عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعُنا وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
أيها الإخوة: هذا مجلس من مجالس العلم، ومجلس من مجالس الذكر.
فضل مجالس الذكر
مجالس الذكر من المجالس التي يذكرها الله تعالى فيمن عنده؛ كما جاء ذلك في الحديث المتفق على صحته عن النبي : إن لله ملائكة سيارة يلتمسون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكر قالوا: هلموا إلى حاجتكم فيسألهم الله وهو أعلم بهم يسألهم أسئلة، ثم يقول الله تعالى: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول له الملائكة: إن فيهم فلان ليس منهم ولكنه أتى لحاجة فاستمع، أتى لحاجة فجلس معهم واستمع، فيقول الله: هم القوم لا يشقى بهم جليس [1].
ومجالس الذكر تشتمل المجالس التي يذكر فيها الله من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، كما هو منصوص عليه في هذا الحديث.
وأيضًا تشتمل كذلك على مجالس العلم؛ كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر وغيره، مجالس العلم داخله في مجالس الذكر كمثلُ هذه المجالس، وهذه الدروس لو لم يستفد المسلم منها إلا هذا الشرف، وهذا الفضل -أن الملائكة تحف الجالسين ويذكرهم الله فيمن عنده ويقول الله: أشهدكم أني قد غفرت لكم-، ويؤجر الإنسان ويثاب بحضوره لمثل هذه المجالس.
فضيلة العلم الشرعي
ومن علامة إرادة الله بالعبد الخير: أن يرزقه الفقه في دين الله؛ كما قال النبي : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين [2]، متفق عليه
فإذا وجد الإنسان من نفسه إقبالًا على التفقه في دين الله، فهذه أمارة وعلامة على أنه أُريد به الخير إن شاء الله.
وطلب العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته؛ كما قال الإمام أحمد رحمه الله: “طلب العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته”.
والمسلم مهما كان عليه من القوة في العبادة لا يمكن أن يعبد الله كما أمر الله وكما يحب الله إلا عن طريق العلم، ولذلك تجد بعض العُباد يجتهد في العبادة لكنه يجتهد في أمور ويتساهل في أمور بينما العالم يعرف مواقع محاب الله فيجتهد فيها، ويغتنم الفرص الفاضلة.
ويشبه ابن القيم رحمه الله ذلك يقول: “حتى في أمور الدنيا -في أرباب المهن في الدنيا- تجد أن من يسمى بالمعلم- صاحب الصنعة- أن عمله أقل وأجره أكثر، تجد هذا المعلم معه عمالة -معه عمال- وهو معلم مشرف عليهم وهو أقلهم تعبًا، وأكثرهم أجرًا، لماذا؟ لأنه أحذقهم وأعرفهم بهذه الصنعة هكذا أيضًا بالنسبة للعلم الشرعي”.
ولذلك فإننا عندما نقرأ سير من سبقنا عندما نقرأ في كتب التراجم والسير هل نقرأ سير التُّجار؟ أو سير الأطباء أو سير المهندسين أو قد يذكر بعضهم لكن على سبيل القلة والندرة، لكن الأعم الأغلب عندما نقرأ سير من سبق سير علماء الشريعة، مثلاً: الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في أي شيء برزوا؟ في علوم الشريعة، وهكذا أيضًا غيرهم من العلماء، فانظر كيف أن علم الشريعة قد خلَّد ذكرهم.
أين تجَّار الدنيا؟ أين الأثرياء؟ أين من برعوا في علوم الدنيا؟ لا نجد لهم ذكرًا إلا قليل خلاف علماء الشريعة ومن سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة [3]، كما أخبر بذلك النبي ولم يأمر الله تعالى نبيه طلب الزيادة من شيء إلا العلم، قال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].
ولكن العلم إذا أُطلق في الكتاب والسنة يطلق على ماذا؟ على علم الشريعة. لا يراد به أي علم آخر غير علم الشريعة.
وبذلك نعرف خطأ بعض الناس لما يريد أن يستدل على فضل علوم الدنيا بنصوص الواردة في فضل العلم في القرآن والسنة هذا غير صحيح.
العلم الوارد في الكتاب والسنة المراد به علم الشريعة وهو العلم الذي يورث، الذي خلفه الأنبياء، الأنبياء لم يخلفوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما خلفوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر، ونحن نعرف أن الأنبياء عليهم السلام لم يورثوا علوم الدنيا إنما ورثوا علوم الشريعة.
توجيهات لطلبة العلم
إخلاص النية
ينبغي للمسلم: أن يحرص على طلب العلم، وأن يجتهد في تحصيله، وأن يخلص نيته لله ، فإن طلب العلم ما لم يقترن بإخلاص النية لله سبحانه فإنه يكون وبالاً على صاحبه يوم القيامة، قد أخبر النبي بأن أحد الذين تسعر بهم النار يوم القيامة: رجل تعلم العلم وعلمه الناس، وقرأ القرآن لكن لأجل أن يقال هو عالم، ولأجل أن يقال هو قارئ -يعني رياءً وسمعة-، فكان علمه هذا وبالاً عليه يوم القيامة؛ ومن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة [4].
العمل بمقتضى العلم
وأيضًا ينبغي أن يتبع هذا العلمَ عملٌ يظهر أثره على صاحبه، طالب العلم ليس كغيره ينبغي أن يظهر أثر العلم الشرعي عليه؛ في تعبده، في سلوكه، في سمْته، في منطقه، في تعاملاته مع الآخرين. أما إذا كان طالب علم وغيره سواء فما أثر هذا العلم على صاحبه. إذا كان طالب علم مثلًا تفوته الصلاة، لا يصلي مع الجماعة في المسجد مثلًا، أو أنه عاق لوالديه أو قاطع لرحمه أو أنه سيئ العشرة مع أهله في البيت أو أنه سيء التعامل مع الآخرين؛ فما الفائدة من هذا العلم؟
لابد أن يظهر أثره على صاحبه، وأن يعمل بما تعلم فالعلم يهتف بالعمل؛ وإلا فمجرد أن الإنسان فقط تعلم من غير أن يظهر أثره عليه يبقى مثل الكتاب، والكتب كثيرة الآن يعني يقال ليس لها أثر، لم ينتفع به صاحبه في سمته وسلوكه وتعاملاته وتعبده، وإذا كان كذلك فإن هذا لا يظهر له أثر حتى في الآخرين، في الدعوة، في نشر العلم.
إذن، لا بد من أن يكون لهذا العلم أثر على صاحبه، وألا يقتصر على هذا، بل يكون له أثر حتى في الدعوة إلى الله تعالى، وفي نشر العلم، وفي الأمر بالمعروف، وفي النهي عن المنكر، وألا يقتصر هذا العلم على صاحبه، بل لا بد أن يتعدى وأن يكون له أثر في أسرته، وبين جيرانه، في مجتمعه، في الدعوة إلى الله ، في نشر العلم الصحيح، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وما أكثر طلاب العلم اليوم لكن انظروا إلى أثرهم في المجتمع وأثرهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذا الذي يقع في منكر أو معصية لو أُنكر عليه من أشخاص، أقول من خمسة أشخاص فقط لكن أتوه في أوقات متفاوتة لا شك أن هذا سيكون له أثر عليه. عندما صاحب هذا المنكر يأتي إنسان ينكر عليه، ثم يأتي في اليوم الثاني شخص آخر ينكر عليه، في اليوم الثالث شخص آخر ينكر عليه، في اليوم الرابع في اليوم الخامس… لا شك أن هذا سيكون له أثر كبير عليه.
وهذه هي الخصيصة التي اختصت بها هذه الأمة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
حسن الخلق
وينبغي أيضًا أيها الإخوة أن يظهر أثر العلم الشرعي على طالب العلم في حسن التعامل، حسن الأخلاق.
وهذا وإن كان يدخل فيما مضى لكنني أفردته بالذكر لأهميته وإلا هو داخل في العمل بالعلم؛ وذلك لأننا نجد أزمة أخلاق بين بعض طلاب العلم، أزمة أخلاق عندما ترى بعض التعاملات تعجب، أين أثر العلم الشرعي؟
تجد بعض الناس يتعامل مع إخوانه المؤمنين وكأنهم ليسوا بإخوان له، لا يتعامل بأخلاق المؤمنين.
يتعامل بسوء الظن، يتعامل بغلظة، ويتعامل بالقذف بما هم منه براء، بسوء الظن يعني بأمور ليست هي من أخلاق المؤمنين.
إذن، لا بد أن تشيع أخلاق المؤمنين في المجتمع وخاصة بين طلاب العلم.
طالب العلم عليه مسؤولية فلا يليق به أن يتعامل بسوء خلق، أو أن يتعامل مع الآخرين بسوء ظن، أو أن تصدر منه كلمات غير لائقة، أو إلقاء تُهم جُزافًا على الناس، ونحو ذلك، ولهذا تجد أن من ابتلي بهذا -ابتلي بسوء التعامل- وهمه تصنيف الناس وإلقاء التهم جزافًا على فلان وفلان؛ تجد أن أمثال هؤلاء تنزع البركة من علمهم، فلا يكون لعلمهم نور، ولا أثر في المجتمع، ولا يجعل الله لهم وُدًّا ولا قبولًا، الله يقول: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96].
فينبغي أن يحرص طالب العلم على حسن الخلق، فإن حسن الخلق منزلته علِيَّة، وهو من أثقل ما يكون في ميزان العبد يوم القيامة، وسلامة الصدر ترفع صاحبها درجات عظيمة عند الله ، وهي من صفات المؤمنين الصادقين، ولذلك لما ذكر الله المهاجرين والأنصار قال بعدهم: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، أي: من صفات المؤمنين الصادقين، العلماء الربانيين أنهم لا يحملون الغل في صدورهم على إخوانهم المؤمنين، وإنما يحملون الرحمة والمحبة والمودة، ويخفضون لهم الجناح.
الصبر
وأختم هذه المقدمة بأن أقول إن طلب العلم الشرعي يحتاج إلى صبر، وبدون الصبر لا يستطيع طالب العلم أن يحصل علمًا كثيرًا، لابد من الصبر في تحصيله.
قال يحيى بن أبي كثير: “لا يستطاع العلم براحة الجسم” [5]، وهذا الأثر عن يحيى بن أبي كثير ذكره مسلم في صحيحه في باب مواقيت الصلاة، وتعجب بعض الشُّراح ما مناسبة ذكره في باب مواقيت الصلاة، قالوا: لعلّ الإمام مسلمًا تعب في جمع أحاديث وطرق هذه الأحاديث -أحاديث مواقيت الصلاة- ثم أتى بهذا الأثر: “لا يستطاع العلم براحة الجسم”.
الرحلة في طلب العلم
لذلك نجد أن السلف الصالح كانوا يرتحلون في سبيل طلب العلم، والرحلة في طلب العلم معروفة صُنف فيها مصنفات، بل لا تكاد تجد عالمًا بارزًا من علماء السابقين إلا وقد ارتحل، العجيب أنهم يرتحلون أحيانًا لسماع أحاديث. بل وجد من ارتحل لأجل سماع حديث واحد فقط مثل جابر بن عبدالله الأنصاري رحل من المدينة إلى الشام من أجل سماع حديث واحد فقط، أشار للقصة البخاري في صحيحه. حديث واحد فقط بلغه أنه عند عبدالله بن أنيس رضي الله عنه حديثٌ… أن عند عبدالله بن أنيس حديثًا سمعه من النبي فركب بعيره وحده لم يكن معه أحد -لم يتيسر أن يرافقه أحد-، ومع ذلك لم يثنه هذا عن طلب العلم، لم يركب طائرة أو سيارة- ركب بعيره وقطع هذه الصحاري والجبال والوهاد، مكث في هذه الرحلة شهرين كاملين: شهرًا في الذهاب وشهرًا في الإياب، سمع منه حديثًا واحدًا فقط؛ حديث: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلًا إلى آخر الحديث، وقال جابر رضي الله عنه: بلغني أن عنده حديثًا عن النبي فخشيت أن أموت أو يموت ولم أسمعه.
انظر إلى الهمة العالية رحلة مدة شهرين مع ما يتبعها من المصاعب والمتاعب، وحده لأجل سماع حديث واحد فقط.
أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أيضًا ارتحل من المدينة إلى مصر من أجل سماع حديث واحد فقط، فما بالنا نسمع أن بعض طلاب العلم عندما يقال: أن هناك درسًا أو دورةً علمية؟ يقول: المسجد بعيد! أو المكان بعيد! مع أنه يأتي بالسيارة.
فينبغي أن يكون عند طالب العلم همة في طلب العلم، أن يكون لديه صبرٌ على التحصيل، على الطلب، وإلا بدون الصبر لا يستطيع أن يحصل علمًا.
والعلم أيها الإخوة لا يأتي الإنسانَ دفعة واحدة، وإنما يأتيه شيئًا فشيئًا.
تحصيل الملَكة
وأهم شيء ينبغي أن يسعى إليه طالب العلم هو أن يسعى إلى تحصيل الملكة وإلا فإنه بدون أن يحصّل هذه الملكة لا يستفيد كثيرًا.
لو قيل لك إن فلانًا يحفظ عشرات الكتب في الطب وعنده ثقافة طبية عالية جدًّا لكنه ليس طبيبًا، وفلان ما يحفظ ولا كتاب في الطب، لكنه طبيب فعندما تحتاج للعلاج لا تذهب لذلك المثقف الذي يحفظ عشرات الكتب في الطب، وإنما تذهب للطبيب، لماذا؟
لأن الطبيب عنده ملكة في الطب بخلاف ذلك المثقف الذي عنده ثقافة واسعة ربما عنده حفظ أيضًا ما تثق فيه.
هكذا أيضًا بالنسبة لطلب العلم الشرعي فمجرد الحفظ فقط ومجرد ثقافة أو سعة المعلومات من غير تحصيل الملكة هذه لا تفيد كثيرًا، المهم أن يسعى طالب العلم لتحصيل الملكة لديه حيث يكون لديه حسن الفهم وحسن التصور والقدرة على التعامل مع النوازل ومع المسائل؛ فهذا هو الذي يفيد طالب العلم.
وينبغي عندما يحضر طالب العلم مثل هذه الدورات ومثل هذه الدروس أن يحسن الإفادة منها.
آلية ضبط العلم
أقول هذا لأن بعض طلاب العلم ربما له سنوات طويلة وهو يحضر دروس العلم ومجالس العلم، لكن لو تأمل في المحصلة النهائية وجد أنها ضعيفة؛ السبب أن آلية التحصيل عنده غير دقيقة، آلية التحصيل عنده فيها إشكال. ونحن الآن في زمن ضعفت فيه الذاكرة لدى كثير من الناس وهي الآن في ضعف بسبب وسائل التقنية الحديثة؛ لأن الذاكرة إنما تقوى بالتمرين وبالتدريب وتضعف بقلة التمرين وكما ترون الآن اعتماد كثير من الناس على وسائل التقنية الحديثة. كان الناس في زمن ليس ببعيد يحفظون أرقام أصدقائهم وأقاربهم. الآن أصبحوا يعتمدون على تخزينها في ذاكرة الهاتف ولا يحفظونها بل بعض الناس حتى ما يحفظ رقم جواله؛ فإذًا مع هذا -يعني مع الاعتماد على وسائل التقنية الحديثة- يقل تمرين الذاكرة وتضعف؛ فلا بد إذن من أن يكون لدى طالب العلم الآلية المناسبة للضبط، وذلك بإحدى طريقتين:
- الطريقة الأولى: إما بالكتابة، بأن يكتب ويلخص أبرز ما سمع في دروس العلم ومجالس العلم.
- الطريقة الثانية: بالتسجيل، يسجل مثل هذه الدروس ثم يستمع لها بعد ذلك، لكن بدون هذا الضبط سيجد بعد شهر ما سمع في هذه الدورة نسيه كله أو أكثره، لا بد إذن من المراجعة والمعاهدة حتى ترسخ المعلومات في الذهن، فإما أن يكون ذلك بالكتابة إما يكون ذلك بالتسجيل، ويستمع لهذا المسجل.
ولعلي أكتفي بهذا القدر في هذه المقدمة، وإن شاء الله ستكون الدروس.