جدول المحتويات
المقدم: الحمد لله الذي هدانا ووفقنا، أوضح لنا الطريقين، وبيَّن النَّجدين، وأكمل لنا الدين، له الحمد في الأولى والآخرة.
وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين، جعل سيرته هي الطريقة المُثلى، والمنهج الأسمى؛ للوصول لجنة الخلد والمأوى. أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نرحب بكم -إخوتي الكرام- في هذه الليلة المباركة، ليلة الثلاثاء الموافق للعشرين من شهر جمادى الأولى، من العام السادس والعشرين بعد الأربعمائة والألف من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومن جامع الراجحي في مدينة الرياض.
يسرنا -ويسر إخوانكم- في مركز الدعوة والإرشاد بفرع الوزارة في الرياض، أن نعيش سويًّا في موضوع هامٍّ يحتاجه كل مسلم في هذا العصر الذي تشابك وتقارب وتكاثرت فيه وسائل اللهو والمتع، ومنها موضوع محاضرتنا هذه الليلة، والتي هي بعنوان: "المسابقات؛ أنواعها وأحكامها"، فهل للمسابقات أصلٌ في الكتاب والسنة؟ أم هي حادثةٌ في العصر دون ما سواه؟ وهل للمسابقات شروطٌ وأحكامٌ، أم هي مفتوحةٌ ومتروكةٌ بلا رابط ولا قيد؟
المسابقات أنواعٌ، يدخل فيها الإنسان وغير الإنسان، تكون في الجو والبحر والبر، يقف الإنسان في هذا الزمان أمام كمٍّ هائل من المسابقات، لا يدري ما الحلال منها وما الحرام، يحتار كيف يختار، وهل العِوَض في المسابقات جائزٌ في شريعتنا أم لا؟
هذه النقاط وغيرها يكشف الستار عنها ويُجَلِّيها لنا، فضيلة الشيخ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود -حفظه الله-.
باسمكم جميعًا إخوتي الكرام نرحب بفضيلة الشيخ، وندعوه أن يُبحر بنا في هذا الموضوع الشيِّق، وأن يُجلي لنا الطريق الذي به مرضاة ربنا ويُبعدنا عن سخطه، سائلين المولى جل وعلا أن يكتب له الأجر والثواب، وأن يُسدِّد خطاه، فليتفضل شيخنا مشكورًا مأجورًا.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
حب المال
فإن الله تعالى بحكمته البالغة قد جعل المال محبوبًا للنفوس؛ فقال سبحانه: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، انظر كيف أن الله تعالى بيَّن أن الناس يُحبُّون المال، ثم وصف هذا الحب بأنه حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وقال سبحانه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 6-8]، والمراد به المال؛ فمحبة النفوس للمال أمرٌ قد جُبِلَت عليه.
وقد جعل الله في الحلال غُنْيَةً عن الحرام، وجعل هذا المال فتنةً للناس كما قال الله : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28]؛ فهذا المال فتنة للناس في اكتسابه وتحصيله، وفتنة للناس في بذله وإنفاقه؛ ولهذا فإن الإنسان يُسأل يوم القيامة عن ماله سؤالان: السؤال الأول: من أين اكتسبه؟ والسؤال الثاني: فيمَ أنفقه؟ كما قال عليه الصلاة والسلام: لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله ويُسأل عنه سؤالان: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟[1].
أحكام المسابقات والمغالبات
وحديثنا في هذه المحاضرة عن موضوعٍ هو في غاية الأهمية، وتبرُز أهمية هذا الموضوع من جهة اتصاله بالواقع؛ فقد انتشرت المسابقات والمُغالبات والألعاب في الوقت الحاضر انتشارًا كبيرًا، حتى إنها أصبحت وسيلةً من وسائل الربح والاستثمار عند بعض المؤسسات والشركات، وتبرز أهمية هذا الموضوع أيضًا من جهة عدم فهم بعض الناس-إن لم نقل: عدد ليس بالقليل من الناس- لكثير من الأحكام الشرعية لهذه المسابقات؛ ولهذا تجد أنهم يُقدمون على هذه المسابقات عن جهل من غير تبيُّن للحكم الشرعي.
وقد يكون من أسباب قلة الفهم في هذا الموضوع: هو أن ما كُتب في هذا الموضوع قليل، وأيضًا الحديث عنه في المحاضرات والندوات قليلٌ أيضًا، بل إن ما كُتب عن أحكام المسابقات التجارية الموجودة الآن في الواقع ربما لا يتجاوز عدد أصابع اليدين -إن لم نقل: عدد أصابع اليد الواحدة-، وإن كانت أحكام السَّبَق موجودة في كتب الفقه والحديث، فقد فصَّلها علماؤنا وذكروا الضوابط والقواعد فيها انطلاقًا من النصوص الشرعية، ولكن تنزيل هذه الأحكام على المسابقات التجارية المنتشرة الآن هو الذي قصدت بقولي: "إن ما كُتب عنه قليلٌ رغم انتشاره".
وسوف يكون الحديث في هذه المحاضرة إن شاء الله تعالى عن أحكام هذه المسابقات والمغالبات، وسيكون التركيز على الضوابط والقواعد؛ لأن معرفة الضوابط والقواعد في هذا الباب تُسهِّل معرفة حكم أيَّةِ مسابقةٍ أو مغالبةٍ أو لعبةٍ أو غير ذلك.
وسأتحدث في هذه المحاضرة عن أحكام المسابقات التجارية في الشركات والمؤسسات والمحلات التجارية، وكذلك أيضًا عن المسابقات في الصحف وفي الإذاعة والقنوات الفضائية، ما الذي يجوز منها وما الذي لا يجوز. كذلك أيضًا المسابقات عن طريق رسائل الهاتف المنقول، والمسابقات عن طريق الهاتف المسعَّر "سبعمائة"، وكذلك أيضًا الألعاب التي يُمنح الفائز فيها جائزة، والرهان الذي يكون مشوبًا بشيءٍ من التحدي عند طرح سؤال، أو عند تصديق خبر ونحو ذلك، ما حكم هذا الرهان؟ وأيضًا الهدايا التي تُمنح عن طريق المحلات التجارية، أو عن طريق محطات البنزين مثلًا، وبطاقات الفنادق والطيران والمؤسسات التي تمنح نقاطًا: ما الذي يُباح من ذلك وما الذي لا يُباح؟ والتسويق الهرمي وحكم الدخول فيه: ما الذي يُباح من ذلك كله، وما الذي لا يُباح؟ وما الضابط في الجواز؟ وما الضابط في المنع؟
هذه المسائل سوف نتحدث عنها إن شاء الله تعالى في هذه المحاضرة، ولكن قبل الحديث عنها أرى أن من المهم أن نتطرق أولًا للجانب التأصيلي التقعيدي لهذا الباب، فنذكر كلام العلماء والفقهاء في أحكام السَّبَق والمسابقات والضوابط والقواعد، وكلامهم أيضًا في المَيْسِر، وما الذي يضبط المَيْسِر؟ ما الضابط في المَيْسِر؟ ومتى تكون المعاملة أو المغالبة أو اللعبة مَيْسِرًا، ومتى لا تكون؟ هذا سوف أبدأ الحديث عنه.
ثم إذا فرغنا من الكلام عن الجانب التأصيلي التقعيدي لهذا الموضوع، انطلقنا لتنزيل هذا التأصيل والتقعيد على المسابقات التجارية بأنواعها، فيكون الشِّقُّ الأول من هذه المحاضرة في التأصيل والتقعيد لهذا الموضوع، والشِّقُّ الثاني هو تطبيقات معاصرة لهذا الموضوع في المسابقات التي ذكرتُ أمثلةً لها.
الأصل في باب المسابقات والمغالبات
الأصل في هذا الباب -باب المسابقات والمغالبات- هو قول النبي : لا سَبَقَ إلا في خُفٍّ أو نصلٍ أو حافر[2]، وهذا الحديث هو الأصل في هذا الباب، وهو من جوامع كَلِم النبي ، ومن هذا الحديث ينطلق الفقهاء في الكلام عن أحكام السَّبَق.
لا سَبَقَ إلا في خُفٍّ، أو نصلٍ، أو حافر هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد من حديث أبي هريرة ، وهو حديث صحيح من جهة الإسناد، وقد رُوي هذا الحديث بلفظ: لا سَبَق، وروي بلفظ لا سَبْق.
قال الخطابي رحمه الله في "معالم السنن": "الرواية الصحيحة في هذا الحديث لا سَبَق بفتح الباء".
والمراد بـ"السَّبَق" هنا: العوض.
و"لا" نافيةٌ للجنس.
و"سَبَقَ" نكرةٌ في سياق النفي، وهذا النفي أبلغ في النهي، إذا أتى الحكم بلفظ النفي فهو أبلغ في النهي من أن يأتي بلفظ النهي مباشرة.
إلا في خُفٍّ، أو نصلٍ، أو حافر المراد بالخُفِّ: الإبل، والنصل: السهام أو السهم هنا، والحافر: الخيل. فكأن معنى الحديث: لا سَبَقَ يعني: لا يجوز بذلُ العوض من المتسابقين إلا في الإبل والخيل والسهام، هذا هو معنى الحديث.
وما الذي يجمع هذه الأمور الثلاثة: الإبل والخيل والسهام؟
الذي يجمعها أنها آلاتٌ للجهاد في سبيل الله، فيكون معنى الحديث: أنه لا يجوز بذلُ العوض إلا في آلات الجهاد في سبيل الله ، وقد كان في عهد النبي هي هذه الأمور الثلاثة: الإبل والخيل والسهام؛ ولهذا في وقتنا الحاضر تُقاس عليها آلات الجهاد في سبيل الله الحديثة.
هذا الحديث -كما ذكرت- هو الأصل في هذا الباب، وهو الذي سنستدل به كثيرًا عندما نتكلم عن أحكام المسابقات والمغالبات.
أقسام المسابقات والمغالبات:
قسَّم العلماء المسابقات والمغالبات إلى ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: ما يجوز بعوض وبدون عوض: وهي المسابقة في الإبل والخيل والسهام، المنصوص عليها في هذا الحديث، هذه تجوز بعوض وبدون عوض مطلقًا؛ قال ابن القيم رحمه الله: "اتفق العلماء على جواز الرهان في المسابقة على الخيل والإبل والسهام في الجملة". هذا القسم إذًا هو محل اتفاق بين العلماء لوُرُود النص عليه.
- القسم الثاني من المسابقات والمغالبات: ما لا تجوز المسابقة فيه مطلقًا بعوض أو بدون عوض: وهو كل ما ألهى عن واجب أو أدخل في محرم؛ إذا كانت المسابقة تُلهي عن الصلاة مثلًا فإنها تكون محرمة، إذا كانت تُدخل في أمر محرم فإنها تكون محرمة؛ فكل ما ألهى عن واجب أو أدخل في محرم فإنه يكون محرمًا.
- القسم الثالث: ما تجوز المسابقة فيه بدون عوض ولا تجوز بعوض: وهو كل ما كان فيه منفعة مباحة، وليس فيه مضرة راجحة؛ كالمسابقة على الأقدام ونحوها.
هذه هي أقسام المسابقات عند الفقهاء، وأضاف بعض أهل العلم -منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله- للقسم الأول وهو ما يجوز بعوض وبدون عوض ما كان فيه إظهارٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه؛ واستدلوا لذلك بقصة مراهنة أبي بكر الصديق لقريش؛ فإنه لما نزل قول الله : الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:1-7].
لما نزلت هذه الآيات وكان المسلمون يحبون انتصار الروم على فارس؛ لأن الروم أهل كتاب، بينما فارس ليسوا أهل كتاب وليسوا أصحاب ديانة سماوية؛ فيتفقون مع كفار قريش؛ لأنهم ليسوا أهل كتاب ولا إيمان ببعث، فكان المسلمون يحبون انتصار الروم على فارس، وكان المشركون يحبون انتصار فارس على الروم، فلما غُلِبت الروم ونزلت هذه الآيات قام أبو بكر يتلو هذه الآيات: الم غُلِبَتِ الرُّومُ، فلما سمعه كفار قريش جعلوا يتكلمون فيما بينهم ويسخرون منه، ويقولون: كيف تزعم أن الروم ستغلب فارسًا؟
وقد كانت فارسٌ في ذلك الحين أقوى من الروم، وكانت لها الغلبة والمنعة، كما قال الله : غُلِبَتِ الرُّومُ، ولكن أبا بكر عنده يقينٌ بما أخبر الله به، فقالوا: ألا نراهنك على كلامك الذي تقول؟ قال: بلى. فتراهن أبو بكر الصديق مع المشركين، وقالوا لأبي بكر: نجعل البِضْعَ -بِضْعِ سِنِينَ، والبِضْعُ: هو ما بين ثلاث إلى تسع سنين- وسطًا بيننا وبينك. فسموا بينهم ست سنين، وفي رواية: خمس سنين، وفي الرواية المشهورة: ست سنين، كما عند الترمذي، راهن أبو بكر قريشًا على أن الروم ستغلب فارسًا بعد ست سنين، فبلغ ذلك النبي فقال: هلَّا أخفضت، وفي رواية: هلَّا احتطت يعني: لو أنك طلبت منهم أو استنزلتهم فاحتطت وجعلت البِضْعَ تسع سنين وأخذت بالأحوط.
مرت ست سنين ولم تغلب الروم فارسًا، فأخذوا من أبي بكر الرهان، ولكن أبا بكر كان عنده يقينٌ بوعد الله وبما أخبر الله تعالى به من أن الروم ستغلب فارسًا، فأعطاهم أبو بكر الرهان، وطلب منهم أن يُراهنوه مرةً أخرى على أن الروم ستغلب فارسًا خلال ثلاث سنين؛ لأن البِضع أكثر ما يمكن يكون تسع سنين، فراهنهم مرةً أخرى وفي السنة السابعة غلبت الروم فارسًا فأخذ أبو بكر منهم رهانه[3]. وهذه القصة أخرجها الترمذي في "سننه"، وقال ابن القيم: "إنها على شرط الصحيح".
وقد دلَّت هذه القصة على أن الرهان إذا كان فيه إظهارٌ لأعلام الدين وأدلته وبراهينه فإنه يكون جائزًا، بل قال ابن القيم رحمه الله: "إن الرهان في هذه الحال أولى بالجواز من الرهان على النِّبال وعلى الإبل والخيل"، قال: "وأثر هذا في الدين أقوى؛ لأن الدين قام بالحجة والبرهان، وبالسيف والسنان، والمقصد الأول هو إقامته بالحجة، والسيف إنما هو منفِّذ"، قال: "وإذا كان الشارع قد أباح الرهان في الرمي، والمسابقة بالخيل والإبل، بما في ذلك من الحثِّ على تعلم الفروسية وإعداد القوة، فجواز ذلك في المسابقة والمبادرة إلى العلم والحجة التي بها تُفتح القلوب ويُعَزُّ الإسلام وتظهر أعلامه أولى وأحرى".
فتكون إذًا هذه حالة رابعة تضاف للقسم الأول، فيكون القسم الأول الذي تجوز فيه المسابقة بعوض وبدون عوض هو: المسابقة بالخيل والإبل والسهام، وما كان فيه إظهارٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه.
حكم اشتراط المحلل في مسابقة الإبل والخيل
وهنا يشترط بعض الفقهاء عند قيام المسابقة بالخيل والإبل والسهام: إدخال محلِّلٍ في مسابقة الخيل والإبل خاصة، وهذا المحلِّل يقولون: إنه لا يُخرج شيئًا، فإن سَبَقَ أخذ سبقيهما، وإن سبقاه أحرز سبقهما ولم يغرم المحلِّل شيئًا، وإن سبق المحلِّل مع أحدهما اشترك معه، وهذا تجدونه في كتب الفقه.
وعندما نتأمل في الدليل الذي بُني عليه هذا الحكم؛ نجد أن هذا الحديث المروي في ذلك ضعيف لا يصح، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما علمت بين الصحابة خلافًا في عدم اشتراط المحلِّل"، وقال ابن القيم: " القول بالمحلِّل مذهبٌ تلقاه الناس عن سعيد بن المسيب، وأما الصحابة فلا يُحفَظ عن أحد منهم أنه اشترط المحلِّل ولا راهن به مع كثرة تناظرهم ورهانهم، بل المحفوظ عنهم خلافه". وقد بسط ابن القيم رحمه الله هذه المسألة في كتابه "الفروسية" ونصر القول بعدم اشتراط المحلِّل.
هذه المسألة ذكرتها؛ لأن من يقرأ في أحكام السَّبَق يجد أن الفقهاء يتكلمون عن هذه المسألة، وربما يُفصِّلون الكلام فيها، فحاصل الكلام فيها: هو أن من الفقهاء من اشترط إدخال هذا المحلِّل في مسابقة الإبل والخيل، وأن القول الصحيح الذي عليه المحققون من أهل العلم هو عدم اشتراط المحلِّل، وأن هذا القول ما كان معروفًا عند الصحابة ، وأن أول من قال به هو سعيد بن المسيب وتلقَّاه بعد ذلك بعض الفقهاء.
الفرق بين الميسر والقمار
وأما بالنسبة للميسر؛ القاعدة في الميسر هي: التردُّد بين الغُنْم والغُرْم، ومعناه في لغة العرب: اللعب بالقداح، وقال الجوهري في الصحاح: "الميسر قمار العرب بالأزلام".
وعرف الميسر اصطلاحًا بأنه "جميع المغالبات التي فيها عوضٌ من الجانبين كالمراهنة ونحوها".
هل هناك فرق بين الميسر والقمار؟
بعض العلماء لا يُفرِّق بينهما، فيُطلق الميسر على القمار، والقمار على الميسر.
ومن العلماء من فرَّق بينهما، فجعل القمار خاصًّا بما فيه عوض، والميسر عامًّا لما فيه عوض وما ليس فيه عوض، وقد رُوي عن الإمام مالك أنه قال: "الميسر ميسران: ميسر لهو، وميسر قمار".
وبناءً على هذا نقول: "كل قمار ميسر، وليس كل ميسر قمارًا". كل قمار يُعتبر ميسرًا وليس كل ميسر قمارًا، وهذا يقودنا إلى معرفة عِلَّة الميسر؛ لماذا نهى الله عن الميسر في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]؟ ما العِلَّة في النهي عن الميسر؟ هل العِلَّة هي لأجل ما فيه من المخاطرة المتضمِّنة لأكل المال بالباطل؟ أو أن العلة هي اشتماله على المفسدة المذكورة في الآية الكريمة؟
الصحيح عند المحققين من أهل العلم: أن علة الميسر هي ما اشتمل عليه من المفسدة المذكورة في الآيات: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إذًا هذه مفسدة، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مفسدة، وَعَنِ الصَّلَاةِ مفسدة [المائدة:90-91].
فإن العلة هي ما اشتمل عليه من المفاسد، وليست العلة فقط هي أكل المال بالباطل، وبناءً على ذلك: لو وُجِدت ألعاب -مثلًا- مشتملة على هذه المفاسد، وليس فيها أكلٌ للمال بالباطل؛ فإنها تكون محرمة. قال ابن القيم رحمه الله: "هذا المأخذُ الأخير" يعني: أن العلة هي المفسدة المذكورة في الآية "أصحُّ نصًّا وقياسًا، وأصول الشريعة تشهد له بالاعتبار"، قال: " فقَرَن الله تعالى الميسر بالأنصاب والأزلام والخمر، وأخبر بأن الأربعة رجسٌ، وأنها من عمل الشيطان، ثم أمر باجتنابها".
وهنا لنا وقفةٌ مع اقتران الميسر بالخمر، تجد أن الميسر يقترن بالخمر كثيرًا كما في هذه الآيات وفي غيرها، ما الحكمة من اقتران الميسر بالخمر؟
قال العلماء: إن الميسر فيه شَبَهٌ بالخمر من جهة أن من يدخل الميسر يُصبح عنده إدمان، أليس من يشرب الخمر يُصبح عنده إدمان؟ هكذا أيضًا من يدخل الميسر يصبح عنده إدمان، كلما غُلب يحاول أن يدخل مرة ثانية حتى يفوز ويغلب، ويخسر ويُغلَب فيصبح عنده إدمان، وأيضًا الخمر قليلها يدعو إلى كثيرها، وهكذا الميسر قليله يدعو إلى كثيره. والخمر والميسر يشتركان في أنهما من وسائل الشيطان في إيقاع العداوة والبغضاء والصَّدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة.
فإذًا المغالبات والألعاب المشتملة على هذه المفاسد المذكورة في الآية تكون من الميسر؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الميسر مشتملٌ على مفسدتين: مفسدةٌ في المال: وهي أكله بالباطل، ومفسدةٌ في العمل: وهي ما فيه من مفسدةِ المال وفساد القلب والعقل، وفساد ذات البين، وكُلٌّ من المفسدتين مستقلة بالنهي"؛ يعني: لو وُجِد أكلُ المال كان منهيًّا عنه، وإذا وُجد فيه المفسدة الأخرى ولو لم يُوجد فيه أكلُ مالٍ كان أيضًا منهيًّا عنه، ومن هذا قول النبي كما في "صحيح مسلم": من لعب بالنَّرْدَشِير فهو كمن غمس يده في لحم خنزير ودمه[4].
قال: "فإذا اجتمعتا" هاتان العِلَّتان وهما أكل المال بالباطل، والمفسدة المذكورة وهي المذكورة في الآية "عَظُم التحريم؛ فيكون الميسر أعظم من الربا"، وقال رحمه الله: "ووقوع العداوة والبغضاء من أعظم الفساد، وصدود القلب عن ذكر الله وعن الصلاة اللذين كُلٌّ منهما إما واجب أو مستحب من أعظم الفساد". فتبيَّن بهذا أن علة تحريم الميسر هي ما ذُكر في الآية: وهي إيقاع العداوة والبغضاء بين المتلاعبين، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، حتى ولو لم تكن اللعبة مشتملة على مال يُبذَل، فإن تضمنت أكلَ مالٍ كان التحريم أشد وأعظم، بل إنه يكون في هذه الحال أعظم من الربا كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ضابط في المسابقات والمغالبات المحرمة
بهذا نستطيع أن نضع قاعدةً هنا أو ضابطًا في المسابقات المحرمة والمغالبات المحرمة وهي: "كل مسابقة أو مغالبة أو لعبة من غير الأمور الثلاثة المنصوص عليها في الحديث تردَّد فيها المتسابق بين الربح والخسارة فهي من الميسر"، "كل مسابقة أو مغالبة أو لعبة دخل فيها الإنسان وهو متردِّدٌ بين الربح والخسارة، ولم تكن من الأمور الثلاثة المنصوص عليها في الحديث؛ فهي من الميسر".
إذا دخل الإنسانُ مغالبة أو لعبة مسابقة وهو إما غانمٌ وإما غارمٌ فهذا من الميسر، ولو دخلها وهو إما غانمٌ وإما سالمٌ فليس من الميسر. انتبهوا لهذه القاعدة والتي سنُفرِّع عليها الآن بعض الأحكام! فإذًا؛ إذا دخل الإنسان مسابقة وهو إما غانم وإما غارم فهي من الميسر، إذا دخلها وهو إما غانم وإما سالم فليست من الميسر.
وبعد هذا ننتقل للتطبيقات المعاصرة لهذه المسابقات، بعدما انتهينا من الجانب التقعيدي التأصيلي، ننتقل بعد ذلك للجانب التطبيقي لهذا الموضوع:
المسابقات التجارية
المسابقات التجارية كثُرت في هذا الزمن وانتشرت، بل وتفنَّن القائمون عليها وأصبح لها كثير من الدعايات، والذي ينبغي لمن أراد أن يدخل في هذه المسابقات أن يتبيَّن الحكم الشرعي فيها قبل أن يدخل فيها، فمسابقات المحلات التجارية عمومًا إذا كان المتسابق يبذل فيها أيَّ عوض ولو يسيرًا فإنها من الميسر، إذا كان المتسابق يبذل فيها أيَّ عوض فإنها محرمةٌ وتكون من الميسر.
ومن أمثلة ذلك: شراء رسائل المسابقة، إذا كان المحل التجاري مثلًا يبيع قسيمة المسابقة بريال، أو ريالين، أو أكثر، فتكون هذه مسابقة محرمة؛ لأنك تبذل عوضًا، وقد تربح وقد تخسر.
ومن هذا أيضًا: أن يُجعل حدٌّ أدنى للشراء يُمنح بموجبه إعطاء القسيمة أو الكوبون لمن أراد الدخول في المسابقة؛ بعض المحلات التجارية تضع شرطًا لمن أراد الدخول في المسابقة: وهو ألا يقل الشراء عنده عن مائتي ريال مثلًا؛ فإذا بلغ الشراء مائتي ريال قالوا: يحقُّ لك الآن دخول المسابقة، هذا كوبون المسابقة مجانًا.
وهذا أيضًا من الميسر، لماذا؟ لأنه قد أصبح للدخول في هذه المسابقة عوض، فمعنى ذلك: أن هذه القسيمة التي تُمنح لك أو الكوبون أو الكارت أصبح له قيمةٌ تُدفع ضمن فاتورة الشراء، وإلا لو كانت مجانية لما اشترطوا هذا الشرط، فكونهم يشترطون هذا الشرط وهو أن يكون الحد الأدنى للشراء كذا من المال؛ هذا يجعلنا نقول: إن المتسابق قد بذل عوضًا للدخول في هذه المسابقة، وقد دفع هذا العوض ضمن فاتورة الشراء. وهذه ذكر كثيرٌ من أهل العلم أنها من الميسر فتكون هذه محرمة.
أمثلة للمسابقات المحرمة
نحن سوف نسرد الأمثلة المحرمة، ثم بعد ذلك نأتي للأمثلة المباحة.
وأيضًا من صور المسابقات المحرمة: المسابقات التي يُشترط للدخول فيها الاتصال الهاتفي برقم معين، يعني: يكون الاشتراك في هذه المسابقة عن طريق الاتصال برقم معين مثل الرقم (700) والذي قيمة الاتصال عن طريقه مكلفة، وقد يقول قائل: كيف تكون مكلفة وهي سبعة أو عشرة ريالات؟
هي ليست مكلفة بالنسبة للفرد، لكن إذا جُمعت قيمة هذه الاتصالات وجدت أنها تصل لملايين الريالات، وهذا لا شك أنه يشتمل على أكل مال الناس بالباطل، واحتمالية الفوز بهذه المسابقات قليلةٌ بالنسبة لمجموع المتسابقين، فجميع المسابقات عن طريق الرقم (700) أو الهاتف المسعَّر عمومًا من الميسر.
وقد أحسنت شركة الاتصالات السعودية عندما منعت مؤخرًا المسابقات عن طريق الرقم (700) بناءً على فتاوى العلماء في هذا، وقد منعت شركات الاتصالات السعودية بالفعل من المسابقات عن طريق هذا الرقم، وهو عملٌ يُشكَرون عليه في الحقيقة، القائمون على شركة الاتصالات يُشكَرون على هذا العمل؛ لأن فيه منعًا للناس من الوقوع في الميسر، ومنعًا لأكل أموال الناس بالباطل في الحقيقة.
وأيضًا من صور المسابقات الممنوعة: المسابقات عن طريق رسائل الهاتف الجوال، وهي مع الأسف موجودةٌ في بعض الصحف، وقد تكون الجوائز كبيرة، تكون سيارات، أو جوائز قيمة، فيقولون: ما عليك إلا أن تُرسل الجواب عن طريق رسالة الهاتف المنقول وقد تربح وقد تخسر.
وتنطبق على هذه المسابقة قاعدة الميسر التي ذكرناها، وهي: "كل مسابقة دخلها الإنسان وهو متردِّدٌ بين الربح والخسارة إما غانم وإما غارم؛ فإنها تكون من الميسر"، وبناءً على ذلك نقول: إن المسابقات عن طريق رسائل الهاتف المنقول محرمة وإنها من الميسر، ينبغي التنبُّه والتنبيه على هذا؛ لأن كثيرًا من الذين يدخلون في هذه المسابقات يجهلون الحكم الشرعي فيها، والمنظِّمون لتلك المسابقات يُحصِّلون أضعاف أضعاف ما يبذلونه من جوائز، يُحصِّلون ملايين، ففيها أكلٌ للمالِ بالباطل، وفيها ميسر؛ فهي إذًا ممنوعةٌ شرعًا. والله تعالى أعلم.
ومن ذلك أيضًا: مسابقات الصحف إذا قصد المتسابق من شراء الصحيفة الدخول في المسابقة، لاحِظ هذا القيد: مسابقات الصحف إذا قصد المتسابق من شراء الصحيفة الدخول في المسابقة، أما إذا لم يقصد الدخول في المسابقة وكان من عادته أن يشتري الصحيفة، أو أن الصحيفة تأتيه مجانًا عن طريق دائرة حكومية مثلًا أو مؤسسة أو شركة؛ فلا بأس في الدخول فيها.
وبهذا أفتى من مشايخنا الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله، وتكون مسابقات الصحف بناءً على هذا التفصيل، نقول: إذا قصد المتسابق بشراء الصحيفة الدخول في المسابقة؛ تكون هذه المسابقة محرمة. أما إذا لم يقصد دخوله في المسابقة، وإنما من عادته أنه يشتري الصحيفة سواءٌ وُجد فيها مسابقةٌ أم لم يوجد، أو أن الصحيفة تأتيه مجانًا عن طريق دائرة حكومية مثلًا أو غيرها؛ فإنه لا بأس بالدخول فيها؛ لأنه إذا قصد الدخول في المسابقة دخل تحت قاعدة الميسر، يكون قد بذل عوضًا وهو متردِّدٌ بين الربح والخسارة.
وقد ذكر أحد المشايخ الموجودين الآن وهو من أعضاء هيئة كبار العلماء: أنه حدَّثه أحد رؤساء تحرير الصحف، فقال: إن الصحيفة التي يرأسها هو، ويرأس تحريرها، كان يُطبَع منها أربعون ألف نسخة، ويُسترجع منها ألف نسخة يوميًّا، يقول: فلما وضعنا مسابقةً أصبح يُطبع منها ثلاثمائة ألف نسخة، ولا يُسترجع منها شيء، ما معنى هذا؟
معنى هذا: أن كثيرًا من مشتري هذه الصحف يشترون أعدادًا من الصحف بهدف الفوز بالمسابقة، وقد يشتري عشرين نسخة، ثلاثين، خمسين، ربما مائة نسخة من أجل الفوز بالمسابقة، وقد يربح وقد يخسر، فيكون هذا من الميسر، ويكون من أكل المال بالباطل؛ ولذلك نقول: إن مسابقات الصحف هي بناء على هذا التفصيل.
وأيضًا: المسابقات الثقافية التي يُشترط للدخول فيها بذل عوضٍ بأيِّ صورة فإنها تكون من الميسر، حتى ولو كانت مسابقةً دينية على القول الراجح، ما دام أن المتسابق يبذل فيها عوضًا فإنها لا تجوز؛ لعموم الحديث، فإن النبي أُعطي جوامع الكلم، فقال عليه الصلاة والسلام: لا سَبَق، و"لا" نافية للجنس، وسَبَق نكرة في سياق النفي تعم جميع أنواع السَّبَق إلا فيما استثناه النص.
وبناءً على ذلك: إذا اشتُرط للدخول في المسابقة الثقافية شراء قسيمة أو كوبون أو نحو ذلك؛ فإنها لا تجوز، إذا اشتُرط كذلك للدخول في المسابقة شراء كُتيِّب أو شريط فإنها أيضًا لا تجوز؛ لأن المتسابق يبذل عوضًا، وهو متردِّدٌ بين الربح والخسارة؛ فيكون داخلًا تحت قاعدة الميسر.
فإن قال قائل: إذا جُعِل الكُتَيِّب أو الشريط بسعر التكلفة، والغرض منها: هو إفادة المتسابقين، هل يجوز هذا؟
نقول: هذا محل نظر، والأقرب -والله أعلم- أنه أيضًا لا يجوز؛ لعموم الحديث؛ لأن المتسابق هنا يبذل عوضًا وهو متردِّدٌ بين الربح والخسارة؛ ولأنه يصعب القول بأن جميع المتسابقين هدفهم الاستفادة عندما يقومون بشراء الكُتَيِّب أو الشريط، فربما يكون منهم من هدفه الفوز بالمسابقة.
ولهذا نقول: من أراد أن يضع مسابقةً ثقافيةً، فإما أن يتبرَّع بالجوائز ولا يطلب من المتسابقين أيَّ عوضٍ بأيِّ طريق مباشر أو غير مباشر، وإلا هو ليس ملزمًا بأن يضع مسابقة يُوقع عباد الله بسببها في الميسر، إذا كان عنده استعدادٌ لأن يقوم بهذه المسابقة ويُوفِّر الجوائز من عنده وإلا فليس ملزمًا.
وكونه يقول: أنا أخسر من جيبي وأريد سعر التكلفة، نقول: لست ملزمًا بهذا، والنبي وضع لنا قاعدة في هذا الباب قال: لا سَبَق إلا في خُفٍّ، أو نصلٍ، أو حافر[5] وهو عليه الصلاة والسلام اختُصر له الكلام اختصارًا، وأُعطي جوامع الكلم، فوضع لنا عليه الصلاة والسلام هذه القاعدة العظيمة في هذا الباب.
وأيضًا من المسابقات الممنوعة: بطاقات الفنادق والطيران والشركات والمؤسسات التي تُحتسب فيها النقاط إذا كان المتسابق يبذل فيها عوضًا؛ بأن كان يُحسب على مَن يدخل فيها مبلغًا ماليًّا؛ فإنها لا تجوز.
بعض شركات الطيران تحتسب لمن يشترك عن طريقها أو يقطع التذاكر عن طريقها نقاطًا، إذا جُمعت هذه النقاط وضعوا له حوافز؛ إما ترفيعٌ من درجة إلى درجة أو غير ذلك، وربما يُعطونه تذكرة مجانية، المقصود أنهم يضعون له حوافز إذا جمع عددًا من النقاط، فإذا كان من يدخل في هذا البرنامج لا يبذل أيَّ عوض، وإنما هو فقط تبرُّعٌ من الشركة فهذا لا بأس به. أما إذا كان يُحسب عليه أيُّ عوض فإن هذا لا يجوز، وبهذا قرر مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، عندما بحث المسابقات قرر هذه النتيجة التي ذكرتها، وهي أن بطاقات الفنادق وشركات الطيران والمؤسسات والشركات التي تحتسب نقاطًا في المسابقات تجوز إذا كان المتسابق لا يتحمل أيَّ مبلغٍ من هذه المسابقات، وإنما هي حوافز تضعها الشركة من أجل تشجيع الناس على أن يكون السفر عن طريقها مثلًا، أو أن يكون التعامل عن طريقها؛ فهذا لا بأس به إذا لم يتحمل من يدخل فيها أي عوض، أما إذا كان يتحمل فيها أيَّ مبلغٍ ماليٍّ فإنها تكون من الميسر.
وكذلك أيضًا الألعاب بجميع أنواعها التي يَبذل فيها المتسابق عوضًا وهو متردِّدٌ بين الربح والخسارة من الميسر، وهي الآن -مع الأسف- انتشرت في بعض الأسواق، خاصة ألعاب الأطفال يشترط الدخول فيها مبلغًا ماليًّا، مثلًا عشرة ريالات، ثم قد يفوز ويربح ويأخذ الجائزة، وقد يخسر الجائزة؛ وهذا من الميسر.
فيقول: من أراد أن يدخل في هذه اللعبة يدفع رسمًا قدره عشرة ريالات مثلًا أو أكثر أو أقل، وقد وُضعت جائزة لمن يفوز؛ فهذا لا شك أنه يدخل تحت قاعدة الميسر. أما لو أن هذه اللعبة خَلَت من هذا الرسم، وقيل: إن من يدخل في هذه اللعبة ويفوز له جائزة، وجميع اللاعبين لم يبذلوا أيَّ عوض؛ فإن هذا لا بأس به، فيكون هذا من قبيل الجعالة.
ومن ذلك أيضًا مسابقات الألعاب، مثل: كرة القدم أو غيرها، إذا كان اللاعبون يبذلون عوضًا فإنها تكون من الميسر، أما إذا وضعت الجوائز جهة خارجية فلا بأس بذلك، وتكون جعالة؛ لأن الجعالة بابها واسع، من فعل كذا فله كذا، من بنى هذا الجدار فله كذا، من فاز في هذه اللعبة فله كذا.
فإذًا؛ يُشترط لجواز المسابقات عن طريق الأقدام، أو لعب الكرة، أو غير ذلك، أو الألعاب عمومًا، ألا يبذل المتسابق أيَّ عوض، خذ هذه القاعدة: "لا يبذل المتسابق أيَّ عوض، فإن بذلته جهةٌ خارجيةٌ من فرد أو شركة أو غير ذلك؛ فإن هذا لا بأس به، ويكون ذلك من قبيل الجعالة".
ومن ذلك أيضًا الرهان في غير ما ذكرنا من الرهان على نصرة أعلام الدين وأدلته وبراهينه؛ فإنه رهان محرم؛ الأصل في الرهان أنه محرم. ومن ذلك أن يتحدى اثنان على خبر من الأخبار مثلًا، فيقول: إن كان هذا الخبر ليس بصحيح فعليَّ كذا من المال، أو عليك كذا من المال؛ هذا من الرهان المحرم، أو يكون به المتحدث في أمر من الأمور: إن ذهبت إلى كذا فلك كذا، المقصود: أن يكون بينهما شيءٌ من التحدي فيعقدان رهانًا؛ فإن هذا أيضًا رهانٌ، ولا يجوز إلا فيما ذكرنا.
ومن ذلك أيضًا: مسابقات التسويق الهرمي؛ وصورتها: أن تضع شركةٌ قيمةً لمنتج، ولْنَقُل مثلًا: إنه حاسب آلي، أو غيره، أو شريط قرص حاسب آلي مثلًا، وتبيعه بمائة ريال مثلًا، وهذا المنتج قيمته السوقية لو بيع بالسوق ما يساوي إلا عشرة ريالات، وتُعطي من يدخل في هذا البرنامج حوافز وجوائز، ومن يأتي عن طريق الداخل في هذا البرنامج يُعطونه حوافز، وقد تصل هذه الحوافز والجوائز إلى أُلُوف مؤلَّفة، وقد يحصل على هذه الحوافز وقد لا يحصل، خاصةً من أتى متأخرًا فقد لا يحصل على هذه الحوافز، إنما تكون لمن أتى في بداية البرنامج، ولا نريد أن نسمي شركات معينة، ولكن هذه صورة هذه المسألة.
وهذه المسألة جرى بحثها في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وصدر فيها فتوى بالتحريم، وأنها لا تجوز، وأنها من أكل المال بالباطل، وأنها تدخل في الميسر، لماذا؟ لأن مَن يدخل في هذا البرنامج: قيمة هذا المنتج في الحقيقة عشرة ريالات في المثال الذي أوردناه، فتسعون ريالًا هذه تُبذل على سبيل المغالبة والمقامرة؛ فقد يحصل على أضعاف أضعافها وقد لا يحصل.
نعم، لو كانت قيمة المنتج هي القيمة السوقية الحقيقية؛ فما يُبذل من حوافز بعد ذلك يكون هِبَةً، والقائمون على تلك الشركة يدَّعون هذا، ولكن هذه الدعوة غير صحيحة، وإذا كانوا واثقين من كلامهم فليطرحوا هذا المنتج في السوق وينظروا كم تُساوي قيمته، لكنهم عندما يُناقَشون في مثل هذا يقولون: إن هذا المنتج قيمته في السوق كذا.
فهم يدَّعون هذا ادعاءً، ولكنه ليس بصحيح، والفيصل هو السوق، فيُوضع هذا المنتج في السوق ويُنظَر: كم تُساوي قيمته؟ إن كانت تساوي قيمته مثلًا مائة ريال، ومن يدخل في هذا البرنامج يبذل مائة ريال؛ كانت تلك الحوافز -الحقيقة- هِبَة من تلك الشركة والمؤسسات، ولكن الواقع أن قيمة المنتج تقل كثيرًا عما يبذله المتسابق. فإذا كانت تطرح الشركة قيمة هذا المنتج مائة ريال؛ فقيمته السوقية تكون مثلًا عشرة ريالات، ربما تزيد قليلًا لكنها بكُلِّ حالٍ لا تصل لمائة ريال؛ ولهذا أفتى مشايخنا بعدم جواز هذا النوع من المسابقات والتسويق.
وأذكر أن إحدى الشركات الكبيرة في هذا دعت مجموعةً من طلاب العلم، وكنت معهم لبحث هذه المسألة أو إصدار فتوى أو لبيانٍ تستنير به الشركة، واشترطنا عليهم في البداية أن تكون هذه فتوى ملزمةً للشركة، وأنها تأخذ برأي اللجنة، سواءٌ أفتت بالجواز أو المنع، فوافق مدير الشركة على هذا، ثم لما رأى اتجاه المشايخ الموجودين إلى المنع انسحب مدير الشركة ووعد بلقاء قادم، وإلى الآن لم يُعقد هذا اللقاء من أكثر من سنتين.
فهذا إذًا هدف هذه الشركات، هو الحصول على الأرباح وابتزاز أموال الناس بالباطل؛ ولهذا نقول: لا يجوز الدخول في مثل هذه البرامج المستورَدة من الغرب والتي نشأت في بيئات كافرة.
أمثلة للمسابقات المباحة
إذًا هذه أبرز المسابقات الممنوعة، ولكن أيضًا لما ذكرنا المسابقات الممنوعة، يحسن أن نذكر المسابقات المباحة والجائزة، وكما ذكرنا: ما أباحه الله تعالى أكثر بكثير مما حرمه، المسابقة التي لا يبذُل فيها المتسابق أيَّ عوض هي جائزة، من ذلك مثلًا: مسابقات القرآن، ومسابقات السنة، والمسابقات الثقافية التي تكون الجوائز فيها من جهة خارجية ليست من المتسابقين؛ هذه لا بأس بها، بل ربما نقول: إنها مندوبٌ إليها؛ لأن فيها تشجيعًا على حفظ كتاب الله، فيها تشجيعًا على حفظ السنة، فيها تشجيعًا على بذل وتحصيل ونشر العلم؛ فهذه لا بأس بها.
بل المسابقات في جميع الفنون إذا لم يبذل فيها المتسابق أيَّ عوض فإنه لا بأس بها، فتكون هذه صورة من صور المسابقات الجائزة، والتكييف الفقهي لها أنها جعالة؛ لأن تعريف الجعالة عند الفقهاء هي أن يجعل عوضًا معلومًا أو مجهولًا لمن يعمل له عملًا معلومًا أو مجهولًا في مدة معلومة أو مجهولة، فالجعالة بابها واسع، والغرر الموجود فيها مغتفر؛ ولهذا فالتكييف الفقهي لهذا النوع من المسابقات: أنها من قبيل الجعالة.
ومن ذلك أيضًا الهدايا التي تمنحها محطات البنزين، محطات البنزين تمنح هدايا لمن عبَّأ الوقود منها، يقولون مثلًا: إذا كانت التعبئة بخمسين ريالًا أعطوك علبة مناديل مثلًا أو أية هدية أخرى؛ هذه نردُّها للقواعد التي ذكرناها: سعر البنزين هل يرتفع بسبب هذه المسابقة؟ الواقع لا، وهو تحت إشرافٍ من الدولة، ولا يمكن لأيِّ محطة بنزين أن ترفع سعر البنزين لأجل هذه المسابقة.
إذًا قيمة هذه الجائزة أشبه بالهِبَة أو الهدية من محطة البنزين لك، فيكون من يأتي هذه المحطة إما غانمًا وإما سالمًا، وحينئذ نقول: لا بأس بأخذ هذه الهدايا؛ لأنه لا يُبذل فيها عوضٌ مِن قِبَل مَن يأتي لها، لا يُبذل فيها أيُّ عوضٍ، وحينئذ نقول: لا بأس، وهي في الحقيقة أشبه ما لو أن محطة البنزين خفَّضت سعر البنزين، لو قالوا: بدل أن يكون سعر اللتر تسعين أو سبعين أو ثمانين هللة؛ بدل أن يفعلوا ذلك بطريقة مباشرة، أتوا بطريق غير مباشر فوضعوا هذه الهدايا لمن يُعبِّئ الوقود منهم؛ ولهذا لا تدخل هذه الصورة تحت الميسر.
وبهذا أفتى عددٌ من مشايخنا والشيخ محمد ابن عثيمين وجمعٌ من أهل العلم؛ أن هذه الصورة لا تدخل تحت الميسر، ولا بأس أن تأخذ الهدية من محطات البنزين في هذه الحالة.
فإن قال قائل: إن هذا قد يتسبب في جذب الناس وجذب الزبائن، وقد يضر صاحب المحطة من المحطات الأخرى، نقول: أمور التجارة قائمة على هذا، من عهد النبي إلى وقتنا هذا والتجار يتنافسون فيما بينهم، وهذا يُرخِّص السعر وذاك يُرخِّص أكثر، والتنافس لصالح المستهلك في الحقيقة وهذا لا بأس به، فأمور التجارة قائمة على هذا، وقد يرتفع السعر وقد ينخفض.
ولهذا؛ لما غلت الأسعار في عهد النبي قيل له: سعِّر، فقال: إن الله هو المسعِّر القابض الباسط[6]، فأمور التجارة قائمة على هذا؛ ولهذا لا يُعتبر هذا مبرِّرًا للقول بمنع هذا النوع من التعامل، وإن كان بعض المشايخ منع منه لهذا السبب، وفي نظري أنه قولٌ مرجوحٌ؛ لأن هذا لا يدخل تحت الميسر، وما ذُكر من جلب الزبائن فإن أمور التجارة قائمة على هذا؛ لو أراد شخص أن يبيع سلعةً وخفَّض في السعر لأجل جذب الزبائن هل نمنعه من هذا؟ الأصل الإباحة، والأصل الحل، وأمور التجارة تقوم على هذا، وعلى التنافس بين التجار، فمن قال بالمنع في هذه الصورة -الحقيقة- ليس معه دليل إلا -فقط- هذا التعليل وهو كما ترون تعليلٌ عليلٌ.
ومن ذلك أيضًا محلات الغسيل، مثلًا غسيل السيارات أو غيرها يُعطون كروتًا، ويقولون: من يجمع في هذا الكرت أنه عبَّأ من هذه المحطة -مثلًا- كذا لترًا من البنزين فيحصل على غسيلٍ مجانًا، أو يحصل على تغيير الزيت مجانًا؛ هذا أيضًا لا بأس به، هو من هذا النوع.
أو أن -مثلًا- محل غسيل ملابس يريد جلب الزبائن، فوضع كروتًا وقال: من يغسل من عندي أُخفِّض له بموجب هذا الكرت؛ أيضًا هذا لا بأس به؛ لأن من يتعامل معه في الحقيقة لا يبذل أيَّ عوض؛ غايةُ ما في الأمر أن هذا الغسال خفَّض له السعر؛ لكونه يتردَّد على محله؛ فهذا كله مما لا بأس به.
إذًا هذه هي القاعدة في المسابقات المباحة، وهي: أن المتسابق يدخل فيها وهو لا يبذل أيَّ عوض.
وأيضًا الهدايا التي تكون ببعض المحلات التجارية، عندما تدخل مثلًا محلًّا لبيع البضائع، فتجد مثلًا عصيرًا أو ألبانًا ومعها هدية، هذا لا بأس به، بشرط ألا يُرفع من سعر هذا العصير لأجل هذه الهدية، إذا رُفع من سعره فلا يجوز مثل هذا؛ لأنك حينئذ تتردَّد بين الربح والخسارة، أما إذا كان يُباع بسعر السوق، وهو الواقع الآن أنها تُباع بسعر السوق؛ فإنه لا بأس بأخذ هذه الهدية.
ومن ذلك أيضًا وضع النقود في بعض البضائع؛ بعض البضائع يوضع فيها نقود، ريالات، أو نقود معدنية، فنقول: إذا كانت تُباع بسعر السوق فلا بأس، أما إذا كانت تُباع بأكثر من سعر السوق فهنا لا يجوز؛ لأنه قد يربح وقد يخسر فتدخل تحت قاعدة الميسر.
فإذًا؛ نرد هذه الصورة كلها إلى القاعدة التي ذكرناها: وهي أن المسابقة التي يبذل فيها المتسابق أيَّ عوض في غير ما ورد به النص؛ تكون من الميسر، إذا كان المتسابق لا يبذل أيَّ عوض فلا بأس بها، وتكون هذه من قبيل الجعالة، والقاعدة: هي أنك إذا دخلت مسابقة وأنت إما غانم وإما غارم فهذا من الميسر، إذا دخلتها وأنت إما غانم وإما سالم فليس من الميسر. نرُدُّ هذه الصور والأمثلة إلى هذه القواعد.
وفي ختام هذه المحاضرة أُشير إلى أن مجمع الفقه الإسلامي قد بحث هذه المسائل وأصدر فيها قرارًا عرَّف فيه المسابقة، وذكر أن المسابقة بلا عوض جائزة في كُلِّ أمرٍ لم يرد في تحريمه نصٌّ، ولم يترتب عليه ترك واجب وفعل محرم، وأن المسابقة بعوض تجوز إذا توفرت فيها ضوابط:
- الشرط الأول: ألا يكون العوض من المتسابقين؛ يعني لا يكون بذل العوض من المتسابقين، وهذا أهم الشروط في الحقيقة؛ إذا كان العوض من المتسابقين دخلت في الميسر.
- الشرط الثاني: أن تكون أهداف المسابقة ووسائلها مشروعة.
- الشرط الثالث: أن تُحقِّق المسابقة مقصدًا من المقاصد المعتبرة شرعًا.
- الشرط الرابع: ألا يترتب عليه ترك واجب أو فعل محرم.
- أيضًا ذُكِر في القرار بطاقات المسابقات التي تدخل قيمتها أو جزء منها في مجموع الجوائز؛ لا تجوز شرعًا؛ لأنها ضربٌ من ضروب الميسر، يعني إذا رُفعت قيمة السلع أو احتُسبت قيمة الكوبونات من الجوائز؛ فإنها لا تجوز أيضًا في القرار.
- المراهنة بين طرفين فأكثر على نتيجةِ فعلٍ لغيرهم في أمور مادية أو معنوية حرام؛ لعموم الآيات والأحاديث.
- وأيضًا في القرار: دفعُ مبلغٍ على المكالمات الهاتفية للدخول في المسابقات غير جائز شرعًا إذا كان ذلك المبلغ أو جزءٌ منه يدخل في قيمة الجوائز؛ منعًا لأكل أموال الناس بالباطل.
- وأيضًا سادسًا: لا مانع من استفادة مقدِّم الجوائز من ترويج سلعه فقط دون استفادة مالية عن طريق المسابقات، شريطة ألا تكون قيمة الجوائز أو جزءٌ منها من المتسابقين، وألا يكون في الترويج غِشٌّ أو خداعٌ أو خيانةٌ للمستهلكين؛ يعني -كما ذكرنا- جعل حوافز من غير أخذ شيءٍ من المتسابقين لا بأس به، وتصاعُد مقدار الجائزة وانخفاضها بخسارة لاحقة، كما هو موجود في بعض القنوات الفضائية؛ هذا أيضًا غير جائز.
- بطاقات الفنادق وشركات الطيران والمؤسسات التي تمنح نقاطًا تجلب منافع مباحة؛ جائزة إذا كانت مجانية بدون عوض، أما إذا كانت بعوض فإنها تكون محرمة.
هذا هو خلاصة قرار المجمع في هذا الموضوع الهام، ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى للجميع الفقه في الدين والعلم النافع والعمل الصالح والتوفيق لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقدم: أشكر فضيلة الشيخ سعد الخثلان على هذه الكلمات الطيبة، وهذا التأصيل الشرعي، والذي نحتاجه جميعًا في هذه الحياة المليئة بهذه الأنواع من الألعاب؛ ليتبيَّن للإنسان أين يضع قدمه في هذا الأمر وفي هذه اللعبة.
هنا وردت لفضيلة الشيخ مجموعة من الأسئلة، ومن ضمنها يسألون الشيخ أن يُبشِّرهم عن الشيخ سفر الحوالي: آخر أخبار الشيخ؟
الشيخ: نرجو أن يكون في تحسن مستمر، وأسأل الله تعالى له ولجميع مرضى المسلمين الشفاء.
الأسئلة
السؤال: يقول الأخ: في سباق الخيل: الشوط الذي تُقدَّم فيه الجائزة سيارة، مقدمة من إحدى الشركات، يُشترط على صاحب الخيل مبلغ ألف ريالٍ، وقد تزيد بدخول شوط سباق الخيل، فما الحكم في ذلك وفقكم الله؟
الشيخ: مسابقات الخيل قد ورد النص باستثنائها، مع أن فيها شيئًا من الغرر والجهالة، ولكن ورد النص باستثنائها في الحديث؛ لقول النبي في الحديث الذي قلنا: هو الأصل في هذا الباب: لا سَبَقَ إلا في خُفٍّ أو نصلٍ أو حافرٍ[7]. قوله: أو حافرٍ المقصود به: الخيل؛ ولذلك فهذا لا بأس به بالنص، ولا قول لأحد مع قول النبي ؛ بذلُ المتسابق للعوض في هذه الأمور الثلاثة جائزٌ بنص الحديث ولا حرج في ذلك.
السؤال: يقول: في مسابقة الشريط في المدرسة كان الخلاف حول أخذ قيمة الشريط، وتم الاتفاق على ريال واحد فقط، وذلك رغبة في احترام الشريط وعدم رميه بمجرد الحصول عليه، فهل هذا الاجتهاد صحيح؟
الشيخ: هذا محل نظر؛ لأننا إذا نظرنا إلى عموم الحديث: لا سَبَق إلا في خُفٍّ أو نصلٍ أو حافرٍ نجد أن الأصل في هذا الباب المنع؛ لأن لا نافيةٌ للجنس لجميع أنواع السَّبَق إلا فيما استُثني، وحينئذ نقول: إن اشتراط شراء الشريط بريال من أجل الدخول في المسابقة الأقرب -والله أعلم- أنه يدخل في هذا، وأنه إلى عدم الجواز أقرب، والقائمون على تلك المسابقة إن كان عندهم قدرة على أن يُوزِّعوا الشريط مجانًا فالحمد لله، وإن كان ليس عندهم قدرة فليسوا مجبرين على وضع مثل هذه المسابقة، فلا يُوقعوا الناس في الميسر.
وأما قولهم: إنه لأجل احترام الشريط فهذا تبرير غير كافٍ؛ لأنه إذا نظرنا إلى قاعدة الشريعة وجدنا أن الأصل في هذا الباب المنع، الأصل في المسابقات والمغالبات المنع.
والله تعالى أعلم وأحكم، هذا هو شرع ودين الله، هو سبحانه أعلم وأحكم.
ولهذا؛ من أراد أن يجتهد اجتهادًا، نقول: لا بد أن يكون اجتهادك موافقًا للنصوص، أما مثل هذا التبرير فهو غير كافٍ للخروج من هذه القاعدة التي وضعها النبي ، وهو منع السَّبق إلا في هذه الأمور الثلاثة وما كان في معناها.
السؤال: يقول السائل: هناك مسابقاتٌ ليس فيها عوض، ولكن فيها حظٌّ، لا يعرف المتسابق هل سيفوز أم لا؟
الشيخ: بعض المسابقات في الحاسب أو غيرها، إذا كان ليس فيها عوض لا بطريق مباشر ولا بغير مباشر، لا يبذل المتسابق أيَّ عوض ولكنها تعتمد على الحظ؛ فهنا فيه تفصيل:
إن ألهت عن واجب أو أوقعت في محرم؛ كانت محرمة لاشتمالها على مفسدة الميسر. أما إذا خلت من هذا كله: لم تُوقع في محرم، ولم يكن فيها إلهاءٌ عن واجب، ولا صَدٌّ عن ذكر الله ولا عن الصلاة، ولا إيقاع العداوة والبغضاء؛ فلا بأس بها، حتى ولو كانت تعتمد على الحظ، إذا لم تُوقع العداوة والبغضاء، ولم يكن فيها صَدٌّ عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فلا بأس بها؛ كأن يطرح شخصٌ مسابقة -مثلًا- ثقافية، ويقول: اختر، الإجابة واحدة من هذه الإجابات الثلاث، وهذا المجيب لا يعرف الإجابة، ولكن اختار إجابة من هذه الإجابات، فأصاب وأخطأ؛ هذا لا بأس به إذا خلت من مفسدة الميسر.
السؤال: يقول السائل: عند شرائي للجريدة يكون عندي نية المسابقة والدخول فيها، ونية القراءة للأخبار لشرائي لهذه الجريدة؟
الشيخ: هنا ننظر: إن كان من عادتك شراء الجريدة لأجل القراءة ودخلت هذه المسابقة تبعًا؛ فلا بأس بالدخول فيها حينئذ. أما إذا لم يكن من عادتك شراء الصحف وقراءتها، ولكن اشتريتها لأجل الدخول في المسابقة، وأردت مع ذلك معرفة الأخبار وما كُتب في الجريدة فهذا لا يجوز؛ لأنه حينئذ عرفنا أن قصدك الأصلي هو الدخول في المسابقة، حينئذ ننظر إلى عادتك: هل عادتك شراء الصحف وقراءتها ودخلت هذه المسابقة تبعًا؟ هذا لا بأس به. أما إذا لم يكن هذا من عادتك، وإنما اشتريت هذه الجريدة لأجل الفوز بالمسابقة، ولأجل كذلك متابعة الأخبار ونحوها؛ فحينئذ يُغلَّب جانب الحظر وجانب المنع.
وقد يقول قائل: لماذا تمنعون من هذا مع أن السعر زهيد، قد يكون ريالًا أو ريالين؟
نقول: هو زهيد بالنسبة للفرد، ولكنه كثير بالنسبة لمجموع الأفراد؛ ولهذا ذكرت لكم مثالًا قبل قليل في الصحيفة التي كان يُطبع منها أربعون ألفًا ويُسترجع منها ألف، لما وُضعت المسابقة أصبح يُطبع منها ثلاثمائة ألف ولا يُسترجع منها شيءٌ، وهو وإن كان زهيدًا بالنسبة للفرد لكنه كثيرٌ بالنسبة لمجموع الأفراد، والشريعة قد منعت أكل المال بالباطل، وسدَّت جميع الذرائع الموصلة إلى هذا.
السؤال: يقول السائل: أقنعني أحد الزملاء في التسويق الهرمي عن طريق إحدى الشركات، وأخذت منهم بطاقتين قيمة الواحدة ثلاثمائة وخمس وثمانون ريالًا، على أن أدفع المبلغ فيما بعد، وبعد أن عرفت الحكم الشرعي توقفت، السؤال: لم أدفع له مبلغ البطاقتين؛ هل أدفعه له أم لا؟
الشيخ: التسويق الهرمي -كما ذكرنا- اختلف فيه العلماء المعاصرون، والأقرب فيه المنع، وهو إنما نشأ في بيئات كافرة، نشأ في الغرب ثم نُقل إلينا بما فيه من إشكالات.
وقد أصدرت فيه اللجنة الدائمة بيانًا جيدًا مفصَّلًا -في الحقيقة- بعد دراسة وافية، وأفتت بالمنع من وجوه عديدة، وأشرت إلى هذا في ثنايا المحاضرة.
وبالنسبة لمن وقع في هذا؛ فأرى أنه ينسحب من الدخول في هذا البرنامج، ما دام أنه لم يدفع إلى الآن المبلغ فلا يدخل فيه ويعتذر، وينسحب حينئذٍ من الدخول في هذا البرنامج طالما أنه ممنوع شرع.
السؤال: ما حكم التعامل مع الشركة المسماة "بزنس"، ويقولون: عندهم فتوى من الشيخ ابن جبرين والشيخ سلمان العودة، ويقولون أيضًا: إن ما يدفعه الناس يستفيد منه الناس عن طريق برامج الكمبيوتر وغيرها، وهذه المسابقة الهرمية إنما هي جانبية لمن أراد الاشتراك فيها؟
الشيخ: أنا لا أحب -الحقيقة- تسمية شركات بعينها؛ لأن هذا المقام ليس مقام تشهير بشركات معينة، ولا مقام -أيضًا- دعاية لشركات أخرى.
فأرى في مثل هذا أن يُذكر الحكم العام، ومن أراد أن يستفتي عن شركة معينة فيتصل بأحد المشايخ بصفة خاصة. وأما أن يُشهِّر بشركات قد تختلف الفتوى فيها والاجتهاد فيها وآراء العلماء فيها، فأرى أن هذا غير مناسب.
ولذلك؛ نحن نقول: إن هذه الشركة المذكورة في السؤال هي من شركات التسويق الهرمي، قد تكلمنا عن الحكم في هذا، ولا نتعرض لهذه الشركة أو غيرها بعينها إلا لمن أراد استفتاء بصفة خاصة، فنُبيِّن له هذا. أما التشهير بالشركات في المساجد أو في وسائل الإعلام أرى: أن هذا غير مناسب، وهكذا أيضًا وضع دعاية لشركات أخرى مع أنها قد توجد عندها إشكالات.
لأن هذه الأمور مما تختلف فيه وجهات النظر، وتختلف فيه فتاوى وآراء العلماء، وقد يرى هذا العالم: أن هذه الشركة تعاملها مباح، وآخر: أنه محرم.
ولهذا؛ ينبغي أن تذكر قواعد عامة، وأما شركات مسماة فسواء بالجواز أو بعدم الجواز: أرى أنه ليس هذا هو مقامه، وإنما من أراد أن يستفتي عن شركات معينة فيستفتي بصفة خاصة.
السؤال: يقول: بعض مدن ألعاب الأطفال يكون فيها إمكانية اللعب المفتوح مقابل مبلغ، قد يلعب الطفل فيستغرق المبلغ وزيادة، وقد يلعب ألعابًا أقل من القيمة المدفوعة؛ فما الحكم؟
الشيخ: هذا لا بأس به؛ لأن الطفل حينما يلعب ليس هناك جائزةٌ تُقدَّم له، وإنما مقابل استخدام هذه الآلات، فلا تدخل تحت ما ذكرناه من القواعد.
فهذا الطفل يستخدم هذه الآلة، ولها كُلفة؛ اشتُريت بمبلغٍ ربما يكون كبيرًا، وتحتاج إلى صيانة، وتحتاج إلى موظف يقوم عليها، وتحتاج إلى أمور مكلفة، فأصحابها أرادوا استثمارها؛ ولذلك لا بأس بأن يأخذ عوضًا عليها، ولا يلزم أن يبذلوا هذه الألعاب للناس مجانًا.
نعم، لو أنهم وضعوا جوائز فهنا يَرِد الإشكال، لكن ما دام أنها ليس فيها جوائز وإنما فقط يلعب عليها الأطفال مقابل مبلغٍ ماليٍّ؛ هذا لا بأس به، حتى ولو كان اللعب أكثر من المدة المقررة أو أقل، الأمر في هذا سهل؛ لأنه مجرد -فقط- انتفاع واستفادة بهذه الآلات.
السؤال: يقول: هناك بعض المحلات التجارية في الأسواق أثناء شراء كمية من المواد الغذائية يقومون بإعطائي نموذجًا للمشاركة في الجوائز ووضع سيارة لذلك؟
الشيخ: هذا يجوز بشرطين:
- الشرط الأول: أن يكون هذا المحل يبيع بسعر السوق ولا يزيد، تكون أسعار المواد الغذائية عنده بسعر السوق، أما إذا كان يزيد فمعنى ذلك أن هذه المسابقة أصبح لها عوض يُبذل من الداخلين فيها؛ فتدخل تحت قاعدة الميسر.
- الشرط الثاني: ألا يشترط للدخول في المسابقة حدًّا أدنى، أو يشترط شراء قسيمة.
فإذا تحقق هذان الشرطان فلا بأس؛ لأننا إذا أردنا أن نُطبِّق عليها قواعد الميسر التي ذكرناها في أثناء المحاضرة؛ قاعدة الميسر: هي أن تدخل وأنت متردِّدٌ بين الربح والخسارة إما غانم وإما غارم، أما إذا دخلت وأنت إما غانم وإما سالم فليس هذا من الميسر.
فأنت عندما تأتي لهذا المحل: إن كان يبيع بأكثر من سعر السوق وفيها جائزة فأنت الآن بذلت عوضًا وهو الزيادة على سعر هذه البضاعة، وأنت إما غانم وإما غارم؛ فتدخل تحت قاعدة الميسر.
وهكذا لو وَضع حدًّا أدنى للشراء؛ معنى ذلك: قد وُضع لهذه المسابقة قيمة ومبلغٌ يُبذل بطريق غير مباشر من المتسابق، وهكذا لو وضع أيضًا قسيمة واشترط للدخول في المسابقة شراء هذه القسيمة؛ هنا تنطبق قاعدة الميسر: إما غانم وإما غارم.
لكن، لو قُدِّر أن هذا المحل خلا من هذا كله فيبيع بسعر السوق ولا يشترط للدخول في المسابقة شراء قسيمة، ولا يشترط حدًّا أدنى للشراء؛ فلا بأس في الدخول فيها؛ لأنك إما غانم وإما سالم، أنت تشتري بسعر السوق، وربما تربح هذه السيارة وربما لا تربح، فأنت لست بخاسر بكل حال، إما غانم وإما سالم؛ فلا تدخل تحت قاعدة الميسر حينئذٍ، وحينئذٍ يكون لا بأس بهذا.
ولهذا؛ ننبه الإخوة الذين يقومون على هذه الجوائز بتعديل وضع هذه الجوائز؛ لأن الغالب أن هدفهم هو جذب الزبائن وجذب الناس، لكن فقط تَرِد هذه الإشكالات وربما جهلًا؛ فينبغي تنويرهم بمثل هذا، وأن يقال لهم: لا تشترطوا شروطًا وبِيعوا بسعر السوق، ولا تشترطوا أيَّ شرطٍ للدخول في هذه المسابقة؛ وحينئذٍ يكون ذلك جائزًا.
ولا بأس إذا فُزتَ بسيارة أن تأخذها؛ لأنك إما غانم وإما سالم. لكن، تَرِد الإشكالية من أحد الأمرين: إما أن يباع بأكثر من سعر السوق، وإما أن تُوضع شروطٌ: إما شراء قسيمة وإما حدٌّ أدنى للشراء؛ هنا تَرِد الإشكالية.
السؤال: هناك يا شيخ مجموعة من الأسئلة تسأل عن الأسهم والتي كثر دخول الناس فيها، وذكر بعضهم أسماءً لا داعي لذكرها، لكن هل من توجيهٍ معيَّنٍ على هذه الأسهم؟
الشيخ: نعم، الشركات المساهمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: شركاتٌ أصلُ تعامُلِها مباحٌ ولا تتعامل بالربا إقراضًا أو اقتراضًا؛ فهذه لا إشكال في جواز الدخول فيها.
- القسم الثاني: شركاتٌ أصلُ تعاملها محرم؛ كأن تكون لتصنيع الخمور مثلًا ونحوها، أو أنها بنوك ربوية قائمة على الربا؛ فهذه لا إشكال في عدم جواز المساهمة فيها.
- القسم الثالث -وهو الأكثر-: شركاتٌ أصلُ تعاملها مباح؛ أي تكون صناعية أو زراعية أو تجارية أو اتصالات أو غير ذلك، لكنها تتعامل بالربا إقراضًا أو اقتراضًا، وهذا هو حال معظم الشركات المساهمة اليوم؛ هل تجوز المساهمة فيها أو لا تجوز؟ شركات الألبان، العصائر، الصناعات، الاتصالات، معظم الشركات اليوم هي من هذا الصنف، بل كان قبل سنوات لا يوجد ولا شركة واحدة لا تتعامل بالربا، لكن الآن -في الوقت حاضر- وُجدت مجموعة من الشركات النقية التي أصبحت الآن لا تتعامل بالربا وإن كانت تملك أسهمًا لشركات أخرى غير نقية، لكن الآن قوائمها المالية خلت من التعاملات الربوية.
أقول: هذه الشركات المختلطة التي أصل تعاملها مباحٌ لكنها تتعامل بالربا إقراضًا واقتراضًا؛ هل تجوز المساهمة والدخول فيها، أو لا يجوز؟ اختلف العلماء المعاصرون في هذا على قولين محورين:
- القول الأول: إنه تجوز المساهمة فيها بشرط التخلُّص من الربا؛ فإذا استلم المساهم الأرباح يتخلص من نسبة الربا فيتصدق بها بنِيَّة التخلُّص لا بنية التقرُّب، على خلافٍ بينهم في تحديد مقدار الربا، وأكثر ما قيل: إذا كانت الشركة تتعامل بالربا إلى ثلاثين في المائة جاز، ومنهم من حدَّد النسبة بخمسة في المائة، ومنهم من حدَّدها بعشرة في المائة.
- القول الثاني في المسألة: إنه لا تجوز المساهمة في الشركات التي تتعامل بالربا إقراضًا أو اقتراضًا ولو بنسبة واحد بالمائة. وهذا قول أكثر العلماء المعاصرين، وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي قرارًا بأنه لا تجوز الدخول في هذه المساهمات.
وأيضًا مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي أصدر قرارًا في هذا بأنه لا يجوز الدخول في هذه الشركات، وأيضًا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أصدرت فتوى في هذا، وهو رأي سماحة شيخنا عبد العزيز ابن باز رحمه الله.
هؤلاء يرون عدم جواز الدخول في هذه الشركات التي وإن كان أصل تعاملها مباح إلا أنها تتعامل بالربا؛ وذلك لأن المساهم في الحقيقة أحد مُلَّاك الشركةِ شاء أم أبى؛ يعني نحن الآن معشر الموجودين في هذا الجامع لو اتفقنا مثلًا على إنشاء شركة، وقلنا: السهم مائة ريال؛ جميع أعمال هذه الشركة تُنسب لنا نحن أيها المساهمون، فإذا كانت الشركة تتعامل بالربا فالربا منسوبٌ لك أنت أيها المساهم شئت أم أبيت، الربا منسوبٌ لك، والنبي لعن حتى شاهد الربا وكاتبه ومُوكِله وكاتبه وشاهديه[8]، فكيف بمن يتعامل بالربا بالوكالة؟!
وهذا القول -الحقيقة- أَرْجَحُ وأظهر وأقرب، والتبرير بالواقع -في الحقيقة- تبريرٌ غير مناسب؛ كون هذا هو واقع الشركات أو معظم الشركات هذا لا يُبرِّر، ودين الله لا يخضع لواقع المجتمع، وإنما ينبغي أن نُخضع الواقع لدين الله سبحانه.
والربا محرمٌ: قليله وكثيره، بل إن النبي لما سُئل عن بيع الرُّطَب بالتمر -كما عند أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد بسند صحيح- قال: أينقُصُ الرطب إذا يَبَس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذًا[9]؛ يعني لو أردت أن تبيع كيلو رطب بكيلو تمر مع التقابض والتماثل، كيلو وكيلو، لا يجوز، لماذا؟ لأن هذا الرطب سوف ينقص إذا يبس، تفاوتٌ يسير جدًّا، هذا النقص ماذا سيكون؟ كيلو وكيلو، كيلو رطب وكيلو تمر، ماذا سيكون هذا النقص؟ يسيرٌ جدًّا، ومع ذلك منع منه النبي .
فما الذي يُبيح الدخول في شركةٍ تصل قروضها إلى ثلاثين في المائة؟! وفي شركة من الشركات الكبيرة -كما ذكرت لا نريد أن نسمي الشركات- بلغت القروض الربوية عندها أربعة وثلاثين مليار ريال، هذا مشكل، وكما ذكرت ينبغي أن يخضع الواقع لدين الله ، لا أن يُبرَّر بالواقع.
ولهذا؛ فالذي أرى هو ما قررته المجامع الفقهية من عدم جواز الدخول في هذه الشركات التي تتعامل بالربا ولو بنسبة واحد في المائة، وأرى أن هذا هو مقتضى الأدلة والقواعد الشرعية. والله تعالى أعلم.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى للجميع الفقه في الدين، والعلم النافع، والعمل الصالح، والتوفيق لما يحب ويرضى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقدم: لا يسعنا وقد وصلنا إلى نهاية المطاف إلا أن نتقدم بالشكر الجزيل بعد شكر الله لفضيلة الشيخ سعد الخثلان، الذي أتحفنا وأعطانا من القواعد التأصيلية ما يجعل الإنسان يتبيَّن الحكم الشرعي في هذه المسابقات.
وشكرًا لكم -أيها الإخوة الكرام- على حضوركم، سائلين المولى أن يكتب الأجر للجميع.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
^1 | رواه الترمذي: 2416، والدارمي: 554. |
---|---|
^2 | رواه أحمد: 10138، وأبو داود: 2574، والترمذي: 1700، والنسائي: 3585، وابن ماجه: 2878. |
^3 | رواه أحمد: 2495، والترمذي: 3193. |
^4 | رواه مسلم: 2260. |
^5, ^7 | سبق تخريجه. |
^6 | رواه أحمد: 14057، وأبو داود: 3451، والترمذي: 1314. |
^8 | رواه مسلم: 1597. |
^9 | رواه أحمد: 1515، وأبو داود: 3359، والترمذي: 1225، والنسائي: 4545، وابن ماجه: 2264. |