عناصر المادة
الحمد للّه رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سُنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأرحب بالإخوة جميعًا أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا للفقه في الدين، والعلم النافع، وأن يوفقنا لما يُحب ويرضى.
هذا اللقاء كما هو مُعنون لهُ “آداب طالب العلم”، وقبل أن أشير إلى أبرز هذه الآداب، نقول:
فضل العلم الشرعي
أيها الإخوة إن العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيتهُ كما قال الإمام أحمد لا يعدلهُ شيء، والعلم الذي وردت النصوص من الكتاب والسنة بالثناء عليه وعلى أهله إنما هو علم الشريعة، ولا يدخل في ذلك العلوم الدُنيوية، لا يدخل في ذلك علم الطب، ولا الهندسة، ولا الفيزياء، ولا الكيمياء، ولا سائر العلوم الدنيوية، وذلك لأن العلم الذي وردت النصوص بالثناء عليه إنما هو ميراث الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا العلوم الدنيوية إنما ورثوا علوم الشريعة، ولكن هذه العلوم الدنيوية قد يؤجر الإنسان عليها إذا صحت نيتهُ، نقصد بذلك نفع المسلمين، ونحو ذلك، ولذلك فإنهُ لا مُقارنة بين من يطلب العلم الشرعي وبين من يطلب العلوم الدنيوية، وتوجه الإنسان لطلب العلم الشرعي هذه علامة وأمارة على أنهُ أريد به الخير، والدليل لذلك ما جاء في الصحيحين عن معاوية أن النبي قال: من يرد الله بهِ خيرًا نُكمل الحديث: يُفقههُ في الدين [1].
تأملوا يا أخواني هذا الحديث العظيم: من يُرد الله بهِ خيرًا يُفقههُ في الدين، ومفهوم هذا الحديث: أن من لم يرد بهِ الخير لا يوفقه للفقه في الدين.
والإنسان مهما كان عليه من القوة في العبادة لا يستطيع أن يعبد الله كما يُحب الله إلا عن طريق العلم.
والكلام عن فضل العلم يطول، ومن أحسن من تكلم عن هذا ابن القيم رحمه الله في “مفتاح دار السعادة” عندما عقد المقارنة بين العلم والمال، وذكر أن العلم أفضل من المال من أكثر من مائة وخمسين وجهًا، أنصح بقراءة هذا الكتاب، وقراءة هذه الوجوه التي ذكرها، فقد أتى بالعجب العجاب، يعني حتى أنه من عجيب ما ذكر يقول: حتى الكلاب تشرُف بالعلم، واستدل بقول الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [المائدة:4]؛ فصيد الكلب المعلّم حلال بينما صيد الكلب غير المعلّم حرام، فإذا كان هذا بالكلاب فما بالك ببني آدم؟
ونحن الآن عندما نقرأ سيرة تراجم السابقين يعني هل نقرأ سير وتراجم التجار أرباب الأموال؟
حتى سير التراجم الأطباء قليلة والمهندسين وأصحاب العلوم الدُنيوية مقارنةً بعُلماء الشريعة، وهذا يُبين لكَ عظمة هذا العلم، ولهذا ولعلي أن اكتفي بهذا النص ببيان فضل العلم وأهله، وأنتقل إلى الآداب لأن الوقت قصير.
استشهد الله تعالى بأولي العلم على أعظم الشروط: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران:18].
فـأعظم مشهود هو التوحيد، ووحدانية الله هو الذي لأجله أُنزلت الكُتب، وأُرسلت الرسل، فذكر اللهُ تعالى ثلاث شهادات:
الشهادة الأولى: شهادة الله سبحانه، وهي شهادة الذات للذات، وهي أعظم شهادة: شهد الله أنهُ لا إله إلا هو، فـالإنسان العاقل عندما يرى هذا الكون الفسيح وشمسه وقمره ونجومه ونهاره، وأنه يسير بهذا الإتقان العجيب البديع لا بد له من خالق، لم يخلق هذا الكون نفسه، وأنت لم تخلق نفسك: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] طيب هذا الخالق بهذه القدرة العظيمة، وهذا الإبداع العجيب، لا بد أن يعبر عن نفسه، يقول أنا الخالق، هل هُناك أحد غير الله؟ قال أنا الخالق؟ ما في أحد.
طيب عندما ينزلُ ربُنا كتابه يقول: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [طه:14]، أو يقول: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2]، ولا يعترض أحد ما في أحد اعترض، وقال: أنا خالق، وأنا إله، هذا يقتضي أن الله تعالى هو الخالق، وأنهُ الله الذي لا إله إلا هو، وهذا يعني من معاني شهادة الذات للذات.
والملائكة: أيضًا شهدت بهذا أنهُ لا إله إلا الله .
وأولو العلم: أيضًا العلماء شهدوا بما يرونه من الأدلة العظيمة، والبراهين الكبيرة الدالة على وحدانية الله ، وقد ذكر العلماء أدلة عظيمة في هذا، وهي مما تقوي الإيمان، وإن كان المسلم عندهُ يقين لكن مما تزيدهُ الإيمان واليقين، ومن أفضل ما صنف في هذا كتاب “دلائل التوحيد” للقاسمي كتابُ قيم أنصح به وبقراءته يقوي مستوى الإيمان لدى المسلم، ويزيد أيضًا من اليقين.
استشهاد الله بأولي العلم، هذا يقتضي تعديلهم؛ لأنه لا يمكن أن يستشهد إلا بالعدول، فهذا تزكيه من الله ، وتعديل من الله لأولي العلم، وهذا من أعظم ما يكون من الثناء على أولي العلم.
آداب طالب العلم
وأنتقل بعد ذلك لآداب طالب العلم، والكلام عنها يطول لكنني يعني في هذا الوقت المخصص أختصر أقول: أبرز آداب طالب العلم:
إخلاص النية لله تعالى
إخلاص النية لله ، وهذا الشرط لا بد منه، وإلا تحول هذا العلم وبالًا على الإنسان يوم القيامة، والدليل لهذا ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة ذكر منهم: رجلًا تعلم العلم وعلمهُ الناس، وقرأ القرآن يؤتى بهِ فيعرفهُ نعمه فيعرفها، فيقول: ما عملت بها؟ فيقول: يا رب تعلمتُ فيك العلم، وعلمتهُ الناس، وقرأت فيك القرآن، فيُقال: كذبتَ، ولكنك تعلمتَ ليُقال: هو عالم، وقرأت القرآن ليُقال: هو قارئ، ثم أمر به فسُحب على وجهه. ثم ألقي في النار [2]، يعني هذا الإنسان لو أنه سلم من هذا العلم لكان خيرًا له، وعلمه هذا سبحان الله هو وبالٌ عليه، أصبح أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.
فإخلاص النية لا بد منه، وقيل للإمام أحمد: كيف يكون إخلاص النية بطلب العلم؟ قال: أن تنوي رفع الجهل عن نفسك، هذا هو إخلاص النية، تنوي رفع الجهل عن نفسك، ورفع الجهل عن غيرك، وألا تريد بهذا العلم رياءً ولا سمعة، ولا ليُقال: هو عالم، أو ليُقال: هو قارئ.
لكنني أطرحُ مسألةً فقهيةً، وهي مما الآن تعم بها البلوى التشريك في النية؛ التشريك بين إرادة وجه الله بهذا العلم الشرعي مثلًا، والشهادة مثلًا تدرس في كلية الشريعة تُريد تتقرب إلى الله بهذا العلم، لكن أيضًا تُريد الحصول على الشهادة، ومثل ذلك أيضًا من يعمل عملاً من الأعمال التي يشترط فيها إخلاص النية، ويُريد مع ذلك أمرًا دنيويًّا ليس رياءً، الرياء هذا يحبط العمل، لكن يريد أمرًا دنيويًّا؛ هذه المسألة يسميها العلماء: “التشريك في النية”، الصحيح أنها لا تؤثر، وأنهُ لا بأس بها، وهذا لهً أدلة كثيرة؛ منها: قول الله تعالى عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح:10] أمرهم بـالاستغفار وهو عبادة مطلوب فيها الإخلاص ذكر لهم المنافع الدنيوية، ومنها: يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:11-12].
ومنها أيضًا: ما جاء في الصحيحين أن النبي قال: من قتل قتيلًا لهُ عليه بينة فله سلبه [3]، هذا الذي الآن سيقتل قتيلًا ويبحث عن البينة يريد السلب، ويريد أيضًا بذلك الجهاد لوجه الله ، فـالصحيح أن هذا طبعًا، وإن كان المطلوب هو أن تكون الأفضل أن تكون النية كلها لله ، لكن التشريك لا يؤثر لا يحبط العمل، ويعني لا بأس به فمن أراد بـهذا طلب العلم في كلية الشريعة والتقرب إلى الله ، ورفع الجهل عن نفسه، ورفع الجهل عن غيره، وأراد أيضًا بذلك الحصول على الشهادة، هذا لا بأس به، ولا يؤثر في أرجح أقوال أهل العلم.
العمل بالعلم
أيضًا من آداب طالب العلم: العمل بما يعلم، وإلا العلم بلا عمل لا فائدة منه؛ لا بد أن يظهر أثر هذا العلم على طالب العلم في أول تعبده لله ، في أخلاقه، في سمته، في سلوكه، فتجد بعض طلاب العلم طالب علم وعنده علم غزير لكنه تفوته صلاة الفجر لو حسبت أيام الأسبوع أكثر أيام الأسبوع ما يصلي في المسجد، أو أنه يوم الجمعة ما يأتي إلا بعد دخول خطيب، أو نحو ذلك؛ إذن ما فائدة هذا العلم؟!
لابد أن يظهر أثره على الإنسان كذلك في أخلاقه وسلوكه، ولذلك شخصية طالب العلم يا إخوان مهمة جدًّا، نجد في الواقع طلاب علم ربما علماء كبار لكن بسبب مشكلة في شخصيته يحرم الناس من علمه، ولا يستفيد الناس من علمه، ربما سوء خلق، ربما تكون هذا المشكلة سوء خلق، والناس بطبيعتها تنفر من سيء الأخلاق، الدليل لهذا قول الله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] وهو من؟! رسول الله المؤيد بالوحي، وهم من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هذه طبيعة البشر وهم يعلمون أن ما يقوله حق، بل وحي، ومع ذلك: لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ قد يكون لدى طالب العلم مشكلة في الأخلاق، فهذا يترتب عليه أنهُ لا يستفاد من علمه؛ لأن الناس بطبيعتها تنفر منه، ولا تقبل منه.
قد يكون طالب العلم عندهُ شيءٌ من الاندفاع، أو عندهُ شيءٌ من التسامح والتساهل، كلا الطرفين مذموم التساهل أو الاندفاع والغلو، كلا الطرفين مذموم، ولذلك تجد أن طالب العلم الذي ينفع الله تعالى بهِ هو من كانت شخصيته معتدلة، تكون شخصيتهُ معتدلة، يتبع الدليل والكتاب والسنة من غير غلو، ومن غير تساهل، فلا بد أن يظهر أثر طالب العلم على شخصيته.
الدعوة إلى الله تعالى
ومن آداب طالب العلم: أن يدعو إلى الله ، فيكون لهذا العلم أثر عليه، كم أعداد طلاب العلم الذين تخرجهم هذه الكلية كلية الشريعة فقط، وما أثرهم في المجتمع، وعندنا الآن في المملكة ثنتا عشرة كلية شريعة الآن هذا غير كلية أُصول الدين، وغير الدراسات الإسلامية، وغير كليات الشرعية كثيرة، كم تخرج؟ لا أقول كل فصل كم تخرج من آلاف الطلاب، لكن ما أثرهم في المجتمع؟ لا بد أن يظهر أثر طالب العلم يظهر أثره في المجتمع.
أولًا: في أسرته الصغيرة، وثانيًا: بين أقاربه وزملائه وجيرانه، يفترض أن طالب العلم في الحي يُعرف، ويُقصد بالسؤال والاستفسار، يكون هو المرجع فيما يتعلق بأمور الحي، يصدر الناس عن رأيه، فيا إخوان! العلماء وطلاب العلم هم قادة المجتمع، هم قادة المجتمع، يعني لا يجعل العامة هم الذين يقودون المجتمع؛ لأن العامي ما يدرك يعني أبعاد الأمور، فـطالب العلم يفترض أنه يفرض نفسه في الحي في المسجد الذي يصلي فيه، يأتي مبكرًا بعدما يؤذن المؤذن، وتكون علاقته طيبة بالجيران، حيث يُحبه جيرانه، ويألفونه، ويكون له أثر؛ كلمة تُلقيها، توجيهات يكون لها أثر في تقوية العلاقات الاجتماعية لأهل الحي، يقول مثلًا يقترح على الإمام المؤذن نجعل دورية لأهل الحي، يُلقي كلمة فيها، يكون محبوبًا من أهل الحي، فيكون له أثر كبير على أهل الحي، وهكذا بالنسبة لأقاربه، وهكذا بالنسبة لزملائه، فلا بد أن يظهر أثر طالب العلم أن يظهر أثرهُ في الدعوة إلى الله .
وبعض طلاب العلم عنده مشكلة أيضًا يقول: من أنا؟ من أنا حتى أدعو إلى الله؟ من أنا حتى ألقي درسًا؟ من أنا؟ نقول هذا التواضع المبالغ فيه هذا من الشيطان، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: بلغوا عني ولو آية، المهم أن تكون دعوتك إلى الله على بصيرة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]، وضابط البصيرة هنا: أن يغلب على ظنك أن ما تدعو إليه أنهُ من شرع الله.
وطالب العلم يدرك أمورًا كثيرة، فعندما تدعو إلى الله فبالإمكان أن تدعو إلى الله في أمور كثيرة في مسائل كثيرة؛ في حث مثلًا على الصلاة، في حث الناس على مثلاً صلة الرحم، في حث الناس على أمور الخير، حث الناس.. يعني مجالات الدعوة كثيرة جدًّا، لكن المهم هو وجود الهمة لدى طالب العلم.
طرق تحصيل العلم
ولطلب العلم طريقان كما ذكر ذلك الشاطبي:
- الطريق الأول: أخذ العلم عن أهله.
- الطريق الثاني: الاجتهاد الشخصي.
أما الطريق الأول وهو أخذ العلم عن أهله، ذكر الشاطبي أن هذا أنفع الطريقين، وأنه المأثور عن أكثر السلف، أخذ العلم عن أهله، وهي أيضًا تختصر لك الوقت والجهد؛ لأن هذا العالم مثلًا الذي يُلقي درسًا، ربما أنه يُلقي هذه الدروس من ثلاثين عامًا أربعين عامًا أو أكثر، أو أقل، يعطيك خلاصة ما عنده، أنت تأتي وتجد خلاصة ما عنده، ثم أيضًا ذكر الشاطبي: أن من يحرص على دروس العلم أنهُ يكون هناك خاصية لا يشعر بها، حيث إنه مع إدمانه لحضور دروس العلم يجد من نفسه حصول القوة العلمية.
والطريق الثاني: الاجتهاد الشخصي، وهذا لا بد منه الحفظ والقراءة والاطلاع، وكلية الشريعة هنا يا إخوان فيها علوم عظيمة، وفيها خير كثير، بعض الكسالى يقولون: أن دروس الكلية لا بركة فيها، ليس فيها بركة، هذه حجة الكسالى، وإلا فيها علم عظيم، وفيها بركة، وفيها خير كثير، حتى لو حضرت دروس المساجد، ربما تجد شيخًا يلقي لك درسًا في الفقه، أو يلقي لك درسًا في الحديث، أو درسًا في العقيدة، لكن أين تجد الشيخ الذي يلقي لك درسًا في جميع العلوم، هذه كلها في العقيدة، وفي الفقه، وفي الحديث، وفي المصطلح، وفي الأصول، وفي النحو، وفي جميع العلوم، الآن كلية الشريعة خمسة وعشرون ساعة في الأسبوع تتنقلون ما بين علوم كثيرة، ويدرسكم فيها أساتذة يحملون أعلى مؤهل، فينبغي الإفادة من الدروس في الكلية.
صحيح أحيانًا قد يأتي أستاذ ليس على المستوى المؤمل والمطلوب، هذا لا بد منه، طبيعي، لكن في الجملة الأساتذة متخصصون، ويحملون أعلى مؤهل، ويتنقلون بكم بين هذه العلوم، فالذي يحسن الإفادة من دروس الكلية سيستفيد فائدة عظيمة جدًّا، وهي تعطيك مفاتيح العلوم، وينبغي عليك أن تستكمل، والأحسن أن تجمع بين الأمرين: بين دروس الكلية، وبين دروس المساجد، تحرص على دروس الكلية هنا محاضرات، وتحرص كذلك يكون لك درسان مثلًا في الأسبوع تحافظ عليهما في المساجد، وتجمع بين هذا وهذا.
لكنني أقول: إن محاضرات الكلية فيها نفعٌ عظيم، وهذه الكلية ولله الحمد مباركة خرجت العلماء، والقضاة، وطلاب العلم، ودعاة الله ، ولله الحمد، يعني هذه الكلية لا زالت محتفظة بقوتها العلمية، وأقول ولست مبالغًا في هذا تعتبر من أقوى الكليات ليس في المملكة، بل في العالم الإسلامي كله، ما في كلية الآن عدد ساعاتها أكثر من مائتين ساعة في العلوم الشرعية إلا هذه الكلية، حتى الكليات الشرعية الأخرى ما تصل إلى ذلك ولا حتى مقاربة، يعني كلية الشريعة في القصيم مائة وأربعين ساعة، لكن هنا أكثر من مائتين.
وهناك خطة جديدة للكلية ستطبق للفصل الدراسي القادم، وقد حرص أساتذة الكلية على عدم المساس بالساعات ولله الحمد، تحقق هذا، لكن ستكون خطة جديدة، وأقوى من الخطة السابقة، يعني ستضاف مثلًا فقه النوازل سيكون مقررًا، فقه الأطعمة سيكون مقررًا، فقه القضاء سيضاف أيضًا، بعض العلوم مساندة، فقه الأنظمة تضاف علوم أخرى مفيدة لطالب مقاصد الشريعة، يعني الفقه نفسه بدل ما هو خمس ساعات سيقسم فقه العبادات، فقه المعاملات… لكنها في الأخير أربعون ساعة، يعني لن يمس بالساعات، هذه الكلية فيها خير عظيم، فيها نفع كبير، احرصوا يا إخوان على الإفادة من المحاضرات، وكذلك دروس المساجد أيضًا، دروس المساجد هذه مهمة يا إخوة، ما تكفيك دروس الكلية، فيكون لك على الأقل درس أو درسان في الأسبوع تحافظ عليهما، وتحرص على الإفادة منهما.
الارتباط بالعلماء والرجوع إليهم
وما بقي إلا القليل أقول يا إخوان أيضًا من أبرز آداب طالب العلم: الارتباط بالعلماء، من عُرف بالعلم والخير والصلاح الارتباط بهم مهم جدًّا، يعني لا يصدر الإنسان عن رأيه، وتجد بعض طلاب العلم على نقيضين، يعني على طرفين طرف لا يُلقي للعلماء رأسًا، يصدر من رأسه، ويفتح الكتب، ويقرأ، وكما يقول يقدح من رأسه، هذا على خطر عظيم، أن تزل به القدم على خطر، وكما ترون للآن الصراعات الفكرية في العالم الإسلامي هي نتاج هذا التوجه؛ لأن الإنسان مهما كان يبقى بشر، يا إخوان الإنسان لا يزكي نفسه، تصورك للحياة الآن هل هو مثل تصورك للحياة وللأمور قبل عشر سنوات؟
إذن: تصورك بعد عشر سنوات سيختلف قطعًا عن تصورك للحياة الآن، الإنسان بشر، الإنسان يحترم آراء غيره من أهل العلم.
والطرف الثاني أيضًا طرف يلغي شخصيته، ما له أي شخصية، هذا أيضًا غلط، ينبغي لطالب العلم أن يكون له شخصية، يعني في مثلًا نظر في الأقوال، وفي الأدلة، مع التواضع، لكن أيضًا لا يلغي شخصيته تمامًا، لكن المهم هو الارتباط بأهل العلم، ولذلك تجد من يقع في الفتنة: فتنة التكفير، أو فتنة الإرجاء، أو في فتنة من الفتن الموجودة الآن التي تعجُ بها الساحة، في العالم الإسلامي، تجد أن الصفة المشتركة لهم عدم ارتباطهم بالعلماء، وتجد أن هناك من يأتيهم، ويزهدهم في العلماء، وهذا من قديم الزمان، يعني لما حصلت فتنة الخوارج الذين قتلوا علي بن أبي طالب ، وأنصح يا إخوان بقراءة هذا التاريخ؛ لأن الآن ما أشبه الليلة بالبارحة الذي قتل علي بن أبي طالب كان عابدًا، يقولون يُرى على وجهه أثر السجود من كثرة السجود والعبادة، أثر السجود على وجهه، لما قتل علي بن أبي طالب ماذا يقول؟ يقول: هذا أرجى عمل أتقرب بهِ إلى الله تعالى.
السؤال الكبير هل كان العلماء موجودين، علماء الصحابة هل كانوا موجودين؟
كانوا موجودين كبار علماء الصحابة، ابن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس رضي الله عنهم جميعًا، وكبار العلماء والصحابة كانوا موجودين، أين هؤلاء عنهم؟ أسكتوا، أتى عبدالله بن سبأ وبث هذه الفتنة، وأسقط هؤلاء العلماء في نفوس العامة، قال: هؤلاء علماء سلطان، هؤلاء يُداهنون عثمان، يداهنون علي، هؤلاء… فـلما أسقطت قيمة العلماء في نفوس العامة أصبحوا لا يقبلون منهم، وحصلت الفتنة، فمسألة الإسقاط هذه ليست سهلة، أنك تسقط أي أحد؛ لكن أثرها كبير ومدمر.
ولذلك ينبغي يا إخوان أن نتواصى فيما بيننا على احترام أهل العلم، حتى لو أخطأ عالم من العلماء ينبغي أن يُعتذر عنه، وأن ينظر للعلم الذي يحملهُ؛ لأن تعظيمك للعالم هو تعظيمٌ لشريعة الله .
وينبغي أيضاً يا إخوان أن الإنسان إذا أشكلت عليه مسألة أن يرجع لأهل العلم، يرجع لمن يكشفها، ويحرص على طلب الحق، يعني أحد الناس كان بيني وبينه نقاش في مسألة الولاء والبراء، يعني كان عنده إشكالات فيها، فقلت من فعل ذلك تقيةً هل ترى من هذا سوء، قال: لا، ما يسوء، وإن أعطيتك دليل من القرآن ماذا تقول؟ قال: ما في، قرأت عليه قول الله تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28] أكمل الآية: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً، قال: ما دريت عن الآية، فأحيانًا قد يقع الإنسان: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً أباح الله تعالى ذلك على سبيل التقية، اتقاء شرهم، وحفظ بيضة المسلمين، إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً، هذه… ما خطر ببالي، ولا عمري سمعتها، ولا قرأت عنها، هذه في القرآن آية من كتاب الله هذه متى تأتي في المناقشة والحوار والمباحثة.
لكن مهم أن يكون عند الإنسان صدق مع الله في طلب الحق، يكون فيه صدق، ولذلك إذا كان الإنسان صادقًا في تدينه، صادقًا مع الله ، ما إن تعرض له فتنة شبهة أو شهوة إلا وتكشف له بإذن الله تعالى؛ كما حصل ليوسف عليه السلام في فتنة الشهوة، يوسف عليه السلام اجتمعت بحقه جميع مقومات الإغراء والإثارة جميعها في أعلى درجاتها، يوسف كان استُرق، رقيق، والرقيق لا يستنكر مما يستنكر منه الحر، أيضًا التي دعتهُ سيدته دعتهُ للفاحشة، السيدة أيضًا كانت جميلة من أجمل النساء، وفوق ذلك تزينت له وتهيأت له، وغلقت الأبواب، وهي التي دعتهُ وهو شاب في منتهى القوة والرجولة، فـاجتمعت له جميعُ مقومات الإغراء والإثارة، لكن الله تعالى عصمه، لماذا؟ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] صدقه مع الله تعالى صرف الله عنه السوء والفحشاء.
وأيضًا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: احفظ الله يحفظك [4]، يعني إذا صدقت مع الله تعالى حفظت الله تعالى بالصدق مع الله واتباع أوامره، واجتناب نواهيه، يحفظك الله تعالى، هل يحفظك في أمور الدين أو الدنيا أو هما معًا؟ هما معًا، لكن حفظ الدين أشرف من حفظ الدنيا، ولذلك تجد الذي يقع في فتنة شبهة أو شهوة لو تأملت أموره تجد أن عنده خللًا في تدينه، عنده مشكلة، وإلا لو كان عنده الصدق مع الله تعالى ما وقع في هذه الفتنة، يقيض الله تعالى لهُ من يكشفها.
مؤلفات في آداب طلب العلم
فأقول يا إخوان: الكلام عن آداب طالب العلم يطول، وأنا أنصح بقراءة الكتب في هذا، وهي الكتب التي صنفها العلماء، ومن أفضلها وأمتعها:
شرح ابن عثيمين على حلية طالب العلم، وهذا لاحظ تواضع الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله شرحَ كتابًا معاصرًا لعالم ربما يُقال: إنه من طلابه، أو تعرفون أن الشيخ بكر والشيخ محمد بن عثيمين تعاصرا، والشيخ ابن عثيمين إمام من الأئمة، والشيخ بكر كذلك عالمٌ كبير، لكن من تواضع الشيخ محمد أنهُ شرح هذا الكتاب شرحًا قيمًا، فـأنا أنصح بقراءة هذا الكتاب، وكذلك أيضًا كتبه التي صنفت في آداب العالم والمتعلم، وآداب طالب العلم، الكتب كثيرة.
أيضًا مقدمة المجموع للنووي أيضًا تكلم فيها عن فضل العلم، وآداب طالب العلم، وأنصح بـالقراءة في آداب طالب العلم، وأيضًا تطبيق أن ينتقل طالب العلم من العلم إلى التطبيق، وأن يضرع إلى الله أن يرزقه الفقه في الدين، والعلم النافع، فيسأل الله تعالى ذلك، ولهذا كان العلماء يضرعون ويلهجون إلى الله تعالى: يا معلم آدم علمني، يا مفهم سليمان فهمني، يسأل الله تعالى أن يرزقه علمًا ينفعهُ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتعوذ بالله من علم لا ينفع، فـأنصح بالحرص على هذه المعاني؛ على آداب طالب العلم والتفقه فيها، من حين لآخر.
وأسأل الله للجميع التوفيق لما يحب ويرضى والفقه في الدين، والعلم النافع، والعمل الصالح.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.