همه وشغل قلبه، إن قام فهو يُفكِّر فيه، إن قعد فهو يُفكِّر فيه، إن نام كانت أحلامه فيه، فالمال ملء قلبه، وبصر عينه، وسمع أذنه، وشُغل فكره، يقظةً ومنامًا، حتى عباداته لم تسلم، فهو يُفكِّر في أمواله في صلاته وفي قراءته وفي ذكره، كأنه إنما خُلق لهذا المال، فهو النَّهِم الذي لا يشبع، والمفتون الذي لا يُقلع.

ومن الناس من عرف للمال حقه، ونزَّله منزلته، فلم يكن المال أكبر همِّه، ولا مبلغ علمه، وإنما جعله في يده لا في قلبه، فلم يشغله عن ذكر الله، ولا عن الصلاة، ولا عن القيام بما أمر الله تعالى به.

وأما الفتنة في إنفاقه فإن الناس قد انقسموا إلى ثلاثة أقسام:

  • فمنهم البخيل الذي منع حق الله وحق عباده في ماله، فلم يُؤَدِّ الزكاة، ولم يُنفِق على مَن يجب عليه الإنفاق من الأهل والقرابات.
  • ومن الناس المسرف المفرِّط المبذِّر الذي قد بذَّر أمواله وأنفقها فيما لا يُحمد عليه شرعًا ولا عرفًا، فهذا من إخوان الشياطين.
  • ومن الناس من إذا أنفقوا لم يُسرِفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا.

إذًا -أيها الإخوة- هذا المال فتنة عظيمة للإنسان، لا ينجو من شره إلا من اتقى الله تعالى في طلبه، واتقى الله تعالى في إنفاقه؛ يقول النبي : لن تزولَ قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله ويسأل عنه سؤالان: السؤال الأول: من أين اكتسبه؟ والسؤال الثاني: فيم أنفقه[2].

أيها الإخوة، إن من الناس من هو مفتونٌ بالمال، ومن آثار هذه الفتنة أنك تجده طيلة عمره هو في الحقيقة بمثابة الحارس لهذا المال، ليس مالكًا لهذا المال بل هو حارس، كيف؟ تجد أنه ممسكٌ متشبِّثٌ بهذا المال، يحرسه حراسةً قويةً محكمةً إلى أن يموت، فهو في الحقيقة بمثابة الحارس لهذا المال للورثة مِن بعده، ماذا استفاد من هذا المال؟

ألسنا نرى -أيها الإخوة- من يملك الثروة الكبيرة، من يملك الكثرة الكاثرة من الأموال، ثم إذا به يموت فتنتقل هذه الأموال غنيمة باردة للورثة من بعده، وربما أن هؤلاء الورثة لا يحمدونه عليها.

امرأةٌ تستفتي أحد المشايخ تقول: إن والدها قد زوجها رجلًا كبيرًا وكان مُقتِّرًا عليهم، وكانوا يعذرونه لأنهم يظنون أنه ليس عنده مال كثير، فلما مات تقول: إذا بنا نُفَاجأ بأن في رصيده أكثر من أربعين مليون ريال، تعجبنا أشدَّ العجب! كيف كان هذا الإنسان مقتِّرًا طيلة حياته، ليس علينا فحسب بل حتى على نفسه، ويأتي الناس ويتصدقون على هذه الأسرة، وربها يملك هذا المبلغ الكبير من الأموال!

أليس هذا أيها الإخوة قد فُتن في ماله؟! وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28]، ويشترك مع المال في هذا فتنة الولد؛ فإن الولد قد يفتِنُ الإنسان عن دين الله تعالى، قد يتسبب في أن يصده عن دين الله ؛ ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].

ينبغي أن يجعل المسلم همه الأكبر هو الدار الآخرة، فلا يشغله عن ذلك مال ولا ولد.

فتنة النساء

ومن أنواع فتنة الشهوات: فتنة النساء، كما قال الله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران:14]. وانظر كيف أن النبي ابتدأ بذكر النساء؛ وذلك لأن الفتنة بهن أشد؛ ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام كما في حديث أسامة بن زيد في "صحيح البخاري": ما تركتُ بعدي فتنة أضَرَّ على الرجال من النساء[3]، ويقول عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي سعيد : اتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء. أخرجه مسلم في "صحيحه"[4].

اتقوا الدنيا واتقوا النساء، قال النووي: اتقوا النساء أي: اجتنبوا الافتتان بالنساء، ويدخل في النساءِ الزوجاتُ وغيرهن، وأكثرهن فتنة الزوجات؛ لدوام فتنتهن وابتلاء أكثر الناس بهن.

النساء إما أن يَكُنَّ أجنبيات ففتنتهن عظيمة؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إن المرأة تُقبِل في صورةِ شيطانٍ، وتُدبر في صورة شيطان، كما قال عليه الصلاة والسلام: فإذا أبصر أحدكم امرأةً فليأتِ أهله، فإن ذلك يرُدُّ ما في نفسه. وهذا الحديث أخرجه مسلم في "صحيحه"[5].

قال النووي: ويُستنبط من هذا أنه ينبغي للمرأة ألا تخرج بين الرجال إلا لضرورة، وأنه ينبغي للرجل الغضُّ عن ثيابها، والإعراض عنها مطلقًا، والمراد من تشبيهها في خروجها مُقبلة ومُدبِرة في صورة شيطان هو أنه يحصل بذلك الإغواء، كما أن الشيطان له قدرة على إغواء بني آدم، فكذلك المرأة يحصل بها الإغواء للرجال؛ ولهذا يقول الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] فالأصل في المرأة هو القرار في البيت؛ لأنها إذا خرجت أمام الرجال الأجانب فإنها تُقبِل في صورة شيطان وتُدبِر في صورة شيطان، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق .

إن من الناس -أيها الإخوة- من هو واقعٌ في فتنة النساء فأصبح قلبه مريضًا، وقد ذكر الله تعالى هذا في قوله: فلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]؛ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ هو الذي يطمع في المرأة إذا خضعت بالقول.

مِن الناس مَن يقع في هذه الفتنة وذلك لمرضٍ في قلبه؛ ولهذا تجد أنه يعاكس النساء في الأسواق، وربما أيضًا من النساء من يقع في هذه الفتنة، فتذهب وتعاكس الرجال في الأسواق، وربما لا يكون ذلك لقوة شهوة؛ ولكن ذلك لأجل مرضٍ في القلوب، فيطمع الذي في قلبه مرض. فهذا نوعٌ أيها الإخوة من الفتنة، فمن ابتُلي بذلك فهو مريض، وعليه أن يُعالج نفسه ويسعى في أسباب العلاج من هذا المرض وأسباب الخلاص من هذه الفتنة.

اتباع الهوى

ومن أنواع فتنة الشبهات: اتباع الهوى. واتباع الهوى -في الحقيقة أيها الإخوة- تنشأ عنه جميع المعاصي، فهو يصد الإنسان عن الحق، ويقوده إلى الرَّدى، وإذا استرسل معه الإنسان فقد يكون عبدًا له من حيث لا يشعر، كما قال الله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43].

هل يكون الهوى إلهًا للإنسان؟ استمع للآية: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان:43]، نعم إن الإنسان قد ينقاد لهواه فيكون كالإله له؛ قال ابن رجب رحمه الله: "إن جميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه، وكذلك البدع تنشأ من تقديم الهوى على الشرع؛ ولهذا يسمى أهل البدع بأهل الأهواء. ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه؛ كان ذلك نقصًا في إيمانه الواجب".

والنفس بطبعها تركن إلى الهوى؛ ولهذا تحتاج إلى نهيٍ، كما قال الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41].

قال ابن القيم رحمه الله: إن العبد إذا أتبع نفسه هواه فسد رأيه ونظره، فَأَرَتْهُ نفسه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، فالتبس عليه الحق بالباطل، فأنى له الانتفاع بالتذكُّر والتفكُّر والعظة.

وصاحب الهوى يعميه الهوى ويُصِمُّه، فهَمُّه تحصيل شهواته، فتصرُّفاته منوطةٌ بمصالحه وشهواته فحسب؛ ولهذا قال عليٌّ : إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: طول الأمل واتباع الهوى. أما طول الأمل فيُنسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق. والكلام عن هذا الأمر يطول، لكن حسبنا أن نُشير إلى هذا إشارة.

وفتن الشهوات متنوعة وكثيرة، ولكن ما ذكرت هو أبرزها، وهنا نأتي بعد ذلك إلى العلاج:

مَن كان واقعًا في فتنة من فتن الشهوات، ويجد أن هذه الفتنة قد صدَّته عن كثير من الطاعات، وأوقعته في معصية الله ، كأن يكون مثلًا قد وقع في فتنة النساء، أو وقع في فتنة المال، أو أنه وقع في اتباع الهوى، أو نحو ذلك، فما هو العلاج؟ وكيف يتخلص المسلم من هذه الفتنة؟

أبرز وسائل علاج فتن الشهوات

أقول: إن هذا العلاج قد ورد ذكره في الكتاب والسنة، ومن أبرز وسائل العلاج:

الصبر

أولًا: ما ذكره الله تعالى في قوله: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، قال أهل العلم: إن فتنة الشهوات تُدفَع بالصبر، وفتنة الشبهات تُدفَع باليقين؛ ولهذا جمع الله تعالى بينهما في هذه الآية، ومن صبر وكان موقنًا فإنه يكون من الأئمة في الدين: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ.

إذًا؛ أول أمرٍ من الأمور التي تُعالج بها فتنة الشهوات هو الصبر؛ لأن فتنة الشهوات تنشأ عن اتباع الإنسان لشهواته: إما شهوة النساء وإما شهوة المال أو الولد أو الهوى أو غير ذلك، وحتى يفطم الإنسانُ نفسَه عن الشهوات المحرمة لا بد من الصبر.

الصبر -أيها الإخوة- مدرسةٌ عظيمةٌ للمسلم، لا بد أن يكون الصبر منهجًا للمسلم في حياته، مبدأً له يسير عليه في هذه الحياة؛ ولهذا يقول النبي في الحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه": وما أُعطِي أحدٌ عطاءً خيرًا ولا أوسع من الصبر[6].

ينبغي أن يُمرِّن الإنسانُ نفسه على الصبر؛ فعلى سبيل المثال: في الصبر على طاعة الله إذا ثقُلت نفسه عن الصلاة، يَصْبِر نفسَه، يحبس نفسه، حقيقة الصبر هي الحبس، حبس النفس عن الجزع والتشكِّي، فيحبس نفسه ويَصْبِرها على أن تُؤدِّي هذه الصلاة، ثم إذا أتى للمسجد يَصْبِر نفسه على أن يُؤدِّي هذه الصلاة بخشوع؛ فإن هذا أيضًا يحتاج إلى صبر آخر، إذا صلى الصلاة المفروضة يَصْبِر نفسه على أن يأتي بالسنن، وهكذا.

في الصبر عن معصية الله تعالى إذا رأى صورةً محرمةً يَصْبِر نفسه على غض البصر عنها، إذا سمع سماعًا محرمًا يَصْبِر نفسه على الإعراض عنه، وهكذا.

فمثلًا المبتلى الواقع في فتنة النساء؛ مثلًا إنسانٌ مريضٌ يميل للنساء الأجنبيات، يعاكس النساء ونحو ذلك، يَصْبِر نفسه عن هذا الأمر، فيقول مثلًا: هذا اليوم أبتعد عن هذه المعصية لله ، ولا أقع فيها بأيِّ حال من الأحوال. ويلتزم بهذا، ثم في اليوم الثاني والثالث حتى يُروِّض نفسه على الاستقامة على طاعة الله ، وسيجد نفسه بهذا الصبر قد تخلَّص من هذه الفتنة.

الدعاء

وأيضًا من وسائل العلاج: الدعاء، ولهذا ذكرنا في مقدمة هذه المحاضرة أن النبي قال: تعوَّذوا بالله من مُضِلَّات الفتن، ما ظهر منها وما بطن[7].

ينبغي للمسلم أن يُكثر من الاستعاذة بالله تعالى من مضلَّات الفتن؛ لأن الإنسان مهما كان عليه من التقوى ومن الصلاح ومن العلم يبقى بشرًا ويبقى إنسانًا، وقد يقع في الفتنة من حيث لا يشعر، وقد تعتريه حالة ضعفٍ فيقع في الفتنة؛ ولهذا فعليه أن يضرع إلى الله سبحانه في أن يُجنِّبه مضلَّات الفتن.

ولهذا؛ كان من الأدعية التي كان النبي يُكثر منها: اللهم يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك[8]، اللهم يا مصرِّف القلوب صرِّف قلبي على طاعتك[9].

ينبغي أن يكون المسلم وَجِلًا مشفقًا؛ يسأل الله تعالى ويضرع إلى ربه سبحانه في أن يُثَبِّته على هذا الدين إلى الممات، وأن يُجَنِّبه مضلَّات الفتن؛ كان السلف على جانب عظيم من هذا، عمر يأتي لحذيفة رضي الله عنهما صاحب سِرِّ رسول الله ، فيقول له: يا حذيفة، أسألك بالله هل عدَّني رسول الله من المنافقين؟ يقول حذيفة : وأنت تقول هذا يا عمر! والله ما عدَّك من المنافقين ولا أخبر بعدك أحدًا أبدًا. انظروا أيها الإخوة، عمر  أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومع ذلك فهو وَجِلٌ خائفٌ مشفقٌ.

قال البخاري في "صحيحه": قال ابن أبي مُلَيكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه.

دائمًا المسلم يضرع إلى ربه في أن يُثَبِّته، وأن يُجَنِّبه الزَّيغ والضلال، وأن يقيه مضلَّات الفتن، المسلم يُكثر من دعاء ربه: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]؛ وإذا صدق العبدُ ربَّه في دعائه بأن يُجَنِّبه مضلَّات الفتن فإن الله سبحانه لن يُخَيِّب ظنَّه ولن يُخَيِّب رجاءه، ما إن تعرض له فتنةُ شبهةٍ أو شهوةٍ إلا ويعصمه الله تعالى منها.

ولهذا عصم الله تعالى يوسف عليه الصلاة والسلام بعدما تعرضت له الفتنة بأبهى صورها وحُلَّتها، لمَّا تعرضت له امرأةُ العزيز، امرأةٌ في غاية الجمال وقد خلت به وتهيَّأت له، وغلَّقت الأبواب وقالت: هيت لك. وهو شاب، وهمَّت به، وهمَّ بها وهو أيضًا متغربٌ، والغريب لا يعتريه من العيب واللوم ما يعتري المقيم، أي: إن دواعي الفتنة قد توفَّرت وتهيَّأت تمامًا، ومع ذلك وقاه الله سبحانه شَرَّ هذه الفتنة وعَصَمَه، لماذا؟ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ أي: لأنه مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].

أقول -أيها الإخوة-: ينبغي أن نضرع إلى الله سبحانه في أن يُجَنِّبنا مضلَّات الفتن، وأن يُثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

العناية بأحوال النفوس

وأيضًا من الأمور التي تُحصِّن المسلم من الوقوع في الفتنة: العناية بأحوال النفوس.

نعم -أيها الإخوة- ينبغي أن يكون المسلم عنده فقهٌ بأحوال هذه النفس؛ لأنه إذا لم يفقه أحوال النفس فإن هذه النفس ربما تُوقعه في الرَّدى من حيث لا يشعر، تأمل قول الله سبحانه: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41]، هذا يدل على أن النفس تحتاج إلى نهي، النفس بطبعها تنجرف للهوى، تحب الشهوات، تحب المُتَع العاجلة، فهي تحتاج إلى نهي، تحتاج إلى حزمٍ وعزمٍ وقوةِ إرادةٍ، وإلا فإن الإنسان الذي يُتبع نفسه هواها تقوده إلى الرَّدى والمهالك.

أحد الناس يقول: إنه يتمنى أن يحافظ على صلاة الفجر مع الجماعة، وإنه يتألَّم كثيرًا لكونه لا يُصلِّي الفجر مع الجماعة. فسألته لماذا؟ قال: تغلبني نفسي. هل هذا عذرٌ له أمام الله تعالى؟ لماذا لا تغلبه نفسه في الأمور التي تُهِمُّه من دنياه؟ لو كان عنده موعد في المطار هل ستغلبه نفسه؟ لو كان عنده موعد اختبار مثلًا هل ستغلبه نفسه؟ النفس إذا رأت من الإنسان عزيمة وقوة فإنها تنقاد له، كما يقول القائل:

والنفس كالطفل إن تُهْمِلْهُ شَبَّ على  حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

أرأيت الطفل إذا تُرك يرضع فإنه يستمر في الرضاع، لكن عندما يُفطَم يتألَّم يومًا ويومين وثلاثًا، ثم ينفطم هكذا النفس تمامًا.

والنفس تحتاج إلى محاسبة، وقد أمر الله تعالى ذلك بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، قال أهل العلم: هذه الآية أصلٌ في محاسبة النفس، وتحتاج مع المحاسبة إلى مُعاتبة ومُشارطة، يعني: إذا حاسبت نفسك وعاتبتها عن التقصير في طاعة الله  أو عن الوقوع فيما حرَّم الله، يحتاج ذلك منك إلى مُشارطة.

فعلى سبيل المثال: عندما تُحاسب نفسك مثلًا هذا اليوم تجد من وجوه التقصير عندك أنه فاتتك صلاة الفجر مع الجماعة، تُشارط نفسك من الغد لا تفوتك صلاة الفجر مع الجماعة، بل لا تفوتك أيُّ صلاةٍ مع الجماعة، بل ربما ترتقي إلى درجة أعلى وهي تُشارط نفسك على ألا تفوتك تكبيرة الإحرام خلف الإمام.

بهذه الطريقة تزكو النفس، وكان السلف على هذا، وهذا ما يسمى بلغة بعض المعاصرين "التخطيط"، يُخطِّط الإنسان لغده بأنه مثلًا غدًا سوف يحافظ على الصلوات الخمس مع الجماعة في المسجد، بأنه لن تفوته تكبيرة الإحرام، بأنه يقرأ كذا من القرآن، بأنه يفعل كذا وكذا، يتفقَّد نفسه كُلَّ يومٍ ويُشارط نفسه على تلافي وجوه التقصير عنده من الغد.

بهذا تزكو النفس -أيها الإخوة-: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

الارتباط بالصحبة الصالحة

وأيضًا من الأمور أو السُّبُل التي تُتَّقى بها فتن الشهوات: الارتباط بالصحبة الصالحة.

الإنسان -أيها الإخوة- بطبعه يتأثَّر بجلسائه، يتأثَّر ممن حوله، الإنسان السَّوي لا بد أن يتأثَّر؛ ولهذا فإن اختار الإنسان جلساء صالحين فإنه لا بد أن يتأثَّر بصلاحهم، وإن جلس مع جلساء سيئين فلا بد أن يتأثَّر بهم؛ ولهذا عندما يتقدم رجلٌ لخطبة امرأة يسأل أهل هذه المرأة: من جلساؤه؟ لو قيل: إنه يجالس الصالحين، يُجالس طلاب العلم، يُجالس الأخيار؛ هذه شهادةٌ وتزكيةٌ له، لكن لو قيل: إنه يُجالس جلساء سوء، فإن هذا ذمٌّ له.

ولهذا؛ فينبغي أن يختار المسلم الجلساء الصالحين الذين يُعِينونه إذا ذُكِّر، ويُذكِّرونه إذا نسي، هذا أيها الإخوة من أعظم العوامل التي يتقي بها المسلم فتن الشهوات.

فتن الشبهات

القسم الثاني من الفتن: فتن الشبهات، ونحن في زمنٍ قد كثرت فيه فتن الشبهات، وقد اتصل العالم الآن بعضه ببعض، وأصبح -كما يقال- كالقرية الصغيرة، تُلقى على الناس فتنٌ عظيمة، وبعض هذه الشُّبَه التي تُلقى على الناس شُبَهٌ عظيمة، بعض هذه الشُّبَه قد تُؤثِّر في بعض النفوس، قد تُحدِث لدى بعض الناس قلقًا واضطرابًا ورِيبة وشكوكًا، فيقع في الفتنة من حيث لا يشعر.

ومصدر هذه الشبهات؛ إما الوسائل الإعلامية من القنوات والشبكة العالمية للإنترنت وغيرها، وقد تكون هذه الفتن -فتن الشبهات- مصاحبة لحدث أو واقعة من الوقائع، فتلتبس الأمور مع تلك الأحداث وتلك الوقائع؛ ولهذا جاءت النصوص محذِّرةً من الوقوع في هذا النوع من الفتن، ومن استشراف هذه الفتن.

يقول النبي : ستكون فتنٌ القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تَشَرَّف لها تستشرفه، يعني: من تعرَّض لها، فمن وجد ملجأً أو ملاذًا فَلْيَعُذْ به[10]. ويقول عليه الصلاة والسلام: يتقارب الزمان، ويُقبض العلم، وتظهر الفتن، ويُلقى الشُّح، ويكثر الهرْج، قالوا: ما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل، القتل[11]. ويقول عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس زمانٌ لا يدري القاتل فيما قَتل، ولا المقتول فيما قُتِل، قالوا يا رسول الله، كيف ذلك؟ قال: الهرج، الهرج؛ يعني: القتل[12]. ويقول: بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يُصبح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرًا، ويُصبح كافرًا ويُمسي مؤمنًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا[13].

وفي الصحيحين عن حذيفة قال: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يُدركني، قال: فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دَخَنُ، قلت: وما دَخَنه يا رسول الله؟ قال: قوم يستنُّون بغير سُنَّتي، ويهتدون بغير هَدْيِي، تعرف منهم وتُنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله، صِفْهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة حتى يُدرِكك الموت وأنت على ذلك[14].

إذًا؛ عندنا منهج عظيم في كيفية التعامل مع هذه الفتن، منهجٌ رسمه لنا رسول الله .

كيفية التعامل مع فتن الشبهات

ما هي أبرز معالم هذا المنهج؟

الاعتصام بالكتاب والسنة

أولًا: الاعتصام بالكتاب والسنة: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].

وتقوى الله ، فإن تقوى الله فيها النجاة من الفتن، ومن صدَق الله تعالى في تديُّنه واتقى الله تعالى؛ فإن الله سبحانه يحفظ عليه دينه ويُجنِّبه مضلَّات الفتن، يقول النبي لابن عباس رضي الله عنهما: يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك[15].

احفظ الله يحفظك: احفظ الله تعالى بتقواه واتباع أوامره واجتناب نواهيه؛ الثمرة: يحفظك، يحفظك في ماذا؟ يحفظك في دينك ودنياك.

أما الحفظ في الدنيا فمعروف وظاهر: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، يعني: بأمر الله، يحفظ الله تعالى الإنسان في بدنه وفي أهله وفي ماله. هذا هو الحفظ في الدنيا.

لكن الحفظ في الدين هو الأشرف، الحفظ في الدين هو الأعظم، فما معنى الحفظ في الدين؟ أن الله تعالى يحفظ على الإنسان دينه ويُجنِّبه مضلَّات الفتن، يُثبِّته على هذا الدين، ما إن تعرض له فتنة إلا ويعصمه الله تعالى من الوقوع فيها؛ ولهذا تجد أن الذي يقع في فتنةٍ سواءٌ كانت فتنة شهوة أو فتنة شبهة، أقول: الذي يقع في الفتنة سواءٌ كانت فتنة شهوة أو فتنة شُبهة تجد أن عنده خللًا في تديُّنه وفي صدقه، لماذا؟ لأنه لو كان صادقًا مع الله تعالى، لو حفظ الله تعالى؛ لَحَفِظه الله تعالى في دينه، ولَعَصَمه من الوقوع في الفتنة، إن من ثمرة الصدق مع الله، من ثمرة تقوى الله : أن الله تعالى يحفظ على الإنسان دينه. وهذا هو أعظم ما يكون من الحفظ: احفظ الله يحفظك[16].

الفتنة -أيها الإخوة- قد تلتبس على الناس، قد تحصل وقائع وأحداث، ويقع الإنسان في شَرَكِ الفتنة من حيث لا يشعر؛ ولهذا يقول عليٌّ في وصف الفتنة: "تبدأ في مدارج خفية، وتؤول إلى فظاعة جلية، فتزيغ قلوبٌ بعد استقامة، وتضل رجالٌ بعد سلامة، تختلف الأهواء عند هجومها، وتلتبس الآراء عند نجومها، مَن أشرف لها قصمته، ومن سار فيها حطمته، تغيب فيها الحكمة، وتنطق فيها الظُّلمة، وتَثْلِمُ منار الدين، وتنقض عقد اليقين، تهرب منها الأكياس، وتُدبِّرها الأرجاس، مِرْعادٌ مِبْراقٌ كاشفةٌ عن ساق..." إلى آخر ما قال، ثم قال: "فلا تكونون أنصاب الفتن، وأعلام البدع، والْزموا ما عُقِد عليه حبل الجماعة، وبُنِيت عليه أركان الطاعة".

قواعد عند حصول فتن الشبهات

العلماء يذكرون قواعد عند حصول هذا النوع من الفتن:

أولًا: إذا وقعت هذه الفتن فعلى المسلم أن يضرع إلى الله تعالى، نحن ذكرنا هذا في سُبُل الوقاية من فتنة الشهوات، وهو كذلك من أعظم سُبُل الوقاية من فتنة الشبهات، يضرع إلى الله سبحانه بأن يُثبِّته بالقول الثابت، بأن يُثبِّته على دينه، بأن يُجَنِّبه مضلَّات الدين، وإذا صدق الله تعالى فإن الله لن يُخيِّب ظَنَّه، ولن يُخيِّب رجاءه.

ثانيًا: إذا ظهرت الفتن ولم يتضح للإنسان الحق فيها، فعليه بالتأنِّي والرفق والحلم وعدم العجلة؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: من يستشرف لها تستشرفه[17]، يعني: من يتطلَّع لها تستشرفه، تجد بعض الناس ما إن يحدثُ حدثٌ أو تقعُ واقعةٌ إلا ويتصدَّى للخوض فيها، ويتصدَّى لبيان الحكم فيها، ويتصدَّى للدخول في تفاصيلها، ونحو ذلك، هذا ربما يقع في الفتنة من حيث لا يشعر.

ولهذا؛ فعلى المسلم عندما تقع الفتنة المُلْتبسة بالتأنِّي والرفق وعدم العجلة.

في "صحيح مسلم" قال: المستورِد بن شداد قال: سمعت رسول الله يقول: لا تقوم الساعة إلا والروم أكثر الناس. وكان عنده عمرو بن العاص ، فقال عمرو: أبصِر ما تقول. قال: سمعته من رسول الله . قال: فإنكَ إن قلتَ ذلك فإن فيهم خصالًا أربعًا، وذكر منها: أنهم أحلم الناس عند الفتنة، يعني: إذا تغير الحال وظهرت الفتنة فإنهم يحلمون ولا يعجلون ولا يغضبون[18]. وهذا من أبرز أسباب تبصُّر الأمور والخروج من مآزق الفتن.

وكذلك أيضًا ينبغي عند حصول الفتنة التثبُّت، وهذا وإن كان يدخل فيما قبله إلا أننا أردنا إبرازه، أن يتثبَّت المسلم، وليس كل مقالٍ يبدو لك حسنًا تُظهره، وليس كل فعل يبدو لك حسنًا تفعله؛ لأن الفتنة قولك فيها ربما يترتب عليه أشياء؛ ولأن الفتنة عملك فيها ربما يترتب عليه أشياء.

وكذلك أيضًا عند وقوع الفتن، على المسلم أن يرجع للعلماء الراسخين في العلم، وأن يستنير بآرائهم وبأقوالهم.

أيها الإخوة؛ أقول هذا الكلام لأننا نعيش في زمن كثرت فيه الفتن، وكما جاء في الحديث: أنه تأتي فتن عظيمة، ما إن تأتي فتنة إلا وتكون الفتنة التي بعدها أشد منها[19].

ونحن في آخر الزمان، وقد ظهرت أشراطٌ كثيرة من الساعة؛ ولهذا قد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن من أشراط الساعة كثرة الفتن؛ ولهذا ينبغي أن يكون للمسلم منهج واضح في كيفية التعامل مع هذه الفتن؛ إذا وقعت فتنة من هذه الفتن فعلى المسلم أن يتثبَّت، وألا يقول إلا خيرًا، لا يقع في أعراض الناس، ولا يخوض في تفاصيل هذه الفتن، وإنما يكون متثبِّتًا بعيدًا عن العجلة.

وأُنبِّه هنا -أيها الإخوة- إلى أن أحاديث الفتن لا تُطبَّق على الواقع الذي تعيش فيه، بل لا بد أن تنتهي الفتنة ثم بعد ذلك يقول أهل العلم: إن هذه الفتنة هي المقصودة في هذا الحديث؛ لأن بعض الناس ما إن يقع حدثٌ إلا ويُطبِّق عليه حديثًا من الأحاديث الواردة في الفتن. وهذا مسلكٌ غير صحيح، فربما لا تكون تلك الواقعة هي المقصودة في تلك الأحاديث؛ ولهذا قال أهل العلم: إنه لا بد أن تنتهي الفتنة ثم بعد ذلك يقال: إن هذه الفتنة هي المقصودة في الحديث.

عند وقوع الفتن أرشد النبي بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم؛ ينبغي للمسلم أن يبتعد عن الآراء الشاذة، وأن يلزم جماعة المسلمين وأن يلزم إمامهم؛ لأن ذلك بإذن الله تعالى حصنٌ له من الوقوع في شَرَك هذه الفتنة. هذه الفتنة التي تقع وترتبط بأحداث.

أما الفتنة التي تحصل للإنسان نتيجةَ شُبَهٍ تُلقى عليه من أيَّة وسيلة؛ فإنه إذا حصل شيءٌ من هذا فعليه أن يسعى لكشف هذه الشُّبَه، وأن يتصل بأهل العلم لكي تُكشف عنه هذه الشُّبَه.

الابتعاد عن أهل البدع والأهواء

ومن الوسائل والسُّبُل التي تقي المسلم من الوقوع في هذه الفتنة: ألا يجالس المسلم أهل البدع وأهل الأهواء، لماذا أيها الإخوة؟

لأن الشُّبَه إذا وقعت في القلب فيصعب الخلاص منها، لا تُجالس أهل البدع ولا أهل الأهواء، ولا تستمع أيضًا في الوسائل الإعلامية والقنوات لمثل هذه البرامج التي تُلقي الشُّبَه في النفوس؛ ولهذا نهى السلف عن مجالسة أهل البدع؛ لأن البدعة ربما تقع في القلب وتستقر فيه ثم يصعب الخلاص منها، كم من إنسان كان مستقيمًا، وكان على جانبٍ من الخير والصلاح فوقع في قلبه شُبهةٌ فتسبَّبت في ضلاله؟

ولنا عبرةٌ فيمن وقع في فتنة التكفير والتفجير، كيف وقعوا في الشُّبَه وانطلت عليهم هذه الشُّبَه حتى حصل ما حصل من وقوعهم في هذه الفتنة العظيمة وتَرْك جماعة المسلمين وإمامهم؛ كل ذلك بسببِ تَلَقِّي مثل هذه الشُّبَه؛ فينبغي للمسلم أن يبتعد وأن ينأى بنفسه عن مثل هذه الشُّبَه.

أختم هذه المحاضرة بقول النبي : من سمع بالدجال فَلْيَنْأَ عنه[20]، فتنة الدجال هي أعظمُ فتنةٍ ما بين خَلْق آدم إلى قيام الساعة كما أخبر بذلك النبي ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: من سمع بالدجال فَلْيَنْأَ عنه يعني: فليبتعد عنه، وهذا أصلٌ في الابتعاد عن الفتن، لا يتعرَّض المسلم للفتن، لا يستشرف للفتن، يبتعد عنها، كما قال عليه الصلاة والسلام: لا تتمنَّوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية[21].

يحرص المسلم دائمًا على الابتعاد عن الفتنة، سواءٌ كانت فتنةَ شهوةٍ أو فتنةَ شُبهةٍ.

فتنة شهوة؛ مثلًا إذا كان عنده ميلٌ إلى النساء: لماذا يذهب إلى الأسواق؟ لماذا يذهب إلى الأماكن التي توجد فيها النساء الأجنبيات؟

فتنة الشُّبهة؛ إذا كان من النوع الذي يتأثَّر بالشُّبهة: يبتعد عن مجالسة أهل الأهواء وأهل البدع والذين يُثيرون الشكوك والشُّبَه، يبتعد عن البرامج التي تُلقي الشُّبَه.

فهذا -يا إخوان- أصلٌ أصيلٌ ينبغي أن يتمسك به المسلم: دائمًا يحرص على الابتعاد عن الفتن، ويسأل الله تعالى دائمًا أن يُعِيذه من مضلَّات الفتن.

اللهم إنا نعوذ بك من مضلَّات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. اللهم إنا نعوذ بك من مضلَّات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. اللهم إنا نعوذ بك من مضلَّات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. اللهم ثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم ثبتنا على الإسلام، اللهم ثبتنا على الإسلام، واحفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. حتى تُقام الصلاة نُجيب عما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة

السؤال: هذا يسأل يقول: علاج فتنة النساء؟

الجواب: فتنة النساء هي مرضٌ في القلب، وذكره الله تعالى في سورة "الأحزاب" في قوله: فلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]. وأمراض النفوس متنوعة وآثارها الفتن، فمِن الناس من يكون مريض القلب فيما يتعلق بالنساء، تجد أنه دائمًا يعاكس النساء، ودائمًا يفكر في هذا الأمر، ومبتلًى بهذا الأمر.

هذا نوعٌ من أمراض القلوب: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، ومن آثار هذا المرض: الوقوع في هذا النوع من الفتنة، نحن ذكرنا أن العلاج لهذا هو الصبر؛ يبتعد عن الأماكن التي تكون فيها هذه الفتنة، مثلًا الأسواق يبتعد عنها، يحرص على أن يغض بصره، يصبر ويصبر نفسه على هذا.

فأعظم أسباب علاج هذا النوع من الفتن هو الصبر، وما ذكرنا أيضًا من وسائل العلاج الأخرى.

السؤال: قال: هل من كلمة حول فتنة المنصب؟ وما كثرة الواسطات إلا دليل على ذلك؟

الجواب: صحيح، نحن ذكرنا أنواعًا فقط من الفتن ولم نحصرها، فمن أنواع الفتن: فتنة الرئاسة أو المنصب أو السلطة أو الولاية، هذا ذكره أهل العلم، والإنسان قد يدفع المال لأجل تحصيل هذا، وهذا لا شك أن له أثرٌ كبيرٌ على استقامة المسلم، وهو أيضًا نوع من الفتنة، الإنسان قد يُفتن بهذا الشيء؛ فربما يبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا لأجل تحصيل المنصب ونحو ذلك، فلا شك أن هذا داخلٌ أيضًا في أنواع الفتنة.

السؤال: شخصٌ يعمل في مستشفى أغلب موظفيه من النساء الأجنبيات والمتبرجات، هل عمله جائز؟

الجواب: هذا في الحقيقة أوقع نفسه في الفتنة، رجلٌ بين نساء أجنبيات متبرجات لا بد أن يقع في الفتنة إلا من عصم الله، ووجود المرأة مع الرجال الأجانب لا شك أنه من أعظم أسباب الفتنة، النبي يقول في الحديث الذي ذكرناه في المحاضرة: إن المرأة تُقبل في صورة شيطان، وتُدبر في صورة شيطان[22] يعني: أن المرأة الأجنبية عندما يراها الرجل يكون فيها نوعٌ من الإغواء لهذا الرجل؛ لهذا لما ذُكِر للنبي قول لَبِيدٍ: وهُنَّ شَرُّ غالبٍ لمن غلب. جعل النبي يُكرِّر هذا[23].

فتنةُ النساءِ فتنةٌ عظيمةٌ، كون الإنسان يكون في هذا المكان الذي تُحيط به نساء أجنبيات ومتبرجات أيضًا لا شك أن هذا قد أوقع نفسه في الفتنة، لكن إن أمكنه أن يُصلح في المكان الذي هو فيه فهذا لا شك أنه خير؛ وذلك بالمناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ما قد يُلاقيه بسبب ذلك من الأذى، إن لم يُمكنه هذا فإنه يبتعد عن هذا المكان حتى لا يُعرِّض نفسه للفتنة.

السؤال: من الفتن فتنة التبرج والسفور، وبعض الفتيات تلبس لباسًا يفتن وهي لا تشعر؟ نرجو توجيه النصيحة.

الجواب: هذا صحيح، تبرج النساء أو تبرج بعض النساء لا شك أنه نوعٌ من الفتنة، تجد أن بعض النساء ربما أنها تلبس لباسًا لا تلبسه في بيتها ولا أمام زوجها، وتخرج للأسواق، وتخرج أمام الرجال الأجانب، وتحصل الفتنة منها وبها، لا شك أن هذه تُعرِّض نفسها للفتنة، وتُعرِّض غيرها من الرجال أيضًا للفتنة، وربما أن هذه المرأة في بداية أمرها لا تريد إلا فقط مجرد معاكسة ونحو ذلك، لكن الأمور تتطور إلى أنها ربما تقع في أمور أعظم وأفظع.

السؤال: ما توجيهك للذين يذهبون أيام الإجازات ويتزوجون خلالها، ثم إذا رجعوا إلى البلاد طلقوهن، وهم يعملون ذلك باستمرار؟

الجواب: الزواج بنية الطلاق اختلف العلماء في حكمه، ذهب كثير من العلماء إلى منعه؛ وذلك لأن فيه غشًّا لهذه المرأة؛ لأن المرأة لا يخلو إما أن تعلم بأن هذا الزوج سيُطلِّقها أو لا، فإن كانت تعلم فهذا نكاحُ متعةٍ وهو محرم، وإن كانت لا تعلم فهو غِشٌّ لها.

وقد صدر في هذا قرارٌ من مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بتحريمه.

لهذا نقول: إن هذا الزواج بنية الطلاق لا يجوز في أظهر قولي العلماء.

السؤال: الرياء والسمعة وسواسٌ يأتي المسلمَ وقت الصلاة أو في أيِّ عمل، فهل هو من الفتنة؟ وكيف العلاج؟

الجواب: العمل لأجل الناس رياءٌ، ولكن أيضًا ترك العمل لأجل الناس رياء، المسلم لا يُراعي الناس في عباداته، وإنما يُخلِص العبادة لله ، لا يعمل لأجل الناس، ولا يترك العمل لأجل الناس، وإنما يُخلِص لله سبحانه، لا يأبه بمدح الناس ولا بذمِّهم، وإنما يُخلص عباداته لوجه الله .

السؤال: قال: أنا أذهب إلى السوق، ولكن لا أستطيع غض البصر عن النساء، فماذا أفعل؟

الجواب: أقول: إذا كنت لا تستطيع أن تغض البصر عن النساء فلا تذهب للسوق؛ وذلك لأنك تُوقع نفسك في الفتنة، وكما ذكرنا في آخر المحاضرة ينبغي أن يكون للمسلم منهجٌ وهو الحرص على الابتعاد عن مواطن الفتن، ومثل الأسواق لا شك أنها من مواطن الفتن.

فإذا كان هذا الشخص عنده هذه الإشكالية، وهو أنه لا يستطيع أن يغض البصر عن النساء، فنقول: يحرص على الابتعاد عن الأماكن التي تتواجد فيها النساء الأجنبيات كالأسواق ونحوها.

هذه بعض الأسئلة وردت إجاباتها أثناء المحاضرة.

السؤال: قال: أنا شاب مستقيم، ولكن يأتي عليَّ الشيطان من جانب العادة السرية، وأريد العمل بتركها، علمًا بأنني... أثقل عليَّ من الجبل... إلخ.

الجواب: هذا العمل -الاستمناء- إذا كان لخوف الوقوع بالفاحشة فقد أجازه أهل العلم، كما ذكر ذلك صاحب "المغني" وجماعة: إن خشي الإنسان على دينه جاز له الاستمناء، وعلَّلوا ذلك قالوا: لأنه لو خشي الضرر على بدنه لجاز له الاستمناء بالإجماع، فكذا إذا خشي الضرر على دينه من باب أولى. وقال صاحب الإنصاف: "قلت: يتوجه لو قيل بوجوبه". وذكر أن ابن نصرالله قد سبقه إلى هذا.

فإذا كان شابًّا ولا يستطيع الزواج ويشقُّ عليه الصيام ويخشى الوقوع في الفتنة، فأجاز له كثير من أهل العلم الاستمناء في هذه الحال، وهكذا أيضًا بالنسبة للمرأة.

السؤال: قال: ما حكم التورُّق بأن تكون السلعة أسهمًا من إحدى البنوك غير الربوية؟

الجواب: هذا جائز لكن بشروط:

  • الشرط الأول: أن يكون الاتفاق المبدئي مع البنك على سبيل الوعد غير الملزم، فيذهب للبنك ويقول: اشتروا لي أسهمًا، فإذا اشتريتموها سوف أشتريها منكم، على سبيل الوعد غير الملزم، وليس على سبيل العقد.
  • الأمر الثاني: أن يفتح له محفظةً، بحيث إن البنك إذا اشترى الأسهم وباعها عليه تدخل في محفظته؛ لأجل تحقيق شرط القبض.
  • الأمر الثالث أو الشرط الثالث: أن تكون أسهمًا لشركات مباحة، فلا تكون أسهمًا لشركات محرمة ولا حتى مختلطة.

فإذا تحققت هذه الشروط الثلاثة جاز التورُّق.

وتحقيق الشرط الأول والثاني سهلٌ بالنسبة للأسهم على وجه الخصوص؛ لأنه يُشترط لمن يتعامل بالأسهم أن يفتح محفظة، فدخول الأسهم للمحفظة في الحقيقة قبض لها، فالقبض في الأسهم واضح وضوحًا تامًّا، لكن يبقى الشرط الثالث وهو أن تكون أسهمًا لشركات مباحة، فعليه التحقُّق من ذلك، وأن يختار أسهمًا لشركات مباحة لا تتعامل بالربا. إذا تحققت هذه الشروط الثلاثة جاز ذلك.

السؤال: ما هو الحل للشخص الذي لا يُصلِّي؟ وكيف تتعامل معه زوجته؟ وهل تستمر معه أو تطلب الطلاق؟ مع العلم بأن بينهما أطفالًا، ونصحته للصلاة لسنوات عديدة ولم يستجب.

الجواب: أما إذا كان لا يُصلِّي بالكلية فإن هذا كافرٌ كفرًا أكبر مخرجًا عن الملة؛ لأنه قد قطع صِلَته بالله ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: بين الرجل وبين الشرك والكفر تَرْك الصَّلاة[24]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الكفر إذا ورد في الوحيين مُعَرَّفًا بـ(أل) فهو الكفر الأكبر".

وأما إذا كان يُصلِّي أحيانًا ويترك الصلاة أحيانًا فهذا ليس بكافرٍ في أظهر قولي العلماء، لكنه من الساهين الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5].

فإذا كان زوجك من القسم الأول لا يركع لله ركعةً لا جمعةً ولا جماعةً فهذا لا يحِلُّ لكِ أن تبقَيْ معه، ويجب عليك أن تطلبي مفارقته.

أما إذا كان يُصلِّي أحيانًا فعليك أن تجتهدي في مناصحته، وأن تصبري على ذلك، خاصةً أن بينكما أولادًا، وكثيرًا ما يكون الأولاد ضحيةً للطلاق، لكن عليك أن تصبري على هذا الزوج، وأن تجتهدي غاية الاجتهاد في مناصحته، والله تعالى يقول: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132].

السؤال: في هذه الأيام ظهرت ظاهرة تخفيف اللحية والأخذ منها خاصة بين طلاب العلم؟

الجواب: هذا الحقيقة نوعٌ من الفتنة، أشرت لهذا في أول المحاضرة، أنك ترى الإنسان صالحًا مستقيمًا، وإذا به تظهر عليه مظاهر التخفُّف من بعض مظاهر الاستقامة كإعفاء اللحية، لا شك أن هذا مظهرٌ من مظاهر الفتنة.

وعلى المسلم أن يتمسَّك بأمور دينه، وأن يحرص على استقامته، ولا شك أن كُلَّ إناءٍ بما فيه ينضح، واللحية عدَّها النبي من سنن الفطرة، وهي من سنن المرسلين: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي [طه:94]، كان عليه الصلاة والسلام له لحية كثَّة، وكانت تُعرف قراءته باضطراب لحيته، والعرب كانوا يُعظِّمون شأن اللحية، وإذا تعدَّى إنسانٌ على آخر فأتلف لحيته فَدِيتُها دِيَة نفس كاملة، وهذا يُبيِّن أهمية شأنها.

السؤال: هل السنن الرواتب تُقضى أم القضاء خاصٌّ بسنة الفجر؟

الجواب: هذا محل خلاف بين أهل العلم، والأظهر أن القضاء لجميع السنن؛ لعموم قول النبي : من نام عن صلاة أو نسيها فلْيُصَلِّها إذا ذكرها[25]، وهذا يشمل الفريضة والنافلة.

السؤال: قال: تأخُّر زواج الشاب والشابة أليس هو فتنة؟

الجواب: نعم، لا شك أن تأخُّر الزواج من قِبَل الشاب والشابة أنه يُعرِّض هذا الشاب والشابة للفتنة، ونحن في زمنٍ كثرت فيه الفتن، وكثرت فيه المغريات، وكثرت فيه المثيرات للغرائز.

ولهذا؛ على أولياء الأمور أن يحرصوا على الزواج المبكر لأبنائهم ولبناتهم، بل على المجتمع كله أن يُشجِّع على ذلك؛ لأن في هذا عصمة بإذن الله تعالى من الوقوع في الفتن.

السؤال: يقول: تميل نفسي إلى حب الخير، فأجتهد في العبادة، وأنا أقع في بعض المعاصي، كثير الدعاء، وأجد مِن حولي مَن يقول: إما أن تلتزم أشد الالتزام، وإما أن تميل. وأنا أجاهد نفسي على طاعة الله تعالى؟

الجواب: كُلُّ بني آدم خطاء، كُلُّ إنسانٍ يقع في المعصية ويقع في الذنب، ولكن الشأن هو أن الإنسان إذا وقع في الذنب والمعصية تاب إلى الله توبةً نصوحًا واعترف بذنبه وأناب إلى الله سبحانه: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، قال عليه الصلاة والسلام: إن من أذنب ذنبًا فتوضأ وصلَّى ركعتين ثم استغفر الله؛ إلا غفر الله له. أخرجه أحمد في "مسنده" بإسناد صحيح[26].

فمَن وقع في معصيةٍ وذنبٍ، ثم قام وتوضأ وصلَّى لله ركعتين ثم استغفر الله تعالى؛ فإن الله يغفر له هذا الذنب.

ولهذا؛ نقول للأخ: استمر على الصلاح والاستقامة، وإن وقع منك بعض التقصير فكُلُّ بني آدم خطَّاء، وكلنا ذلك المقصر.

السؤال: كيف نتعامل مع ذاك الشاب الذي كان ملتزمًا ثم بعد ذلك انتكس، هل نقطع علاقتنا معه؟

الجواب: لا، ينبغي التواصل معه، خاصةً أن هذا الإنسان عرف طريق الخير، وعرف طريق الاستقامة؛ فينبغي التواصل معه ومناصحته وتذكيره بالله . وأما هجرانه وقطيعته فلا شك أن هذا مما يُعين الشيطان عليه.

ولهذا؛ لمَّا أُتِيَ برجل قد شرب الخمر مرارًا فسَبَّه أحد الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تسبُّوه؛ فإنه يحب الله ورسوله، لا تكونوا عونًا للشيطان على أخيكم[27].

فينبغي ألا نكون عونًا للشيطان على هذا الإنسان الذي قد كان صالحًا ثم انتكس، بل نتواصل معه ونُبيِّن له سعة رحمة الله وسعة فضله وعفوه، ونُذَكِّره بالتوبة إلى الله سبحانه، والرجوع إلى ما كان عليه قبل ذلك من طريق الخير والاستقامة.

السؤال: لعلنا نختم بهذا السؤال، يقول: نفسي تُحدِّثني أن أفعل الفاحشة، ثم أرجع وأستغفر، فما الحكم في ذلك؟ وما الدواء؟ حيث إني أفكر في الزواج كثيرًا، فهل هذا هو السبب أم من الشيطان؟

الجواب: مثل هذا عليه أن يسعى في تحصين نفسه وذلك بالزواج، عليه أن يسعى جاهدًا لذلك ما استطاع إلى هذا سبيلًا، فإن لم يتيسر له هذا فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء، كما قال عليه الصلاة والسلام: يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء[28].

فإن لم يتيسر له هذا ولا ذاك، فكما ذكرنا يكسر هذه الشهوة ولو بالاستمناء؛ فإن هذا خيرٌ من الوقوع في الفواحش، لكن تفكيره في الوقوع في الفواحش لا شك أن هذا ربما مع مرور الوقت قد يقوده إلى الوقوع فيها؛ ولهذا إذا أتت مثل هذه الأفكار ومثل هذه الهواجس فعليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وأن يُعرِض عنها؛ لأنه يُخشى عليه مع مرور الوقت أنه ربما تقوده إلى الوقوع فيها، وإن كانت أحاديث النفس معفوًّا عنها، كما قال عليه الصلاة والسلام: إن الله عفا لأمتي ما حدَّثت بها أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم. أخرجه مسلم في "صحيحه"[29].

فحديث النفس معفوٌّ عنه، لكن حديث النفس في مثل هذه الأمور أقول: إنه ربما يقود الإنسان إلى الوقوع في تلك الفواحش؛ ولهذا ما إن تعرض له مثل هذه الأفكار عليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وأن يُعرِض عنها.

وأسأل الله أن يرزقنا جميعًا الفقه في الدين والعلم النافع، وأن يُثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يُيسِّرنا لليسرى، وأن يُجنِّبنا العسرى، وأن يُعِيننا على شكره وذكره وطاعته وحسن عبادته.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

^1, ^7 رواه مسلم: 2867.
^2 رواه الترمذي: 2417.
^3 رواه البخاري: 5096، ومسلم: 2740.
^4 رواه مسلم: 2724.
^5 رواه مسلم: 1403.
^6 رواه البخاري: 1469، ومسلم: 1053.
^8 رواه أحمد: 26679، والترمذي: 3522.
^9 رواه مسلم: 2654.
^10 رواه البخاري: 3601، ومسلم: 2886.
^11 رواه البخاري: 6037، ومسلم: 157.
^12 رواه مسلم: 2908.
^13 رواه مسلم: 118.
^14 رواه البخاري: 7084، ومسلم: 1847.
^15 رواه أحمد: 2763، والترمذي: 2516.
^16, ^17, ^22 سبق تخريجه.
^18 رواه مسلم: 2898.
^19 رواه مسلم: 1844.
^20 رواه أحمد: 19968، وأبو داود: 4319.
^21 رواه مسلم: 1742.
^23 رواه أحمد: 6885.
^24 رواه مسلم: 82.
^25 رواه البخاري: 597، ومسلم: 684.
^26 رواه أحمد: 27546.
^27 رواه البخاري: 6781.
^28 رواه البخاري: 5065، ومسلم: 1400.
^29 رواه البخاري: 6664، ومسلم: 127.
مواد ذات صلة
zh