جدول المحتويات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين. أما بعد:
حديثنا في هذه المحاضرة عن موضوع... يعاني منه كل مسلم، موضوع يحتاج إليه كُلُّ واحدٍ منا، ينبغي أن يُعنى به عناية كبيرة. إنك لتجد بعض الناس لهم عناية فيما يتعلَّق بصلاح الظاهر، ولكن عندما تتأمل أحوال الباطن تجد بَوْنًا شاسعًا وفرقًا كبيرًا، وإن الأعمال لتتفاوت تفاوتًا عظيمًا بحسب ما يقوم في القلوب.
حديثنا أيها الإخوة عن هذه القلوب، وعن أعمال القلوب التي يرتفع المسلم بها درجاتٍ عند ربه ، فما هي أعمال القلوب؟ وكيف يستطيع المسلم أن يُحقِّق هذه الأعمال، وأن يزداد بها زُلفى وقُربًا من ربه ؟
مكانة القلب وأهميته
قبل أن نتكلم عن هذه الأعمال أُذكِّر هنا بأن القلب هو أشرف الجوارح، وهو موضع نظر الرب من العبد، كما قال عليه الصلاة والسلام: إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم[1]؛ فالقلوب هي محل نظر الله من العبد.
هذا القلب إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، يقول عليه الصلاة والسلام: ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب[2].
القلب هو محل معرفة الله ، ومحل محبته وخشيته وخوفه ورجائه والتوكل عليه، القلب هو محل النية التي بها تصلح الأعمال وتُقبل أو تُرد وتبطل: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكُلِّ امرئٍ ما نوى[3].
يقول ابن القيم رحمه الله: "فأشرف ما في الإنسان قلبه، فهو العالم بالله، الساعي إليه، المُحبِّب له، وهو محل الإيمان والعِرفان، وهو المخاطَب المبعوث إليه الرسل، المخصوص بأشرف العطايا من الإيمان والعقل، وإنما الجوارح أتباع للقلب، يستخدمها استخدام الملوك للعبيد، والراعي للرعية، فسبحان مقلِّب القلوب، ومُودعها ما يشاء من أسرار الغيوب، الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما ينطوي عليه من طاعته، مُصرِّف القلوب كيف يشاء جل وعلا".
ولهذا؛ كان النبي أكثر ما يكون حلفه بقوله: لا، ومقلب القلوب[4]. ويقول عليه الصلاة والسلام في دعائه: اللهم يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك[5]، اللهم يا مصرِّف القلوب صرِّف قلبي على طاعتك[6].
القلب -أيها الإخوة- هذه المضغة الصغيرة، شأنها عجيبٌ جدًّا، كلُّ عضو من أعضاء البدن خُلِق لفعلٍ خاصٍّ به، كَمالُه في حصول ذلك الفعل منه، ومرضه أن يتعذَّر عليه الفعل الذي خُلِق له، فمرض اليد أن يتعذَّر عليها البطش، مرضُ العين أن يتعذَّر عليها النظر والرؤية، مرض اللسان أن يتعذَّر عليه النطق، مرض البدن أن يتعذَّر عليه حركته الطبيعية أو يضعف عنها، فما هو مرض القلب؟
مرض القلب
مرض القلب قال العلماء: هو أن يتعذَّر عليه ما خُلِقَ له من معرفة الله ومحبته، والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك كله على شهوته وهواه، فإذا لم يصل الإنسان إلى هذه المرحلة فمعنى ذلك: أن القلب لم يصل إلى كماله، وأن القلب مريض، كما أن العين إذا لم تُبصر فهذا هو اعتلالها ومرضها، فكذلك أيضًا القلب كماله في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والإنابة إليه. وقد يمرض القلب ولا يشعر صاحبه بمرضه، وقد يشعر بمرضه لكنه يشتد عليه تحمُّل مرارة الدواء والصبر عليها.
ولهذا -أيها الأخوة- لا بد أن يُعنى كلُّ مسلمٍ بإصلاح هذا القلب؛ فإن الفلاح معلَّق على سلامة هذا القلب: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]؛ لا بد من أن تأتي الله بقلب سليم حتى تنجو، وحتى يكون لك الفوز والفلاح.
والقلب مرضه أنواعٌ عديدةٌ، فمن الناس من يكون قلبه مريضًا فيما يتعلَّق بالشُّبُهات، تجد أن أيَّ شبهة يسمعها تُؤثِّر عليه وتجعله يقلق، وربما دخله شيءٌ من الشك والريبة، تجد أنه سمَّاعٌ للشُّبَه قابلٌ لها متأثِّرٌ بها، فهذا مريضُ القلب مرضًا متعلِّقًا بالشُّبهة. وهذا نجده -أيها الإخوة- في واقعنا، تجد بعض الناس عندهم شيءٌ من التشوُّف والتعلُّق بالشُّبَه والحديث عنها.
ومن الناس من يكون قلبه مريضًا فيما يتعلَّق بالشهوات، ومن أبرزها: شهوة الزنا، وهذا النوع من أمراض القلوب ذكره الله بقوله في سورة الأحزاب: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32].
تأمل هذه الآية، بيَّن الله في هذه الآية أن الذي يطمع في المرأة عندما تخضع بالقول من هو؟ الذي في قلبه مرض، مريض القلب؛ لأن مريض القلب متهيِّئٌ: إذا رأى امرأة فإنه يتشوَّف لأدنى مُحرِّك يُحرِّكه إليها ولو كان مجرد لينٍ في القول. وهذا الصنف موجود في مجتمعنا، فتجد مِن الناس مَن هو مولعٌ مثلًا بمعاكسات النساء، ومولعٌ بالنظر للنساء مثلًا، ومع أنه قد لا يكون ذلك بسبب شدة شهوة، لكن بسبب مرضٍ في قلبه، فهذا إنسان مريض القلب يحتاج إلى علاج.
ومِن الناس مَن يكون المرض في قلبه فيما يتعلق بجمع المال، فتجد أنه وَلُوعٌ بجمع المال، وتحصيل المال من أيِّ طريق، جموعٌ منوعٌ، قد سيطر حُبُّ المال على قلبه. ومن الناس مَن قلبه مريضٌ باللهو واللعب، دائمًا في لهو ولعب وغفلة وهزل.
وهكذا نجد أنَّ أمراض القلوب أنها عديدة ومتنوعة، وإن كان الله قد ذكر نوعًا واحدًا منها، لكنها عديدة وكثيرة؛ ولهذا فعلينا أن نسعى لإصلاح قلوبنا، ومن كان عنده شيءٌ من هذه الأمراض فليُبادر إلى علاجها.
القلب الحي
إنَّ القلب الحيَّ أيها الإخوة يقود صاحبه إلى فعل الطاعات حتى إنه ليُيَسَّر لليُسرى، يُيَسَّر لفعل الخير من غير كُلفة ومشقة يجدها. القلب الحيُّ يجد صاحبه الطمأنينة والسعادة واللذة والراحة؛ يقول الله : الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
لو أردنا أن نصف هذه الطمأنينة التي يجدها الذاكر لربه في قلبه لعجزنا، شيءٌ عجيبٌ! لكن بعض السلف وصف بعض هذه اللذة والطمأنينة والسعادة التي يجدها في قلبه، يقول بعضهم: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه".
ويقول آخر: "إنني والله لتمُرُّ بي أوقاتٌ يطرب لها القلب فرحًا، وإني لأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا النعيم، إنهم والله لفي عيش طيب"، ويقول آخر: "إنه لتمُرُّ بالقلب أوقات يجد فيها نعيمًا ولذةً، لو يعلم عنها الملوك وأبناء الملوك لَجَالدونا عليها بالسيوف"، ويقول آخر: "والله ما طابت الدنيا إلا بمحبة الله وطاعته".
فنجد أن عبارات السلف في هذا تُعبِّر عن شيءٍ من وصف هذه اللذة وهذه السعادة وهذه الراحة، وابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13] يقول: لا تحسبوا أن قوله: {في نعيم} فقط في الآخرة، بل يشمل ذلك حتى نعيم الدنيا، وذلك بما يجده الأبرار من طمأنينة القلب ومن اللذة ومن السعادة في قلوبهم؛ ولذلك قال: لَفِي نَعِيمٍ فتشمل نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
أيها الإخوة، إن القلب شأنه عظيم، إن القلب هو محل التقوى أو الفجور، يقول الله في الحديث القدسي في حديث أبي ذَرٍّ كما في "صحيح مسلم": يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجِنَّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجِنَّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئًا[7]. فهذا يدل على أن محل التقوى أو الفجور هو القلب.
قال ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: "وفي هذا دليلٌ على أن الأصل في التقوى والفجور هو القلب، فإذا برَّ القلب واتقى بَرَّت الجوارح، وإذا فجر القلب فجرت الجوارح، كما قال النبي : التقوى ها هنا وأشار إلى صدره[8].
تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب
أيها الإخوة، وإن الأعمال لتتفاضل بتفاضل ما في القلوب تفاضلًا عظيمًا، وإن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، رجلان في مكان واحد يُصلِّيان صلاةً واحدةً يُؤدِّيان أركان الصلاة وواجباتها ومع ذلك بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض كما قال حسان بن عطية؛ لماذا؟ لأن أحدهما مُقبلٌ على ربه والآخر غافلٌ لاهٍ ساهٍ.
ولهذا؛ ذكر النبي أعمالًا يسيرة رفعت أصحابَها درجاتٍ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام في قصة المرأة البغي التي رأت كلبًا فسقته فغُفِرَ لها[9]. وفي قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: إن رجلًا رأى غصنًا في الطريق آذى المسلمين فأخَّره فشكر الله له؛ يعني: غفر الله له[10]. وكما في قوله : وإن العبد ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله ما يُلقي لها بالًا؛ يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه[11].
هذه الأعمال اليسيرة ليس كُلُّ من أتى بها يحصل له هذا الفضل، لكن كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هؤلاء أناسٌ قامت بقلوبهم من الأعمال ما رفعهم إلى هذه المنزلة. ليس كُلُّ من سقى كلبًا يُغفر له، ليس كل من أخَّر غصنًا عن طريق المسلمين يُغفر له، ليس كُلُّ من قال "لا إله إلا الله" يُغفر له.
وفي حديث البطاقة المشهور في الرجل الذي يُصاح به فيُنشر له تسعةٌ وتسعون سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ منها مَدَّ البصر، ثم يُقال له: هل لك من عمل؟ حتى إذا ظن أنه قد هلك يُؤتى ببطاقةٍ فيها كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" فتُوضع في الكفة الأخرى فتُثقل الميزان وتطيش تلك السجلات.
لكن، هل كُلُّ من قال: لا إله إلا الله يحصل له هذا؟ لا، وإنما هؤلاء أناسٌ قام في قلوبهم من التعظيم لله واليقين والصدق والإخلاص؛ فحصلوا على هذه المرتبة وهذه المنزلة.
ولهذا؛ ما ذكرناه في الصلاة، هو أيضًا في جميع الأعمال، ربما اثنان تصدقا بصدقةٍ واحدةٍ لكن بينهما في الفضل والأجر والثواب بَوْنٌ شاسع وفرقٌ كبير. وهكذا بالنسبة للصيام، وهكذا بالنسبة للحج، وهكذا بالنسبة لسائر الأعمال.
فإذًا؛ الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، وتتفاوت بتفاوت ما في القلوب؛ قال ابن القيم رحمه الله: "تفاضل الأعمال عند الله بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يُكفِّر تكفيرًا كاملًا، والناقص بحسبه، وبهاتين القاعدتين تزول إشكالاتٌ كثيرةٌ، وهما: تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه".
ولهذا؛ ذهب بعض أهل العلم إلى أن الصلاة الكاملة –انتبه! "الكاملة"- تُكفِّر جميع الذنوب حتى الكبائر، لكن من يأتي بهذه الصلاة الكاملة؟! الكاملة التي يخشع فيها خشوعًا كاملًا؟!
واستدلوا لذلك بقول النبي : لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كُلَّ يومٍ خمسَ مرات، هل يبقى من دَرَنِه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: فكذلك الصلوات الخمس؛ يُكفِّر الله بهن الخطايا[12].
وإن كان قد ورد في ذلك في الحديث الآخر شرطُ اجتناب الكبائر، لكن بعض أهل العلم يقول: إن شرط اجتناب الكبائر في الصلاة غير الكاملة، وهو حالُ صلاةِ أكثر الناس، لكن الصلاة الكاملة التي يخشع فيها الإنسان خشوعًا كاملًا؛ هذه تقع موقعًا عظيمًا عند الله ، وليس ببعيد أنها تُكفِّر جميع الذنوب.
هذا -أيها الأخوة- يدل على عظيم شأن الأعمال القلبية، وإذا قلنا "الأعمال القلبية" فنعني بها: هذه الأعمال التي تقوم بالقلوب؛ من الإخلاص، ومن التعظيم لله سبحانه، ومن اليقين، ومن التوكل، ومن المحبة، ومن الخوف، ومن الرجاء، ومن الصبر؛ هذه هي أعمال القلوب، وهذه ينبغي -أيها الأخوة- أن يُعنى بها المسلم عنايةً كبيرةً، فإنك تجد كثيرًا من الناس لهم عنايةٌ بصورةِ العبادة، تجده مِن أحرص الناس على الصلاة، وربما عنده حرصٌ على الصيام وعلى الصدقة وعلى أعمال كثيرة من الخير، ولكن عنايته بأعمال القلوب قليلة، وربما تجد غيره أقل منه عملًا، لكن له عنايةٌ بأعمال القلوب، وهو يفوق الأول بكثير.
وإن أردتم البرهان على هذا فاسمعوا لهذه القصة التي وقعت في عهد النبي ، قصة عجيبة، هذه القصة من جهة الإسناد صحيحة، أخرجها الإمام أحمد في "مسنده" بسندٍ على شرط الشيخين: عن أنسٍ رضي الله عنه: أن النبي كان يومًا جالسًا مع أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام: يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة، فتشوَّف الصحابة : مَن هذا الرجل؟ وما أوصافه؟ وماذا يكون؟ قال أنس : فطلع رجلٌ من الأنصار قد علَّق نعليه بيده الشمال، تَنطِفُ لحيته من الوضوء، فلما كان من الغد قال النبي : يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة، فخرج ذلك الرجل على ذلك الوصف، فلما كان من الغد -اليوم الثالث- قال النبي : يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة، فخرج ذلك الرجل على ذلك الوصف، وكان الصحابة عندهم حرصٌ عظيمٌ على الخير، وكان من أكثر الصحابة حرصًا على الخير عبدالله بن عمرو بن العاص ، الذي كان قد همَّ أن يصوم النهار ويقوم الليل، لكن النبي أرشده قال: إن لنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا[13]، وأرشده النبي عليه الصلاة والسلام في القصة المشهورة.
عبدالله بن عمرو بن العاص أراد أن يتفرَّغ ثلاثة أيام لمراقبة هذا الرجل ومعرفة ما الذي بلغ به ما قال رسول الله ، فتفرَّغ الآن ثلاثة أيام، يعني: همَّ بأن يتفرغ ثلاثة أيام للمراقبة لهذا الرجل، فأتى إلى هذا الرجل وتأوَّل وقال له: إنه قد كان بيني وبين أبي ملاحاة، فأقسمت ألا أبيت عنده ثلاث ليال، فإن شئت أن تُؤيني أبيت عندك. فقال: نعم.
فبات عبدالله عنده، وتأمل كيف أن عبدالله بن عمرو تفرَّغ الآن لمراقبة هذا الرجل، ما الذي بلغ به هذه المنزلة؟ قال عبد الله بن عمرو : فلم أره يعمل كثير عمل، ولم أره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا استيقظ ذكر الله حتى يُصبح، فلما مرت ثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، إنه لم يكن بيني وبين أبي ملاحاة، ولكن قال النبي فيك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة، فأردت أن أعرف ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ، فقال: هو ما رأيت. فلما وَلَّيْتُ دعاني، وقال: هو ما رأيت، غير أني لا أجد في صدري لأحدٍ من المسلمين غِشًّا ولا حسدًا على خيرٍ أعطاه الله إياه. فقال عبدالله: هذه هي التي بلغت بك ما قال رسول الله، وهي التي لا نُطيق[14].
"لا أجد في صدري غشًّا ولا حسدًا لأحد من المسلمين على خير أعطاه الله إياه"؛ يعني: أنه يبيت كل ليلة سليم الصدر على جميع إخوانه المسلمين. انظر كيف ارتقى به هذا العمل القلبي! ارتقى به هذه المنزلة العالية! هذه المنزلة الرفيعة! سلامة القلب، سلامة الصدر هذه عملٌ قلبيٌّ، لكن هذا العمل القلبي رفع صاحبه درجات، هذا الرجل حتى لا يقوم من الليل شيئًا، مع أن قيام الليل فيه فضلٌ عظيمٌ وثوابٌ جزيلٌ، وهو دأبُ الصالحين، لكن مع ذلك انظر كيف أن هذا العمل القلبي رفع صاحبه درجات عند الله ! وبلَّغ هذا الرجل هذه المنزلة العالية! وعبدالله بن عمرو بن العاص يقول: كدت أحتقر عمله. تفرَّغ عبدالله لمراقبته ثلاثة أيام، لم يره يعمل كثير عمل، لكن عنده عنايةٌ بأعمال القلوب.
فانظر كيف أن أعمال القلوب ترفع صاحبها عند الله درجات؛ ولهذا قال عبدالله: هذه هي التي بلغت بك ما قال رسول الله. عبدالله فقيهٌ عرف أن هذه منزلة عالية ترفع صاحبها درجات، هذه هي التي بلغت بك ما قال رسول الله ، قال: وهي التي لا نطيق. لأن أمرها عظيم، ولا يُوفَّق لها إلا القلة من الناس.
فهذا -أيها الأخوة- يُؤكِّد عظيم منزلة أعمال القلوب، وأنه ينبغي للمسلم أن يُعنى بها؛ فليست العبرة بكثرة العمل، ولكن العبرة بصلاح العمل، ومن صلاح العمل: أن يقوم بالقلب أعمالٌ ترفع صاحبها منزلة ودرجات عند ربه .
ولعلنا -حتى نوضح أعمال القلوب أكثر ونسعى لتحقيقها- أن نأخذ نماذج من أعمال القلوب، وإلا فالحديث عنها يطول، لكننا نقتصر على الحديث عن نماذج من هذه الأعمال القلبية، وكيف يسعى المسلم إلى تحقيقها؟
وأبدأ بعملٍ عظيمٍ من أعمال القلوب: وهو اليقين.
من أعظم أعمال القلوب: اليقين
اليقين -أيها الإخوة- هو من أعظم أعمال القلوب، يقول عنه ابن القيم: "اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمَّر العاملون". وإذا اجتمع الصبر مع اليقين حصل لصاحبهما الإمامة في الدين، كما قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
اليقين أيها الإخوة من صفات عباد الله الصالحين، اليقين من صفات الذين ينتفعون بالآيات والبراهين، وقد خصَّهم الله تعالى بالانتفاع بآياته، كما قال سبحانه: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات:20]، ووصف الله أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين، قال: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:4-5]، وأخبر عن أهل النار بأنهم لم يكونوا من أهل اليقين: وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32].
اليقين قرينٌ للتوكل، بل قد فُسِّر التوكل بقوة اليقين، والصواب: أن التوكل ثمرته ونتيجته، ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورًا وإشراقًا، وانتفى عنه كل ريب وكل شك، وكل سخط وكل هَمٍّ وكل غَمٍّ، وامتلأ هذا القلب محبةً لله ورضًا وخوفًا وخشية وشكرًا وتوكلًا وإنابة.
والناس -أيها الأخوة- يتفاوتون في اليقين تفاوتًا عظيمًا، أضرب لهذا مثلًا: كلنا جميعًا -نحن معشر الموجودين في المسجد، في هذا الجامع- كلنا نؤمن بالآخرة، ونؤمن بما جاء في النصوص؛ من الحشر والميزان ونشر الدواوين والصراط والجنة والنار، كل ما جاء في النصوص جميعًا نؤمن به، ولكننا نتفاوت في اليقين تفاوتًا عظيمًا؛ فمِن أهل التقوى والصلاح مَن هو مُوقِنٌ بهذه الأمور كأنه يراها رأي العين، بل بعض أهل التقوى والصلاح موقنٌ بها أعظم مما لو رآها؛ لأنه يقول: إن الرؤية ربما يصحبها وهمٌ، لكن ما أخبر الله به وما أخبر به رسوله ليس فيه وهمٌ قطعًا، فتجد أنه موقنٌ به أعظم مما لو رآه.
إذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة من قوة اليقين، لا شك أنها سوف تُثمر ثمراتٍ عظيمة من المحبة والخشية والرجاء والخوف والتوكل والصدق وتعظيم الله ، إنسانٌ كأنه يرى الجنة والنار رأيَ العين، أو أنه أعظم ممن يراها. لكن، هذه المرتبة مرتبة عالية لا يُوفَّق لها إلا القلة من الناس، ومن الناس من هو دون ذلك، والناس في هذا درجات.
ورُوي أن بعض السلف كان إذا أراد أن يقوم إلى الصلاة اصفر وجهه، فسُئل، قال: أتدرون بين يدي من أقف؟ أقف بين يدي رب العالمين. يستحضر عظمة هذا المقام، أنه سوف يقف الآن بين يدي رب العالمين، بين يدي ملك الملوك.
قوة اليقين -أيها الاخوة- لها أثرٌ على الإنسان في سيره إلى الله ؛ ولهذا تجد أن لها أثرًا في الخشوع في الصلاة، فالذي قد امتلأ قلبه يقينًا لا بد أن يخشع في صلاته.
اليقين -أيها الأخوة- هذا العمل القلبي هذا العمل العظيم من أعمال القلوب، ذكر العلماء أن له ثلاث درجات:
- الدرجة الأولى: علم اليقين.
- والدرجة الثانية: عين اليقين.
- والدرجة الثالثة: حق اليقين.
فعلم اليقين: هو ما علمه بالسماع والخبر والقياس.
عين اليقين: هو ما شاهده وعاينه بالبصر.
حق اليقين: هو ما باشره ووجده وذاقه.
ويُمثِّل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لهذا بمثال، يقول: لو أخبرك رجلٌ بأن هناك عسلًا، ووثقت في خبره؛ فهذا علم اليقين، وإذا رأيت هذا العسل وشاهدته؛ هذا عين اليقين، فإذا ذُقت هذا العسل؛ هذا حق اليقين.
وإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام سأل الله أن يُريَه كيف يُحيي الموتى، قال بعض أهل العلم: أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، كيف؟ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260].
إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لما سأل الله أن يُريه كيف يُحيي الموتى، أمره الله تعالى بأن يأخذ أربعةً من الطير، ولا يهمنا معرفة أنواع هذا الطير، وإن كان بعض المفسرين خاضوا في ذلك.
أخذ أربعة من الطير وذبحهن وقطعهن ونتف ريشهن ومزقهن، وخلط بعضهن ببعض، وخلط اللحم مع اللحم، والعظام مع العظام، خلط هذه الطيور الأربع بعضها مع بعض، ثم عمد إلى جبال، قيل: أربعة وقيل سبعة جبال، فجعل على كل جبل منهن جزءًا، قال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده ثم أمره الله تعالى أن يدعوهن، يدعو هذه الطيور الأربعة. طيور ذبحها، وخلط لحم بعضها ببعض، وفرَّقها على سبعةِ جبالٍ ورؤوسُها بيده.
ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا فلما دعاهن وجعل ينظر رأى عجبًا، رأى العجب العجاب، رأى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها ببعض، حتى قام كل طائر وأتينه يمشين سعيًا بقدرة العزيز الحكيم؛ ليكون ذلك أبلغ في الرؤية، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم، فإذا قدم له رأسه تركَّب، وإذا قدم له غير رأسه يأباه. انظر إلى هذه القدرة العظيمة الباهرة، ولهذا قال: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260]؛ رأى العجب.
إبراهيم عليه الصلاة والسلام أراد بهذا أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، فرأى كيف يُحيي الله الموتى وازداد يقينًا؛ لهذا قال الله تعالى: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، عَزِيزٌ لا يغلبه شيءٌ ولا يمتنع منه شيءٌ، وما شاء كان بلا ممانع؛ لأنه العظيم القاهر لكُلِّ شيءٍ. حَكِيمٌ في أفعاله وشرعه وقدره.
ولهذا جاء في الصحيحين أن النبي قال: نحن أحقُّ بالشك من إبراهيم إِذْ قَالَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[15]. هذا قاله النبي على سبيل التواضع، والمعنى: أنه لو كان إبراهيم سيشك فنحن أولى بالشك؛ لكون إبراهيم أرفع مقامًا، فإذا لم نَشُكَّ نحن فإبراهيم أولى بألا يشك. وهذا -كما قلت- قاله عليه الصلاة والسلام على سبيل التواضع، وإلا فنبينا محمد عليه الصلاة والسلام هو أفضل الأنبياء والرسل.
إذًا؛ هذه أراد بها إبراهيم أن ينتقل من درجة إلى درجة، من علم اليقين إلى عين اليقين.
وعلى مقدار قوة اليقين لدى الإنسان يكون سيره إلى الله ، فإذا ضعف اليقين عنده عظمت الغفلة واللهو؛ ولهذا تجد أن كثيرًا من الناس غافلون لاهون عن الدار الآخرة، ليس لأنهم لا يؤمنون بها، ولكن لضعف اليقين، وإلا لو كان عندهم قوة يقين لكان لهذا أثرٌ في سيرهم إلى الله وفي إقبالهم على الدار الآخرة؛ ولذلك قال سبحانه: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر:1-6]؛ أي: لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علمًا يقينيًّا لانشغلتم عن التكاثر وعن التفاخر، ولبادرتم إلى الأعمال الصالحة.
فجواب قوله لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ جوابٌ محذوفٌ، أي: لو علمتم لَمَا ألهاكم، لو تعلمون علم اليقين وأنتم في الدنيا؛ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ بعيون قلوبكم، وهو أن تتصوروا أمر القيامة وأهوالها.
فدل ذلك على أن علم اليقين له أثرٌ في كون الإنسان لا يلهو بالتكاثر؛ التكاثر في الأموال والأولاد وفي كُلِّ ما صَدَّ عن طاعة الله ، فتأمل كيف أن الله صدَّر هذه السورة بقوله: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ثم قال: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ؛ أي: لَمَا ألهاكم التكاثر.
من أعمال القلوب: المحبة
وننتقل بعد ذلك إلى عمل آخر من أعمال القلوب وهو المحبة، المحبة لله من أعظم أعمال القلوب.
ومحلُّ المحبةِ القلبُ، وهي كالرأسِ بالنسبةِ للطائرِ، والخوفُ والرجاء كالجناحين، فإذا لم توجد المحبة؛ يعني: كالطائر إذا قُطع رأسه كيف يسير إلى ربه ؟ كيف يسير العبد إلى ربه سبحانه؟ والناس يتفاوتون في هذه المحبة تفاوتًا عظيمًا.
ومن أبرز علامات صدق المحبة لله هي اتباع النبي : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، فكلٌّ يدَّعي أنه يحب الله ، ولكن المحك والبرهان هو اتباع النبي ، هو الدليل على صدق المحبة لله سبحانه.
ومن أعظم الأسباب التي تُقوِّي المحبة -كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله- أولًا: كثرة ذكر الله سبحانه، كثرة الذكر من أعظم أسباب تقوية المحبة، والعبد إذا أكثر من ذكر الله سبحانه قويت محبة الله في قلبه ورقَّ قلبه، وكان لهذا أثرٌ في سيره إلى الله .
جاء رجلٌ إلى الحسن البصري، فقال: يا أبا سعيد، إني أجد في قلبي قسوة. يعني: يشتكي للحسن، يرى الناس يخشعون ويتأثرون ويبكون، لكن هو يجد قسوة في قلبه، فقال الحسن: أَذِبْ قسوة قلبك بكثرة ذكر الله، فما أُذِيبت قسوةُ القلوب بمثل ذكر الله .
ينبغي أن يحرص المسلم على الإكثار من ذكر الله سبحانه؛ في قيامه وقعوده وعلى جنبه: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191].
الفتور من طبيعة النفس، النفس لها إقبالٌ وإدبارٌ، لا تكون النفس على طبيعةٍ واحدةٍ، والإيمان يزيد وينقص. ولهذا؛ حنظلة الصحابي الجليل وجد شيئًا من نفسه في هذا، ثم ذهب إلى أبي بكر قال: نافق حنظلة، قال: وما ذاك؟ قال: إذا كنا عند رسول الله يُحدِّثنا عن الآخرة والجنة والنار، كأنا نراها رأي العين، فإذا خرجنا إلى الضيعات وعافسنا الأزواج نسينا. فقال أبو بكر : وأنا أجد هذا. فذهبا للنبي واشتَكَيَا له، فقال عليه الصلاة والسلام: لو تكونون كما كنتم عندي، لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة[16].
هذا يدل على أن النفس لها إقبالٌ وإدبارٌ، جاء عند الترمذي بسند صحيح أن النبي قال: إن لكل عمل شِرَّةً يعني: نشاطًا ولكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرةٌ يعقب هذا النشاطَ فتورٌ؛ فمن كانت فترته إلى سُنة فقد هُدِي[17].
النفس ما يمكن أن تكون على طبيعة واحدة على نشاط مستمر، إلا إذا كان الإنسان مرائيًا؛ ولهذا جاء في بعض روايات هذا الحديث: وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه[18]. لكن الإنسان المخلص لا بد أن يعتري نفسَه إقبالٌ وإدبارٌ، مرحلة الفتور هذه مرحلةٌ خطيرةٌ جدًّا، وأكثر ما تكون انتكاسات بعض من استقام في هذه المرحلة، مرحلة الفتور التي تعقُب الشِّرَّة (النشاط)، فهذه من أخطر ما يكون.
ولهذا؛ الإنسان ينبغي أن يكون طبيب نفسه؛ إذا أتاه هذا الفتور يحرص أن يحافظ على الفرائض ويفعل ما تيسر من النوافل، إذا أتته مرحلة النشاط والإقبال (إقبال النفس) فيحرص على الإكثار من النوافل بعد الفرائض.
الأسئلة
السؤال: الكتاب الذي يتكلم عن أمراض القلوب؟
الجواب: عمومًا بالنسبة لأمراض القلوب وأدوائها ودوائها، أحسن من تكلَّم عنها إمامان كبيران، وهما: شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، رحمهما الله تعالى.
هذان الإمامان من نعمة الله على هذه الأمة، نفع الله تعالى بهما نفعًا عظيمًا، وتكلَّما عن هذه المسائل، وجُلُّ ما قلته في هذه المحاضرة من كلامهما رحمهما الله تعالى، خاصة ابن القيم رحمه الله اعتنى كثيرًا بمسائل أحوال القلوب وأعمال القلوب وأمراض القلوب؛ فأنصح بقراءة كتب هذين الإمامين.
السؤال: هذا يقول: قد كنت مسرفًا على نفسي في المعاصي، أما الآن فقد صلحت كثير من حالي، إلا أن قلبي لا يزال مريضًا يُحب النساء، حتى إنني أحفظ وأكتشف أنني قد تعلَّقت بامرأة متبرجة، إلى آخره.
الجواب: هذا -كما ذكرنا في المحاضرة- نوعٌ من مرض القلوب، هذا الإنسان ما زال عنده مرضٌ في القلب، مرض الشهوة، هذا ذكره الله تعالى في سورة الأحزاب في قوله فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32].
هذا مرضٌ، تجد بعض الشباب الذين يُعاكسون النساء، ما السبب؟ ليس قوة شهوة، لا، مرضٌ في قلبه، مريض، إنسان مريض، وبعض النساء كذلك.
وذكرنا: أن القلوب لها أمراضٌ متنوعة، فهذا الأخ عنده مرضٌ فيما يتعلق بمرض الشهوة، وهو المذكور في سورة الأحزاب؛ فعليه أن يسعى لعلاج هذا المرض بـ:
أولًا: الدعاء باللجوء إلى الله سبحانه في أن يشفيه من هذا المرض.
ثانيًا: بفعل الأسباب، وذلك بتدبر القرآن، وكثرة ذكر الله ، والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وغض البصر، وهو بإذن الله تعالى إذا صدق مع الله سبحانه فإن الله يشفيه من هذا المرض.
وهكذا ما قلنا في الأمراض الأخرى؛ فبعض الناس عندهم مرضٌ فيما يتعلَّق بالشبهات، بعض الناس عندهم أمراضٌ فيما يتعلق بجمع المال، بعض الناس عندهم أمراضٌ فما يتعلَّق بحسد الآخرين. هذه أمراض النفوس.
السؤال: إني لأعمل أعمالًا لا أجد فيها لذة البتة؛ لا الواجبات ولا المندوبات؟
الجواب: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إذا لم تجد للعمل لذَّةً، فاتهم نفسك، يعني: العمل الصالح في الغالب أنه يقترنُ به شيءٌ من اللذة وانشراح الصدر، ليس معنى هذا أنه غير مقبول، قد يكون مقبولًا، لكن -كما ذكرنا- القبول درجات.
وإذا أراد الإنسان أن يجد هذه اللذة فليجتهد ببذل الأسباب؛ مثلًا: إذا أراد أن يجد لذَّةً في صلاته:
- أولًا: يأتي للمسجد مبكرًا.
- ثانيًا: يحرص على الخشوع في الصلاة وبذل الأسباب.
- ثالثًا: يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، كلما عرضت له وساوس يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، كما أرشد النبي عليه الصلاة والسلام عثمان بن أبي العاص لما أتى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد لَبَّس عليَّ صلاتي حتى لا أدري ما أقول. فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك شيطانٌ يقال له: خِنْزِب، فإذا وجدت ذلك فاتفل عن يسارك ثلاثًا، واستعذ بالله قال عثمان ففعلت ذلك فأذهبه الله عني[19].
فكلما وجدت وسوسة من الشيطان استعذ بالله من الشيطان الرجيم، ولو كنت في الصلاة، ولو كنت في القيام، أو في الركوع، أو في السجود؛ فإن الله تعالى يُذهِب عنك وساوس الشيطان، وإذا اجتهد المسلم فإن الله لن يُخيِّب رجاءه ولن يُخيِّب ظنه.
وأيضًا الدعاء مقامه عظيم، يدعو الله سبحانه في أن يشرح صدره وأن يُوفِّقه وأن يتقبل منه.
طيب، بعض الأسئلة تكررت.
السؤال: قال: أحد الزملاء كان من الملتزمين، وذهب إلى دورة للخارج، وعندما عاد إذا هو حالقٌ لحيته ومُسبِلٌ لثوبه، كيف أتعامل معه؟
الجواب: ينبغي -أيها الإخوة- حين يتعامل الإنسان مع الآخرين أن ينظر لهم بمنظار الرحمة، أن هذا الإنسان لم يُوفَّق، كان مستقيمًا لكنه لم يُوفَّق في الاستمرار في هذا الطريق، فيُنظر له بمنظار الرحمة والشفقة، ويُبادر أيضًا إلى مناصحته، يخلو به، يقول: يا فلان، أريدك في موضوع، ويذهب ويتكلم معه، لعل الله تعالى أن يهديه، أو على الأقل هو يقوم بالواجب الذي عليه.
لكن، مجرد أن الإنسان يتأسَّف أو يتأسَّى هذا لا يُفيد شيئًا؛ لا بد أن يقوم بعملٍ إيجابيٍّ، يذهب إليه ويُناصحه ويتكلَّم معه ويعرف ما هي الأسباب ويبقى أخاه في الله، خاصةً من استقام ثم انحرف، فهو في الحقيقة قريبٌ من الرجوع للخير؛ لأنه قد عرف طريق الخير لكن أتى ما يحرفه عن هذا الطريق؛ ولذلك فإن رجوعه قريب.
فأنصح الأخ أن يذهب إليه ويخلو معه ويُذكِّره بالله ويُناصحه.
السؤال: هل يجوز ترك السنن بسبب الخوف من الرياء؟
الجواب: ذكرنا هذا، وقلنا: إن العمل لأجل الناس رياء، وترك العمل لأجل الناس رياء.
السؤال: قال: في حديث السبعة الذين يُظلُّهم الله: شابٌّ نشأ في طاعة الله[20]، هل الشاب بدأ بفعل الطاعات من بلوغه أم من سِنِّ التمييز؟
قبل البلوغ الإنسان لا يُؤاخذ، مرفوعٌ عنه القلم: رُفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: عن الصبي حتى يبلغ[21]، لكنه من رحمة الله أنه من حين التمييز يُثاب على الطاعات إلا الحج، فيُثاب عليه ولو قبل التمييز، هذا من رحمة الله ، لكن بالنسبة للمعاصي لا يُؤاخذ بها إلا إذا بلغ. فالظاهر هنا: أنه من حين بلوغه نشأ في طاعة الله وفي عبادة الله سبحانه.
السؤال: قال: دائمًا أعتقد أن من أراد أن يتصل مع الله وأن يُقيم في قلبه أعمال القلوب عليه اعتزال الناس؟
الشيخ: يقول النبي : الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم[22]، بإمكان الإنسان أن يُخالط الناس، وفي الوقت نفسه يُحصِّل هذه الأمور التي ذكرنا من أعمال القلوب، النبي عليه الصلاة والسلام بل الأنبياء والرسل كلهم خالطوا أقوامهم، وهم أعظم الناس قدرًا عند الله .
السؤال: قال: أنا رجل سبق أن أخذت حجتين لشخصين في عامين، وأنا الآن نادمٌ وتأخذني الوساوس أني لم أؤدِّ الحج على الوجه المطلوب.
الجواب: إذا كنت قد أتيت الحج بأركانه وواجباته فقد برئت ذِمَّتك، وهذه الوساوس من الشيطان.
يا إخوان، الشيطان يحرص على إحزان المسلم، إدخال الحزن لدى المسلم، كما قال الله : إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:10]؛ لماذا؟ لأن الإنسان إذا بقي حزينًا لا ينشط في العبادة، يُصيبه فتورٌ وهمٌّ وغمٌّ وقلقٌ وتكدُّرٌ، ما يمكن أن تجد إنسانًا حزينًا ومع ذلك يخشع في صلاته.
فالشيطان حريص على إدخال الحزن على العبد، والشيطان عنده خبثٌ ومكرٌ، يعرف مواطن الضعف عند الإنسان، فإذا وجد أن هذا الإنسان عنده اشتغالٌ بالوساوس بدأ يدخل عليه.
أما مثل هذا الذي ذكره الأخ، هذا من تسع سنوات، وأتت مثل هذه الوساوس! وبعض الناس يأتيهم الشيطان عن طريق وساوس في الطهارة، وبعضهم وساوس في الطلاق، وبعضهم يُوقع عليه الشُّبَه. الشيطان عنده خبثٌ ومكرٌ؛ ولذلك أمر الله بالحذر منه، قال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6].
فأقول للأخ السائل: هذا الذي تجده من الوساوس هذا من الشيطان الرجيم؛ لإدخال الحزن عليك وتثبيطك عن الطاعة.
السؤال: ما حكم ارتداء المرأة الملابس الضيقة؟ وارتداء الملابس المخصصة في مجتمع النساء كحفلات الزواج والزيارات؟
الجواب: يا إخوان، ملابس النساء في الوقت الحاضر حقيقة وضعها يدعو للأسف، خاصة في المناسبات يُذكر العجب العجاب عن بعض النساء اللاتي يلبسن لباسًا فاضحًا، لباسًا لا يستر، لباسًا فيه تبرُّجٌ وسفورٌ وفيه جرأةٌ على إظهار هذه المواطن من الجسم. وهذا لا يليق بالمرأة؛ المطلوب منها العفة والستر والاحتشام.
والجميع يعلم بما تنقله له نساء البيت من قريباته أو زوجته، التوسع الكبير الحاصل في أوساط النساء في اللباس.
لكن لنا -أيها الأخوة- أن نتساءل، نطرح سؤالًا: هؤلاء النسوة أليس لهم أولياءٌ من أزواجٍ ومن آباءٍ؟ إن كانوا لا يعلمون بالواقع فهي مصيبة، وإن كانوا يعلمون ويُقِرُّون على هذا فالمصيبة أعظم.
لهذا؛ في الحقيقة المشكلة تأتي أولًا من الرجال، من الضعف من الرجال: كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته[23]، لا بد أن يكون الإنسان حريصًا على ملاحظة نسائه، وملاحظة لباسهن، والأخذ على يد المرأة التي تلبس لباسًا غير محتشم.
أيها الإخوة في الحقيقة هذا التوسع من النساء، سواءٌ في قصور أفراحٍ أو في غيره، حتى في الأسواق مثلًا، هؤلاء النسوة اللاتي يتبرَّجن في الأسواق، أين أولياء أمورهن؟ هذا هو السؤال، أين أولياء أمورهن؟
لهن آباءٌ، وربما يكون آباءٌ أو أزواجٌ مِن أتقى عباد الله، لكن ضعفٌ وعدم تحمل مسؤولية، وهؤلاء الرجال مسؤولون أمام الله ، مسؤولون عن هؤلاء النسوة؛ فليتقوا الله فيهن.
السؤال: أنا كثير الوسوسة في الصلاة، فأستعيذ وأنفُث عن شمالي، لكن أعود للوسوسة؟
الجواب: كلما وردت إليك الوسوسة استعذ بالله؛ لهذا قال عثمان : فلما فعلتُه أذهبه الله عني[24].
فأنت كُنْ في جهاد مع هذا الشيطان الرجيم، الشيطان عدو للإنسان، عدو يريد أن يُضِلَّه، يريد أن يحزنه، يريد للإنسان الشر والهلاك؛ ولذلك كُنْ في جهادٍ ومجاهدة مع هذا العدو الرجيم.
السؤال: كيف يكون الأبرار في نعيم في الدنيا والآخرة، وقد قال الله تعالى: يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ [الانفطار:15]؟
الجواب: نعم، لا شك أن الجحيم والعذاب الشديد يكون في الآخرة في نار جهنم، لكن هذا نوعٌ من النعيم بالنسبة للمتقين، ونوعٌ من الجحيم بالنسبة للكافرين: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13].
يقول ابن القيم رحمه الله: ذكر أن هذا النعيم يناله الأبرار حتى في الدنيا، بما يجدونه من الطمأنينة وانشراح الصدر ولذة القلب والبهجة التي يجدونها في قلوبهم، فهذا يكون نوعًا من النعيم، لكن النعيم الكامل لا شك أنه في الآخرة في الجنة.
هكذا أيضًا بالنسبة للجحيم، يجد العاصي وحشة في قلبه وضيقًا وحسرة وقلقًا، ولا شك أن العذاب الشديد إنما يكون في الآخرة؛ ولهذا قال: يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ.
السؤال: هذا يسأل عن موجة الغبار، هل هي من عذاب الله ؟
الجواب: يا إخوان، هل هو من عذاب الله أو ليس من عذاب الله؟ هذه أمورٌ غيبية ليس للإنسان أن يجزم فيها بأن هذا الغبار عقوبةٌ وأنه من عذاب الله؛ هذه أمورٌ غيبية، هل اطلعت الغيب؟ أنت لا تدري، الله تعالى أعلم، قدَّرها الله تعالى، ربما تكون عقوبة، ربما تكون عذابًا، ربما تكون لغير ذلك.
ولذلك؛ لا يجزم الإنسان في هذه الأشياء، لا يجزم فيها، إذا أتى مثلا بـ"قد": قد تكون مثلًا كذا؛ فهذا يكون أخف. لكن ما نسمع من بعض الناس من الجزم في هذا هذا يا إخوان فيه جرأةٌ؛ هذه أمورٌ متعلقة بأفعال الله ، الله تعالى هو الذي قدر هذه الأشياء بحكمته، الله تعالى أعلم بها.
لكن، نحن نعلم بأن المصائب التي تقع على العباد بسبب الذنوب؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ويقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96]، لكن لا يجزم بشيءٍ في هذا.
السؤال: ما شروط قصر الصلاة والجمع؟ وما هي المسافة التي يُقصر فيها؟
الجواب: المسافة التي يُقصر فيها، أصح ما قيل فيها: أربعة بُرُد، مسيرة يوم وليلة، وهو ما يُعبِّر عنه الفقهاء "مسيرة يومين قاصدين"، وهي الواردة عن ابن عباس وابن عمر أنها أربعة بُرُد، وتُعادل تقريبًا ثمانين كيلو مترًا، المذكورة في قول النبي عليه الصلاة والسلام: لا يحل لامرأة أن تُسافر مسيرة يومٍ وليلة إلا معها ذو محرم[25]، قالوا: لو كان هناك مسافةٌ للسفر أقلَّ من هذا لذكرها النبي ؛ فدل ذلك على أن هذه أقل مدةٍ، أو أقل مسافةٍ للسفر، ومسيرة اليوم والليلة يعني بالإبل، سير الإبل، تُعادل تقريبًا 80 كم.
لكن كيف تُحسب الثمانين؟
من مفارقة العمران؛ ولذلك لا يعتمد على اللوحات التي على الشوارع، لماذا؟ لأن اللوحات التي على الشوارع تحسب لك المسافة من وسط المدينة، وإنما الحساب الصحيح أن تحسبها من مفارقة العمران؛ فلذلك يُحسب هذا الفارق، فإذا كانت المسافة ثمانين كيلو فأكثر فهذه هي مسافة السفر.
ويجوز الترخُّص برخص السفر للإنسان ما دام ضاربًا في الأرض، يعني: في الطريق، وهكذا إذا قام في حدود أربعة أيامٍ فله الترخُّص برخص السفر في قول جماهير العلماء.
السؤال: هل الكذب يجوز في مثل القصة التي حصلت لعبدالله بن عمرو؛ لأنه لم يحصل بينه وبين أبيه ملاحاة، وإنما تأوَّل؟
الجواب: هذا من التأويل، والتأويل يجوز إذا ترتب عليه مصلحة أو وُجد له حاجة؛ ولهذا قال بعضهم: عجبت لمن عرف التأويل كيف يكذب؟!
لكن لا يتوسَّع الإنسان فيه كثيرًا، فعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لا شك أن المصلحة راجحة في هذا التأوُّل، وأن يعرف ما الذي بلغ بهذا الرجل ما قال رسول الله ، فهو إنما اجتهد وأتى بهذا التأول لأجل معرفة المنزلة التي نال بسببها هذا الرجل ما قاله رسول الله ، ما هو العمل الذي يفعله هذا الرجل حتى نال هذه المنزلة.
فهذا التأوُّل لأجل تحصيل هذه المصلحة سائغٌ؛ ولهذا أقرَّه النبي على هذا. وهكذا التأوُّل الذي يكون لحاجة أو لنحو ذلك لا بأس به، لكن لا يتوسع الإنسان في هذا؛ حتى لا يُتهَّم بالكذب.
السؤال: لعلنا نختم، ما حكم تصوير ذوات الأرواح في الجوال والاحتفاظ بها للذكرى؟
الجواب: الصور الفوتوغرافية هي تسمى صورًا، لكنها في الحقيقة لا تنطبق عليها عِلَّة التصوير، يعني: لماذا نهى الشارع عن التصوير؟ لماذا نهى؟ ما هي العلة؟
العلة جاءت منصوصًا عليها في قول النبي : يُضاهئون خلق الله[26]، مضاهاةً لخلق الله. وفي قوله: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي[27].
وهذا يدل على أن العلة في النهي عن التصوير هي المضاهاة لخلق الله ، ويكون ذلك في الصور المنحوتة والمرسومة، هذه لا شك أنها تتحقق فيها علة التصوير.
أما الصور الفوتوغرافية فهذه لا تتحقق فيها علة المضاهاة؛ ولذلك الناس عندنا هنا في المملكة قديمًا ما كانوا يسمونها صورًا، يسمونها عكوسًا، وهذه هي التسمية الحقيقية لها: أنها عكسٌ ليست صورة. ولهذا؛ فالصور الفوتوغرافية أرى أنه لا بأس بها، سواء كانت في الجوال أو في غيره، لكن اتخاذها للذكرى هنا قد يُؤدِّي إلى مفسدةٍ: وهي التعظيم، خاصةً إذا كان هذا الإنسان معظَّمًا أو كان ميتًا أو نحو ذلك، وهذه مفسدةٌ؛ ولذلك أرى أنه لا ينبغي اتخاذها للذكرى لأجل هذه المعاني.
وأول ما وقع الشرك في قوم نوح كان لأجل هذا، كان هناك ناسٌ صالحون فماتوا، فحزنوا عليهم فاتخذوا نُصُبًا حتى إذا رأوهم نشطوا في العبادة، ثم بعد ذلك انقرض هذا الجيل وأتى الجيل الذي بعده فقالوا: إنهم ما اتخذوا هذه النُّصُب إلا لعبادتها من دون الله . فوقع الشرك في بني آدم.
ولذلك؛ أرى أنه لا ينبغي الاحتفاظ بهذه الصور من باب سد الذريعة، لكن لغير ذلك إذا لم تكن صور نساءٍ ولم تكن صورًا محرمة؛ فالذي يظهر أن هذا لا بأس به.
ونكتفي بهذا القدر. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
^1, ^8 | رواه مسلم: 2564. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 52، ومسلم: 1599. |
^3 | رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907. |
^4 | رواه البخاري: 6628. |
^5 | رواه أحمد: 12107، والترمذي: 2140. |
^6 | رواه مسلم: 2654. |
^7 | رواه مسلم: 2557. |
^9 | رواه البخاري: 3467، ومسلم: 2245. |
^10 | رواه البخاري: 2472، ومسلم: 1914. |
^11 | رواه البخاري: 6478، ومسلم: 2988. |
^12 | رواه البخاري: 528، ومسلم: 667. |
^13 | رواه البخاري: 6139، ومسلم: 1159. |
^14 | رواه أحمد: 12697. |
^15 | رواه البخاري: 4537، ومسلم: 151. |
^16 | رواه مسلم: 2750. |
^17 | رواه أحمد: 6958. |
^18 | رواه الترمذي: 2453. |
^19 | رواه مسلم: 2203. |
^20 | رواه البخاري: 6806، ومسلم: 1031. |
^21 | رواه أحمد: 940، وأبو داود: 4399. |
^22 | رواه أحمد: 5022، وابن ماجه: 4032. |
^23 | رواه البخاري: 2409، ومسلم: 1829. |
^24 | سبق تخريجه. |
^25 | رواه البخاري: 1088، ومسلم: 1339. |
^26 | رواه البخاري: 5954، ومسلم: 2107. |
^27 | رواه البخاري: 7559، ومسلم: 2111. |